عناصر الخطبة
1/التحذير من الإلحاد في أسماء الله وصفاته وبيان معناه 2/أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته 3/أثر الإيمان في أسماء الله وصفاته وخطورة الإلحاد فيها 4/الوقاية من داء الإلحاد في أسماء اللهاقتباس
إن إثبات أسماء الله وصفاته على ما يليق بذات الله -تعالى- وعظمته يجعل المؤمن يعيش مرتاحاً مطمئناً، بعيداً عن الشك والارتياب، والحيرة والاضطراب، فيعظمه ويمجده؛ لأنه -سبحانه- الكبير العظيم، الحميد المجيد، ويتقرب إليه...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرَّحمن الرَّحيم، مالكِ يوم الدِّين، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ اللهُ وحده لا شريك له، إلهُ الأوّلِين والآخِرِين، وقيُّومُ السَّموات والأرَضِين، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه، سيِّدُ المرسلِين، وإمامُ المتّقين، وقائدُ الغُرِّ المحجَّلين، المبعوث رحمةً للعالمين، صلّى اللهُ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين، الذين حفظ اللهُ بهم المِلَّةَ، وأظهر الدّين، وعلى مَن اتَّبعهم بإحسانٍ وسار على نهجهم إلى يوم الدّين، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن معرفة أسماء الله وصفاته من أجل نعم على عباده، ويرتفع قدر هذه المعرفة حين تقود صاحبها إلى فهم معانيها العظيمة؛ فيزداد إيمانهم بالله -سبحانه وتعالى-؛ فيتقربون إليه بالدعاء وحسن العبادة؛ كما قال اللَّه -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)[الأعراف:180]، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن للَّه تسعة وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"؛ أي: من حفظها، وفهم معانيها، وأثنى على اللَّه بها، واعتقدها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون؛ فَعُلِمَ أن ذلك أعظم طريق لحصول الإيمان، وقوَّته وثباته.
وهكذا كلما ازاد المؤمن معرفة بربه زاد يقينه وإيمانه بخالقه ومولاه؛ لأن الإيمان يرجع إليها، ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان، وأصله وغايته؛ فينبغي للمسلم أن يجتهد في معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ولن يحصل له ذلك إلا إذا أخذ هذه المعرفة من كتاب الله المبين وسنة رسوله الأمين -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن التزم ذلك منحته تلك المعرفة الراحة والسعادة النابعة من الإيمان واليقين ومحبة رب العالمين.
عباد الله: إن الله -تعالى- حذّرنا أن نسلك في معرفة أسمائه وصفاته مسلك أهل الضلال والغواية؛ فنخرج بتلك المعرفة عن مراد الله الذي طلبه من عباده، قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف:180]؛ والإلحاد في أسمائه: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل، ومنه الْمُلحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
والإلحاد في أسمائه وصفاته -تعالى- أنواع كما ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله-:
أحدها: أن تُسمَّى الأصنام والآلهة الباطلة بأسماء الله -تعالى- أو توصف بصفاته؛ كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز؛ فهؤلاء المشركون قد عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة، وإذا كان إلحاد المشركين في الزمان الأول بهذه الصورة؛ فإن ملحدي زماننا هذا قد أنكروا الخالق -جلا وعلا- وسلبوه صفاته بالكلية، ونسبوا الخلق والقدرة إلى الطبيعة والصدفة والعدم! تعالى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فوا عجباً كيف يعصى الإله *** أو كيف يجحده الواحدُ
وفي كل شيءٍ له آيةٌ *** تدل على أنه الواحدُ
الثاني: تسمية الله -عز وجل- بما لم يسم به نفسه؛ كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة ونحو ذلك، قال البغوي: "قال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله تسميته بما لم يتسم به، ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-"، وقال ابن حزم: "منع -تعالى- أن يُسمى إلا بأسمائه الحسنى، وأخبر أن من سماه بغيرها فقد ألحد"، وقال ابن حجر: "قال أهل التفسير: من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة".
ثالثها: وصف الله -تعالى- بالنقائص والعيوب؛ كقول اليهود: إنه فقير، قال -تعالى-: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[آل عمران:181]، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، قال -تعالى راداً عليهم-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)[ق:38]، وقال منكراً عليهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)[المائدة:64]، ونسبة الولد إليه؛ كادعاء النصارى، قال -سبحانه-: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)[البقرة:116].
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها؛ كقول من يقول من أهل البدع: إن أسماء الله ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات جليلة، ولا معاني جميلة؛ فيجردون أسماء الله عما دلت عليه من معانيها العظيمة، وهذا من أعظم الإلحاد فيها، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن أولئك أعطوا أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها؛ فكلاهما ملحد في أسمائه وصفاته، يقول ابن القيم: "وكل من جحد شيئاً مما وصف اللَّه به نفسه أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك؛ فليستقلّ أو ليستكثر".
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه -تعالى اللَّه عما يقول المشبهون علواً كبيراً-؛ فهذا الإلحاد في مقابل إلحاد المعطلة؛ فأولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه؛ فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه.
وأما اتباع النبي -عليه الصلاة والسلام- وورثته القائمين بسنته فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظاً ولا معنىً؛ بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريئاً من التشبيه، وتنزيههم خالياً من التعطيل.
أيها الإخوة: إن إثبات أسماء الله وصفاته على ما يليق بذات الله -تعالى- وعظمته يجعل المؤمن يعيش مرتاحاً مطمئناً، بعيداً عن الشك والارتياب، والحيرة والاضطراب؛ فيعظمه ويمجده؛ لأنه -سبحانه- الكبير العظيم الحميد المجيد، ويتقرب إليه ويتودد إليه؛ لأنه -تعالى- اللطيف الودود، الكريم الرحيم، إن أصابه همٌ أو حزن لجأ إليه لعلمه بأنه قادرٌ أن يزيل ما به، وإن مرض علم بأن ربه الشافي، وإن وقع في شدة وكربة لجأ إلى ربه المغيث ليغيثه -سبحانه-، وهكذا العيش في ظل أسماء الله وصفاته أمنٌ وأمان، وانشراحٌ وإيمان.
وأما من عطَّل وألحد في أسماء الله -تعالى- وصفاته ورغب عن هدي الكتاب والسنة؛ فحكَّم هواه وأدخل عقله فيما ليس له؛ فحياته حيرةٌ وشك؛ تتقاذفه أمواج الأوهام، وتنغِّص عيشه الآلام؛ فهو في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يكاد يخرج منها؛ فما أشقى هذه الحياة وما أتعسها!، وقد وضَّح أحدهم هذه الحيرة حين قال:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ *** وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا *** وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا *** سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلٌ وَقَالُ
وقال آخر:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا *** وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ *** عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارَعًا سِنَّ نَادِمٍ
سأل أحدُ المتكلمين أحدَ الفضلاء فقال له: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون؛ فقال: وأنت منشرحُ الصدر لذلك مستيقنٌ به؟ فقال الرجل: نعم؛ فقال: "اشكر الله على هذه النعمة، لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى اخضل لحيته، (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:125].
وفي هذه القصة يتجلى للعاقل أن الراحة والسعادة لا تُنال إلا باتباع عقيدة الإسلام، كما أن فيها برهان إلى أن الميل عنها سبيل للحياة التعيسة المملوءة بالاضطراب والحيرة والشكوك نتيجة انحراف أهلها عن عقيدة الإسلام الصافية.
رزقنا الله وإياكم الحق والهداية، وجنبنا طرق الضلال والغواية.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين، فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، أما بعد:
عباد الله: إننا في زمنٍ كثرت فيه الفتن وتنوعت، عصر انفتح الناس فيه على كل شيءٍ، وأصبحت الشهوات والشبهات تدخل كل بيتٍ إلا من رحم الله، ولا ينجِّي من الوقوع في مهاوى الردى إلا التمسك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما كان عليه الرعيل الأول من العقيدة النقية الصافية، قال الرازي: " قد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق القرآن أقرأ في الإثبات (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5] و(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10] وأقرأ في النفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى:11](وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه:110] (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم: 65] ثم قال: "من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
وقال في موضعٍ آخر: "ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله -تعالى- ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية".
فلتعلم -يا عبد الله- أنه لا راحة لقلبك ولا اطمئنان إلا بالإيمان بالله -تعالى-، ولا إيمان إلا بمعرفة الله -تعالى- بأسمائه التي سمى بها نفسه، وأوصافه التي وصف بها نفسه؛ فمن أراد الراحة بغير ذلك تشعبت به طرق الضلال، وسار في تيهٍ وحيرة نغَّص عليه عيشه، وإن ظهر أمام الناس فرحاً مسروراً.
وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
التعليقات