عناصر الخطبة
1/ حض الإسلام على الحرص على السلامة 2/ نصوص شرعية في الوقاية وطلب السلامة 3/ النية الصالحة تجعل طلب السلامة عبادة 4/ الإجراءات العلاجية الشرعية عند وقوع المحذور 5/ دعوة الشرع للجهاد واستنكاره للميوعة والاسترخاء 6/ ما ينبغي فعله عند وقوع الابتلاءاهداف الخطبة
اقتباس
إن السلامة مطلب دعا إليه الإسلام، وحض عليه، ونهى عن التعرض لما يضاده، وشدد في ذلك في قوله -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]، وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: إن السلامة مطلب دعا إليه الإسلام، وحض عليه، ونهى عن التعرض لما يضاده، وشدد في ذلك في قوله -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]، وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].
وصيانة النفس والعقل والمال والعرض من الدين، وهي التي يسميها العلماء الضرورات الخمس التي يجب المحافظة عليها، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قُتل دون ماله فهو شهيد"؛ للأهمية البالغة في سلامة المال.
وحض الشرع الحنيف على المحافظة على الأرواح والممتلكات، وعلى الوقاية من الأضرار عامة قبل وقوعها؛ وذلك بأخذ الأسباب المشروعة لاتقاء وقوع المحذور، وكذلك التعامل مع الأضرار إذا وقعت.
والسنة المطهرة زاخرة في تجلية هذا الأمر وتأكيده؛ من ذلكم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج" رواه مسلم.
وحذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ركوب البحر إذا هاج فقال: "مَن ركب البحر بعد أن يرتج فقد برئت منه الذمة" رواه أحمد، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
بل اعتبر الإسلام السلامة غاية أمنية، فعن عبيد الله بن محصن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أصبح منكم آمنا في سربه -أي: في بيته ومجتمعه-، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا" رواه الترمذي وابن ماجه. ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أن يُتعاطى السيف مسلولاً" رواه الترمذي وأبو داود.
وإذا كان الإنسان في سفر، وأراد أن يستريح، أو خرج إلى البر، تعين عليه اختيار المكان المناسب، والابتعاد عن الطرقات ومجاري السيول والأودية إذا كان الجو مطيراً؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا عرستم -والتعريس نزول المسافر آخر الليل- فاجتنبوا الطريق؛ فإنها طرق الدواب، ومأوى الهوام بالليل" رواه الترمذي.
ونهى الإسلام عن الإشارة بالسلاح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار" متفق عليه.
ولما احترق بيت في المدينة على أهله ليلاً في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحدث النبي بشأنهم قال: "إن هذه النار عدوٌ لكم، فإذا نمتم فأطفئوها" رواه البخاري ومسلم. قال ابن العربي: معنى كون النار عدواً لنا أنها تنافي أبداننا وأموالنا منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة فإنه لا يحصل لنا منها إلا بواسطة، فأطلق أنه عدو لنا لوجود معنى العداوة فيها إذا غُفل عنها، فتحرق الأموال والأبدان.
وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه أيضاً: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون"، قال الحافظ ابن حجر: "قيده بالنوم لحصول الغفلة به غالباً، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهي". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "خمروا الآنية، وأجيفوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح؛ فإن الفويسقة -يعني الفأرة- ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت".
وفي حديث جابر بن عبد الله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوها، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً" متفق عليه.
وعن ابن عباس قال: جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجمرة التي كان قاعداً عليها، فأحرقت فيها موضع الدرهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نمتم فأطفئوا سراجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم" رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
فالحامل والدافع للفأرة على جر الفتيلة هو الشيطانُ عدوُ الإنسان الذي يسعى لإحراق بني آدم في الدنيا والآخرة، فيستعين على الإنسان بعدو آخر هو النار؛ (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) [فاطر:6]، فهو عدو متربص ببني آدم كل وقت؛ لهذا قال أهل العلم: "من فرط فترك النار موقدةً حال نومه خالف السنة"، وكثيراً ما نسمع عن فواجع مؤلمة تودي بحياة أفراد، وربما أُسر بكاملها؛ جراء تساهلهم بإبقاء النار حية مشتعلة أثناء النوم.
ما مضى من نصوص الشرع المطهر كانت في الوقاية وطلب السلامة، ويبقى الجانب الآخر من الموضوع وهو الإجراءات العلاجية فيما لو وقع المحذور -عافانا الله جميعاً والمسلمين عامة ودفع عنا كل سوء ومكروه- فأوجب الإسلام -عباد الله- على كل من تسبب في إتلاف مالٍ أن يضمنه وإن كان الإتلاف خطأً وقع، أو كان المتلِفُ صبياً أو مجنوناً؛ مراعاةً لحرمة المال وأهميته.
ولأجل ذلك ونحوه شرعت عقوبة قطع يد السارق، وقتل القاتل عمداً، والدية لقتل الخطأ؛ صيانة لحرمة الأموال والأنفس، ذلكم إضافة إلى الكفارة التي تتعين على القاتل خطأً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء:29-31]
اللهم بارك لنا في القرآن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن ما سبق في الخطبة الأولى من حض الإسلام على السلامة، وأن الإجراءات التي تضمن سلامة الأفراد والمجتمعات أمرٌ مشروع، وإذا اصطحب المسلم النية كان ذلك عبادة يؤجر عليها -إن شاء الله- لامتثاله أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
كل ذلكم معاشر المسلمين، في الوقت الذي يحض الإسلام على التهيؤ للجهاد والاستعداد لملاقاة الأعداء وصد عدوانهم.
إن الشرع الحنيف يقف منكراً ومستنكراً كل مظاهر الميوعة والاسترخاء وتسمين الأجساد كما تسمن بهيمة الأنعام، فليتفطن لذلك لئلا يقع خلط وسوء فهم.
في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي! ألا إن القوة الرمي! ألا إن القوة الرمي!"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل شيء يلهو به الرجل باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنه من الحق"، قال القرطبي: "ومعنى هذا -والله أعلم-: أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدةً فهو باطل، والإعراض عنه أولى، وهذه الأمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حق؛ لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعاً من معاون القتال، وملاعبة الأهل قد يؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحِّد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق" اهـ.
والحاصل -عباد الله- أن الإسلام يدعو للسلامة، ويَعُدُّ الأخذ بأسبابها واجباً، وإهمالَها مخالفة يأثم عليه صاحبها، إضافة إلى ما يتعرض له من مخاطر تؤذيه وتضره.
لكن؛ لا يجوز أن يكون ذلك مبرراً لأن يكون الترف مظهر الحياة العامة، أو مبرراً للقعود عن الجهاد والاستعداد له، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا وسلط عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم وخرب عليهم ديارهم، وقلب عليهم الأمن ذلاً وخوفاً، والرخاء شدة وحاجة.
فنحن المسلمين أمةُ جهاد، وهو سياحتنا التي يجب أن يربى عليها الناشئة، ولعلو قيمته عند الله أقسم بغبار الخيل الذي تثيره في الجهاد تشريفاً لها، وتكريماً وحضاً عليه، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) [العاديات:1]؛ لأنها رمز الجهاد، ووسيلته الفعالة المؤثرة.
ثم اعلموا -أيها المسلمون- أن كل ما يُقدَّر على الإنسان من حوادث لن تخرج عن تقدير العليم الحكيم، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:22].
فيجب على من ابتلي بشيء من نقص الأنفس أو الأموال والثمرات الصبر والاحتساب وعدم التسخط، وعدم لعن الزمان أو الدهر، ولا يجوز ندب الحظ أو التشاؤم من الحياة، بل عليه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعليه محاسبة نفسه ومراجعتها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم.
وقال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
اللهم وفقنا لما يصلح أمرنا في ديننا ودنيانا، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
وصلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله في محكم التنزيل...
التعليقات