عناصر الخطبة
1/ العبودية أعظم ما يُصرف لله تعالى 2/ صور الاستعباد المذموم 3/ وسائل دفع الاستعباداهداف الخطبة
اقتباس
اعلموا أن استعباد البدن أهون من استعباد القلب؛ إذ إن هذا ليس من اختيار العبد، وربما كان ابتلاءً من الله لعبده المؤمن وتمحيصًا له، وفترته قد لا تستغرق وقتًا طويلاً.. نعم، ربما سلبت حريته البدنية، ربما سلبت كرامته، وربما سلب كل أمر ظاهري منه، ولكنه لم يُسلب قلبه، ولم يسلب عقله وتفكيره، فهو يعيش الحرية داخليًّا، ويفقدها خارجيًّا ..
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: الاستعباد: أمر تكرهه النفوس الأبية، ولا يمكن لعاقل رشيد أن يرضى بالاستعباد إلاّ إذا استعبد في بعض جوانب حياته وهو لا يدري، فعندما يكون هناك من يقيد حركة المرء بقيود الاستعباد، وعندما يضيق الحصار على الحرية، يصبح للحياة آنذاك وجه آخر يعجز عن وصفه من أدرك وقائعها وعاش لحظاتها، إنها العبودية الشنعاء، أي العبودية لغير الله تعالى، التي تكبل بقيودها الإنسان لتجعله عبدًا ذليلاً، فتحرمه الانطلاق الحر على وجه هذه البسيطة؛ ليتفاعل مع مكنوناتها وينتج ما يخدم أمته ودينه.
وذل الاستعباد لم يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، ولم يشعر بشناعته إلا من رآه بأم عينيه، فهو داء يشل حركة المرء الروحية، ويقعد العامل عن العمل إن استمر في ذلك، فلن يُزال الاستعباد حتى يتخلص منه المرء.
وعندما أتى ذاك القبطي إلى عمر الفاروق يشتكي الظلم، أدرك عمر -رضي الله عنه- أن الاستعباد لن يصلح الدولة الإسلامية، ولن يرفع شأنها وأمجادها، بل إن في حصول ذلك مضرة عظيمة على جميع أفراد الدولة الاسلامية ومصالحهم، فما كان منه إلا أن قام باستئصال ذلك فعليًّا ليرسخ مبدأ: أن ليس لأحد حق الاستعباد، وإنْ ملك ما ملك، وأطلق كلمته العظيمة -مخاطبًا عمرو بن العاص-: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".
علمتَ أن وراء الضعف مقدرة *** وأن للحق لا للقوة الغلبا
أيها المسلمون: العبودية لا تكون إلا لله؛ قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
والعبودية من أعظم ما يُصرَف لله؛ إذ إنها لا تكون إلا لله وحده، فإنه –سبحانه- لم يخلق البشر والخلق أجمعين إلا لعبادته والإذعان بالعبودية له، والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، فيتوجه المرء بحسه وإحساسه نحو خالقه ورازقه، فيدعوه ويتوسل إليه، ويلجأ ويلتجئ إليه؛ لأنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولأن العبد يحتاج إلى الله في كل حين.
والعبودية هي روح العبد الحقيقية، فلا تُصرف إلا لله؛ لأن في صرفها لغير الله حصول مضرة وفساد.
أيها المسلمون: للاستبعاد صور عديدة، أذكر بعضها:
الاستعباد الباطني من الناحية القلبية: وهذا من أخطر أنواع الاستعباد: أن يُستعبد قلب المرء، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي -هو الملك- رقيقًا مستعبدًا متيمًا لغير الله، فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استَعبد القلب.
خذ على سبيل المثال: العشق والتعلق: فإنه من أخطر الأمراض على العبد، ومن أشدها عبودية، فهو عدو الصحة، وشلل الدعوة، وتوقف الحزم، وتبلد العقل، وطريق الشيطان، فالعاشق لا يجد لذكر الله محلاً بقلبه؛ إذ إنه أصبح متعلقًا بغيره، ولا تجد لبصيرة قلبه مسلكًا؛ لأن الهوى قد غلّفها بظلامه، فهو يعيش -وإن رأيته حرًّا- أسير شهوته وقيد عشقه، فتراه عبدًا ذليلاً لمعشوقه، لا يكاد يقاوم لهفة نفسه عند ذكره، فهو مستَعبدٌ داخليًّا مُذللٌ خارجيًا. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "عشاق الصور من أعظم الناس عذابًا، وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقًا بها مستعبَدًا لها اجتمعت له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد".
العشق مشغلة عن كل صالحة *** وسكرة العشق تنفي لذة الوسنِ
صورة أخرى من صور الاستعباد: حب الدنيا والاغترار بها: لم يدخل حب الدنيا في قلب امرئ إلا سلبه لبّه، وأفقده بذله للآخرة، فهي دار غرور وبلاء، وفتنة وشقاء، فيبدأ المرء بالتنازلات السريعة عن مبادئه وعن تقاليده حتى يبلغ ذلك دينه -والعياذ بالله-، وأعظم الخلق غرورًا من اغتر بالدنيا وعاجِلها، فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة، وكما قيل: الدنيا مال من لا مال له، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له.
ولا يمكن لعاقل لبيب أن ينخدع بدار زوال عمّا قليل فانية، فعقله الحكيم يبصِّره بعواقب الأمور، وضميره المتيقظ يوقظه من غفلة هذه الدنيا، ويبين لنا الرب -جل وعلا- مَثَل الحياة الدنيا فيقول -عز وجل-: (إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس: 24].
ولأن هذه الدنيا دار غرور، ولأنها دار التنافس الدنيوي الدنيء ذي النهاية المعروفة، فقد حذرنا منها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، بل كانت من الأمور التي يخاف منها على أمته، ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يومًا، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضيَ الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض-، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها".
ورحم الله الإمام الشافعي حين قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتهـا *** وسيق إليَّ عذبها وعذابـها
فما هي إلا جيفة مستحيلـة *** عليها كلاب همهن اجتذابـها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابـها
أيها المسلمون: ومن صور الاستعباد التي يقع بها الناس: حب المال والجاه: حب المال وحب الجاه من الأمور التي تستعبد قلب المرء، فهي كالغشاوة التي تحجب الرؤية المبصرة، فتراه لاهثًا خلفها، مجتهدًا في الحصول عليها.
إن اللاهث خلف المال والجاه يَعمَى بصره، فيقطع الأرحام من أجل المال والجاه، ويهتك الأرحام من أجل المال والجاه، ويتعامل بالمعاملات الربوية من أجل المال والجاه. روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ذمّ الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل -أو فوق- إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وما من شك في أن حب المال عندما يطغى على قلب المرء يصبح أسيره، فلا يرى معروفًا ولا منكرًا، فتصبح كل الأمور لديه واحدة، والأهم -في نظره- هو جمع المال فقط وتحصيله من أي مصدر، سواء أكان حلالاً أم حرامًا.
أيها المسلمون: العقل نعمة من الله -عز وجل- أنعمها علينا، فبه يميز العاقل بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، ومتى استُخدم هذا العقل في غير مكانه الذي هو الخير، أصبح مجرد كتلة لا تصلح لأي عمل، وأصبح الشخص بذلك فردًا لا همَّ له سوى عبادة ما يمليه عقله عليه، فكان كما قال تعالى: (إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال: 22].
ومن أخطر الأشياء أن يقع العقل تحت الاستعباد، ومن أوضح صوره الانحراف الفكري؛ فالفكر هو لب العقل وأساسه، وتقويمه واعتماده، فإن سَلِم صحّت تلك الأفكار التي يحملها، فتنتج -بإذن ربها- ثمارها اليانعة، وإن خَبُثت واستقت أفكارًا خبيثة وهدامة، لم يُجنَ منها إلا العلقم، ولم يُبلَ العقل بمثل بلوى الانحراف، فهو مسلك خطير من سلكه هلك، ومن اتقاه نجا واستدرك، فالانحراف الفكري كالرمال المتحركة، التي سرعان ما تلقي بصاحبها داخل جوفها، وصاحب الفكر المنحرف يتلقى أفكاره من مصادر خبيثة لتصادف هوى، فيصبح بأذيالها متمسكًا وبشأنها متعبدًا، ولم يكن هناك شيء أخطر على الأمة من الانحراف الفكري، فبه تحدث المنازعات والخلافات العقدية والفكرية، والشقاقات السياسية والاقتصادية، ويصرفها عن النظر لواقعها وحالها.
صورة أخرى من صور استعباد العقل: التبعية: لم يحدث استعباد العقول وانحرافها إلا عن طريق التبعية الخاطئة، ولذا عندما عطّلوا عقولهم نفى سبحانه الاهتداء والتعقل عن هؤلاء الذين يتّبعون الآخرين، فقال سبحانه: (وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) [لقمان: 21]، فالأمر يزداد خطورة عند عدم إدراك من نتبع وأي طريق نسلك، وما انحرف من انحرف إلا عندما سلكوا مسلك التبعية الخاطئة. ولنعلم أن التبعية التي لا أصل لها من الكتاب والسنة لا تولِّد حضارة ولا فكرًا، وإن حدث ذلك فهو ناقص، وسرعان ما يزول؛ إذ إن من شأن الأمور الوضعية أنها تزول وإن استمرت برهة من الزمان؛ وذلك لأنها لا توافق البشر كلُهم وإن رغبها بعضُهم، ولا يظن آخرون أنه عند استمرار حضارة ما أو فكر ما قد خالطه تبعية غربية أنه باقٍ ما بقي الدهر، أو أن زواله مستحيل، كلا! بل على العكس تمامًا، إن زواله قريب وانهياره سريع.
أيها المسلمون: اعلموا أن استعباد البدن أهون من استعباد القلب؛ إذ إن هذا ليس من اختيار العبد، وربما كان ابتلاءً من الله لعبده المؤمن وتمحيصًا له، وفترته قد لا تستغرق وقتًا طويلاً.. نعم، ربما سلبت حريته البدنية، ربما سلبت كرامته، وربما سلب كل أمر ظاهري منه، ولكنه لم يُسلب قلبه، ولم يسلب عقله وتفكيره، فهو يعيش الحرية داخليًّا، ويفقدها خارجيًّا.
وما صبر الكثير على طريق الإيمان إلا عندما أوذي وسجن وعُذِّب، وما يظن عاقل أنه بإمكانه الاستمرار على هذا الطريق دون ابتلاءات وفتن؛ قال الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 2].
إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنّا، وهم لا يُتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران: 186].
إنها سُنَّة العقائد والدعوات، لا بد من بلاء، ولا بد من أذىً في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة، وقد حُفَّت الجنة بالمكاره، كما حفت النار بالشهوات، وعلى قدر إيمان المرء يكون ابتلاؤه، فالقهر والظلم والسجن والضرب وغيرها كلها وسائل ظاهرية تتولى الاستعباد الظاهري، ولا تستطيع أن تملك الداخل؛ إذ إن من شأنها التعذيب والسياط والجلد، وفرض الهيمنة والسيطرة الخارجية، وما ظن أولئك أن من كان مع الله كان الله معه.
ولنا في السابقين عبرة، فهؤلاء الأنبياء ابتُلوا، وغيرهم من الصالحين الذين حملوا همَّ هذا الدين؛ فقد سُجِن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وعذّب، وما زاده ذلك إلا ثباتًا ورسوخًا، وسجن شيخ الإسلام ابن تيمية، فما كان منه إلا أن قال: "ما يفعل أعدائي بي؟! أنا سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة". وقُهِرَ أناس وظلم آخرون وهددوا، فلم يردهم ذلك عن إيمانهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا *** على أي جنب كان في الله مصرعي
أيها المسلمون: إن تاريخ الاستعباد تاريخ قديم، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج منها، فمن ذلك: استعباد فرعون: فلم تذق أمة من الأمم السابقة ذل العبودية والاستعباد مثل ما ذاقته أمة بني إسرائيل في عهد ذلك الطاغية فرعون، فقد فعل بهم الأفاعيل، وجعل منهم خدمًا وعبيدًا لا قيمة لهم؛ قال الله تعالى: (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4].
وكل طاغوت يُخضِع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وآثار الظلم والاستعباد باقية إلى اليوم، شاهدة على أفظع الصور وأبشعها في إذلال العباد، وإن سميت بغير اسمها، ودُعيت بالحضارة الفرعونية.
اللهم فرج عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فرجًا عاجلاً غير آجل...
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا...
الحمد لله على إحسانه...
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون: بماذا ندفع الاستعباد؟! ندفعه بأمور، من أهمها:
- خشية الله -عز وجل- والخوف منه: والخشية لله تعالى تزيد العبد اطمئنان القلب وتعلقًا بالله، فلا يعبد سواه، ولا يخشى أحدًا إلا إياه، فيتوجه إليه بالكلية، فلا تغره دنيا، ولا يهيبه مَلك أو سلطان، فقد مُلئ قلبه خشية وخوفًا من الله تعالى.
وقد قرن -سبحانه وتعالى- خشيته بالفوز في الدنيا والآخرة فقال: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52]. والخشية من المنجيات التي تنجي العبد من كل شيء، من الدنيا وغرورها، من الحياة وفتنها؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى. وثلاثٌ مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه". وبالخشية يستعين العبد على دينه، فيحفظه من الضلال، ويحفظه من الزيغ والانحراف.
ومن الوسائل في دفع الاستعباد: المنهج السليم: الذي هو الطريق القويم، الذي يضمن لذوي العقول السير الصحيح والتبصر الحكيم، وأي أمة فقدت المنهج الصحيح السليم حارت في دروب التيه العقدي والإعصار الفكري: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم) [الملك: 22].
ولكي نضمن منهجًا سليمًا خاليًا من الشوائب لا بد من أمرين: أخذ المنهج من مصدره الأساسي، الذي هو المصدر الرباني، المتمثل في الكتاب والسنة، والتلقي السليم الذي لا تتنازعه أهواء ولا تعصبات ولا منازعات، ولا يشوبها انحرافات فكرية، ولا يخالطها معتقدات فاسدة باطلة.
ومن الوسائل في دفع الاستعباد: الأخذ بزاد الصبر: قال الله تعالى مبينًا شأن أولئك الذين صبروا وما آل إليه صبرهم: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْـحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 22].
والصبر أمر مطلوب، فقد حثّ الله سبحانه عباده المؤمنين على الصبر فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
ولنا في السابقين أبلغ العظات والعبر، فقد صبر سيد المرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الصبر وأبلغه حتى بلَّغ دين الله -عز وجل-، وصبر من بعده أتباعه كبلال وخباب، وصبر كذلك إمام السنة أحمد بن حنبل، ومن بعده ابن تيمية، والكثير من أئمة الدعوة صبروا، فما أوهنهم القيد، ولا غيَّرهم السجن، فهم صامدون كالطود؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
ومن وسائل دفع الاستعباد: تحرير الفكر: ولكي يتحرر الفكر من قيود الاستعباد لا بد له من الاطلاع الواسع والقراءة المكثفة النافعة، فبها يرقى فكره ويعلو، فلا ينجرف فكريًّا، ولا ينقاد تبعيًّا، ويصبح ملمًّا بأمور الحياة.
إن القراءة للعقل بمثابة الغذاء للجسد، ولذا كان خطاب الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بداية: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) [العلق: 3]، ولا يمكن لأحد أن يكون ذا فكر جيد وخيال واسع دون القراءة.
ومن الوسائل: البعد عن الإعلام الهابط والهدّام: الإعلام من أقوى الوسائل تأثيرًا على البشر وعلى المجتمع؛ إذ إنه سلاح ذو حدين، ولا يُمنع أحد من عدم مشاهدته؛ لأنه في متناول الجميع، سواء أكان مرئيًا أم مقروءًا أم مسموعًا.
ولذا كان من مراتب الجهاد جهاد الكلمة أو جهاد القلم، ولكن ما أن يتحول هذا الإعلام إلى وسيلة لإذلال العباد واستعبادهم حتى يصبح ذا خطورة عالية، فيهوِّل لهم الأمور حتى تصبح كالموبقات لديهم، فأصبح الجميع مستعبَدًا لما يقوله الإعلام، فيلعب بعقولهم كيف شاء، فتارة يُلهب عواطفهم ضد أمر ما، وتارة يحذرهم من أمر فيه خير، وقلما تجده يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، ولو أنهم رجعوا إلى عقولهم وبصيرتهم لوجدوا أن الحق خلاف ذلك، ولو أنهم تجنبوا ذلك الإعلام السيئ أو أخذوا الإعلام من مصدره الصحيح لما حدثت التغيرات الداخلية لديهم، ولما تقاعسوا وتراجعوا، ولأبصروا الحقيقة.
ومن الوسائل: الدعاء: الدعاء خير سلاح يتسلح به المؤمن، وبه يُدفع البلاء والاستعباد، فهو عدته وعتاده، ولا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وحثّ –سبحانه- عباده على دعائه؛ فقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60].
أيها المسلمون: عندما ابتعدت الدولة الإسلامية في عصر صدر الإسلام عن مظاهر الظلم والاستبداد والاستعباد ارتفع شأنها، وبلغت رقعتها أقصى الأرض، وبلغ مجدها ذروته، فأصبحت رايتها خفّاقة، وخيلها سبّاقة، وحق فيها قول الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
وما أن يظهر الاستبداد والظلم والقهر بأرض حتى يحل بها فساد، وانتشار فتن، وزوال نِعَم، لا يرفعه إلا رجعة صادقة إلى الله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض) [الأعراف: 96].
نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن يكلأنا برعايته، هو مولانا وعليه التكلان...
التعليقات