اقتباس
وقد جعلنا تركيزنا الأكبر في هذا الملف العلمي على المعنى الحديث للإلحاد وهو: "إنكار وجود الخالق"؛ فإنه غاية الجحود والنكران والسفه؛ أن يخلقهم الله -سبحانه- ويرزقهم ويؤويهم ويطعمهم ويسقيهم ويعافيهم.. ثم بدلًا من أن يشكروه -تعالى- على نعمه التي أغرقتهم، إذا هم يجحدون وجوده ويتنكرون لإبداعه...
نامت الأم بالليل عاقدة العزم على أن تستيقظ مبكرًا في الصباح لترتب منزلها الذي صار نموذجًا يحتذى في الفوضى والاتساخ، ولتقوم بشراء بعض الأطعمة ووضعها في الثلاجة؛ فقد اكتشفت أنها فارغة تمامًا من أي طعام.. لكنها وزوجها وأولادها لم يستيقظوا إلا متأخرًا جدًا، فقامت الأم مفزوعة فقد تأخرت هي وزوجها على موعد عملهما، وتأخر الأولاد على مدارسهم، فخرجوا جميعًا مسرعين بعد أن أحكموا غلق الأبواب والنوافذ، وانصرفوا تاركين المنزل يعاني من الإهمال وانتشار القاذورات في جميع أركانه.
وبعد الظهيرة عادوا جميعًا معًا، وما أن فتحوا باب المنزل حتى دُهشوا جميعًا حين فوجئوا بالمنزل مرتبًا ونظيفًا، وبالثلاجة وقد امتلأت بأصناف المأكولات والمشروبات، وبالمائدة وقد زخرت بأطباق الطعام الشهي الساخن الذي فاحت روائحه الطيبة... وكان السؤال الذي نطق به الجميع: من قام بفعل هذا؟! من رتَّب ونظَّم وطهى ونظَّف وجلب الطعام؟! فالجميع خرجوا معًا وعادوا معًا!
تُرى لو كان الجواب: أن الصدفة وحدها هي من فعلت جميع ذلك، أكانوا يصدقون؟! ومثله من ادعى أن رياحًا هبت على كومة من قطع الحديد الصدئة "الخردة" فتطايرت فتصادف أن تلاحمت وتراصت فصنعت طائرة حربية قوية! أو أن بعض البقايا البلاستيكية تصادف أن كوَّنت جهاز حاسوب دقيق... أكان يصدق هذا عاقل؟!
لكن من يسمون أنفسهم بـ"الملحدين" يقولون بأعظم من ذلك؛ فيدَّعون أن هذا الكون كله بمجراته وفضائه ونجومه وكواكبه جاء بمحض الصدفة! وأنه لا خالق له، ولا إله له! تعالى الله عما يهرفون! لقد كان الأعرابي الأمي الذي يعيش في وسط الصحراء أعقل منهم وأعلم، فقد سئل بعض الأعراب: بم عرفت ربك؟ فقال: "البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، أما يدل ذلك على العليم القدير"(نفح الطيب، للتلمساني).
أيا عجبًا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة *** وتسكينة فاعلمن شاهد
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
***
ولما بدت فكرة الصدفة هذه سمجة تافهة لا تقبلها حتى عقول الأطفال فقد أراد الملحدون أن يقنعوا الناس "بأفضل منها"، فقالوا: إن أصل الإنسان قرد، وأن البشر والقرود أبناء عمومة فأصلهم مشترك!.. فهنيئًا للملحدين بأجدادهم!
وخرجوا علينا بخرافة "التطور"، وأن الطبيعة هي من طورت نفسها بنفسها فأخرجت ملايين الأنواع والأجناس من الحيوانات والنباتات والطيور والحشرات...
والعجيب الغريب أن ينخدع بذلك بعض من يدعون الإسلام فيصدقون أن أصلهم "قرد" وأن جدهم الأكبر كان قردًا! وكأنهم لم يعلموا أن الله -تعالى- خلق آدم بيده من تراب "ولم يطوِّره من قرد": (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[ص: 71-72]، أما مروا بقوله -تعالى-: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)[آل عمران: 59].
أما فقهوا قوله -عز وجل-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين: 4]، أما فهموا قوله -سبحانه-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]، فأين يكون التقويم الحسن والتكريم أو كيف يكون التفضيل إن كان أصلهم قرود؟! وما تكون فائدة هذه الآية إذن: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الملك: 22]!
***
والحق أن ما مر ما هو إلا معنى واحدًا من معاني الإلحاد، ولونًا واحدًا من ألوانه؛ "إنكار وجود الله"؛ فللإلحاد معان وأشكال وصور كثيرة، منها:
الإلحاد في أسماء الله الحسنى: يقول -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180]، "قال المحققون: الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه:
أحدها: إطلاق أسماء الله -عز وجل- على غيره: وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله -تعالى- فسموا اللات والعزى ومناة، واشتقاق اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان..
الوجه الثاني.. تسميته -تعالى- بما لم يسمّ به نفسه، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة؛ لأن أسماء الله -سبحانه وتعالى- كلها توقيفية..
الوجه الثالث: عدم مراعاة حسن الأدب في الدعاء: فلا يجوز أن يقال "يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة" على انفراد، بل يقال: يا ضار يا نافع يا خالق الخلق.
الوجه الرابع: تسمية العبد لربه باسم لا يعرف معناه"(تفسير الخازن بتصرف).
ومنها: الإلحاد في آيات الله: والذي ذكره الله -تعالى- في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فصلت: 40]، ومعناه كما قاله ابن عباس: "هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه"، وقال مجاهد: "يلحدون في آياتنا: أي عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء"(تفسير القرطبي)، وقال ابن كثير: يلحدون "أي يميلون عن الحق في أدلتنا".
ومنها: الإلحاد في الحرم: قال -تعالى-: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: 25]، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لو أن رجلًا همَّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أنَّ رجلًا همَّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم"(تفسير الخازن).
والسبب في شمول لفظ "الإلحاد" كل هذه المعاني وغيرها أن "معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة، وقال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه، يقال: ألحد في الدين إلحادا إذا عدل عنه ومال إلى غيره"(تفسير الخازن)، لذا فإن كل انحراف أو ميل عن العقيدة أو الشريعة الحقة هو إلحاد في دين الله.
وقد جعلنا تركيزنا الأكبر في هذا الملف العلمي على المعنى الحديث للإلحاد وهو: "إنكار وجود الخالق"؛ فإنه غاية الجحود والنكران؛ أن يخلقهم الله -سبحانه- ويرزقهم ويؤويهم ويطعمهم ويسقيهم ويعافيهم... ثم بدلًا من أن يشكروه -تعالى- على نعمه التي أغرقتهم إذا هم يجحدون وجوده ويتنكرون لإبداعه وينسبون أفضاله للطبيعة أو للصدفة أو للتطور!
التعليقات