عناصر الخطبة
1/أدلة الإيمان بالقدر ومفهومه 2/أهمية الإيمان بالقدر 3/لوازم الإيمان بالقدر 4/العلاقة بين الإيمان بالقدر وبين فعل الأسباب 5/ثمرات الإيمان بالقدراقتباس
ومما يدلّ على أهمية الإيمان بالقدر؛ أنه لا يصحّ إيمان العبد إلا به؛ إذ ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- أنه قال: "لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه من الله، وحتى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكُنْ ليخطئَه، وأن ما أخطأه لم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: اتّقوا الله وأطيعوه، واعلموا أنّه ما من شيءٍ يقع في الكون، ولا نعمةٍ ينعَمُ به عبدٌ ويَتمتّع بها ويستبشر بها إلا بتقدير الله -سبحانه وتعالى- وما من مصيبةٍ تصيب عبداً، ولا شرّ يقع في النّاس إلا بأمر الله -تعالى- وتقديره؛ كما قال -تعالى-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القمر:49].
قال الإمام السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسُّفليّة، أن الله -تعالى- وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها، وخلقها بقضاء سبق به علمُه".
وقد دلَّ على الإيمان بالقَدَر العقل، ونصوصُ الكتاب والسُّنّة، ودلَّ عليه إجماع الأمّة، ولذلك كانت عقيدة الإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه إحدى دعائم الإيمان التي يجب أن تقوم في كلِّ قلبٍ يشهَدُ أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
والمراد بالإيمان بالقَدَر هو: أن تصدِّقَ تصديقاً جازماً بأنَّ كلَّ ما يقعُ في هذا الكونِ إنما يكونُ بتقدير الله -تعالى-، وأنه -سبحانه- عَلِمَ بأن هذه الأشياء ستقع في أوقات معلومة عندَه على صفات مخصوصة، وأنه -سبحانه- كتَبَها قبل وقوعها، وأنَّ وقوعها بناءً على ما سبَق في عِلمِه، وعلى ما قدّره واقتضته حكمته -تبارك وتعالى- كما قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحديد:22]، وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحج:70].
قال الطَّحَاوي -رحمه الله-: "وعلى العبد أن يعلمَ أنَّ الله قد سبقَ علمُه في كلِّ كائنٍ من خلقه، فقدَّر ذلك تقديراً مُحكَمَاً مُبرماً ليس فيه ناقضٌ، ولا مُعقِّبٌ، ولا مزيلٌ، ولا مغيرٌ، ولا ناقصٌ، ولا زائدٌ من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عُقَدِ الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله -تعالى- وربوبيته؛ كما قال -تعالى- في كتابه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الفرقان:2]، وقال -تعالى-: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا)[الأحزاب:38]".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أولَ ما خلقَ اللهُ القلمَ، فقال له: اكتب قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(صححه الألباني).
عباد الله: بعد أن عرفنا مفهوم الإيمان بالقدر؛ فلابد -أيضاً- من معرفة أهمية هذا الركن العظيم:
أنه أحد أركان الإيمان؛ كما في حديث جبريل -عليه السلام- الذي رواه مسلم في صحيحه- قال السائل: فأخبرني عن الإيمان؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه" قال: صدقت، وكان ذلك السائل المصدِّق بهذا الاعتقاد هو جبريل -عليه السلام- أمينُ وحي السماء أتى معلمّاً الأمة أمر دينها.
ومما يدلّ على أهمية الإيمان بالقدر؛ أنه لا يصحّ إيمان العبد إلا به؛ إذ ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- أنه قال: "لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه من الله، وحتى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكُنْ ليخطئَه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه"(صححه الألباني)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر"(رواه أحمد).
أيها المسلمون: ولكي يكون إيمان العبد بالقدر على الوجه الصحيح الذي أراده الله -تعالى- منه وجب أن يعلم أنه لابد أن يصاحب إيمانه بالقدر لوازم بها يكون إيمانه صحيحاً، وتلك اللوازم هي:
الأول: الإيمان بأن الله -تعالى- علم بكلِّ شيء جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، مما يتعلق بأفعاله -سبحانه- وبأفعال عباده؛ قال -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)[الأنعام: 59].
الثاني: الإيمان بأنه -سبحانه- كتب ما علمَه من أفعاله وأفعال عباده في اللوح المحفوظ، قال النبي -صلى الله عليه وسلـم-: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(رواه مسلم).
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله -تعالى-؛ سواء كانت مما يتعلق بفعله -سبحانه وتعالى- كما قال: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم:27]، أو ما يتعلق بفعل المخلوقين؛ كما قال -تعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)[الأنعام:112].
الرابع: أن يؤمنَ العبد أن له مشيئة واختياراً بها تتحقق أفعاله؛ كما قال -تعالى-: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)[التكوير:28]، وكما قال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286].
الخامس: أن يؤمن العبدُ أنَّ مشيئته وقدرته غير خارجة عن قدرة الله ومشيئته؛ فهو الذي منحه تلك المشيئة والقدرة، وجعله قادراً على التمييز والاختيار؛ كما قال -تعالى-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[التكوير:29].
السادس: أن يعلم أنَّ القدَر سرُّ الله في خلقه؛ فما بيَّنه له علِمه وآمن به، وما غاب عنه سلَّمَ به وآمن به؛ فلا ينازعِ الله في أفعاله وأحكامه بعقله القاصر، بل يؤمنَ بعدل الله التامّ، وحكمته البالغة، وأنه لا يُسأل عما يَفعلُ؛ كما قال -سبحانه-: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء:23].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: لنحرص على تحقيق الإيمان بالقدر والقيام بلوازمه حتى نحظى بثماره التي وعد الله أصحابه؛ فمن ذلك:
أنّ المؤمن بالقدر يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ رزقَها وأجلها، وأنّ ما كُتب له من الرزق والخير سيأتيه، وما قُدّر عليه من الفقر والبلاء سيأتيه؛ لذلك فهو يعيش غير هيّاب، يستمدّ قوته في مواجهة ذلك من الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه يعتقد أن الله معه ولن يضيّعه؛ فيزداد بذلك إيماناً مع إيمانه.
ومن الثمرات التي يجنيها المؤمنُ بالقدر: أنّه يكون حيثُ أمره الله مقيماً شعائره، معلّماً الخيرَ للناس، صادِعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، قد جعل نصْب عينيه قول الله -تعالى-: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة:51].
ومن ثمرات الإيمان بالقدر: أنْ يتحلّى بالتواضع والخضوع لله -تعالى-؛ فيكون بعيداً عن التعالي والغرور والكبرياء، ولا يرضى لنفسه المدح والإطراء؛ لأنه يعلم أن نفسه في أصلها محلٌّ للنقص وليست محلّاً للكمال، وأنّها إنْ أحسنت؛ فإنّ إحسانها مرتبط بتقدير الله ومشيئته وتوفيقه -تبارك وتعالى- لذلك هو يعيد الفضل إلى المنعم المتفضل القائل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21].
ومن ثمرات الإيمان بالقدر -يا رعاكم الله-: أنه سببٌ لزوال كثيرٍ من أمراض القلوب الخطيرة؛ فإن المؤمن بالقدر لا يتكبّر على إخوانه؛ لأنه حين يكون في سعة من الرزق أو في بسطة من العلم والجسم أو نحو ذلك لم ينسَ أنَّ الذي قدَّر له ذلك وتفضّل عليه هو الله، ويعلم أنه لو شاء الله لمَنعه، وسلب منه تلك النعم.
ومن ثمرات الإيمان بالقدر: أنّ المؤمن لا يحسد الناس ولا إخوانه المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؛ لأنه يعلم أنَّ الذي ابتلاهم بسعة الرزق هو الله الذي ابتلاه فقدر عليه رزقه امتحاناً، وهو يسعى إلى النجاح في هذا الامتحان، وقد آمن بالقدر خيره وشرّه، ويعلم أن الحسد نوع من الاعتراض على أقدار الله، وهو ما يتنافى مع الإيمان بالقدر.
فاتَّقوا الله -عباد الله- واحمدوه على نعمة الإسلام والإيمان، واعملوا بما علمتم؛ (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ)[الحج:78]، واسمعوا وأطيعوا، واحذروا أن يسترسلَ بكم الشيطان ليخوض بكم في أمور من الغيب مما لا طائل من الخوض فيها؛ وقولوا؛ (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285].
وصلُّوا -رحمكم الله- على نبيّ الهدى محمدٍ، وسلِّموا عليه؛ كما أمركم الله بقوله، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات