عناصر الخطبة
1/مفهوم الإحباط 2/من صور الإحباط 3/أسباب الإحباط 4/مضار الإحباط 5/علاج الإحباطاقتباس
هو مجموعة من المشاعر النفسية المؤلمة, التي تأتي للفرد من عدم النجاح والفشل المتكرر في مواقف مختلفة أو متتالية, وعدم قدته على فعل ما يريد, أو يحبط الإنسان نتيجة عدم التوصل لحلول للمشكلات التي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: في زمن الضعف والانكسار الذي تصاب به الأمة ويغلب عدوها عليها, ومع كثرة النزاعات والفتن والحروب التي تعصف بالمسلمين؛ قد يتسلل شيء من اليأس والإحباط إلى بعض النفوس, وتستبعد الفرج والخلاص من هذا الواقع المرير.
إن الإحباط داء خطير فتاك حذر منه الإسلام؛ لأن ديننا يدعونا إلى التفاؤل والبِشر, وترك اليأس والقنوط والتخاذل, حتى في أشد الظروف قتامة وصعوبة, فالقرآن يخبرنا (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح:5-6]، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يبين لنا: "أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ".
وما أحسن قول الشافعي -رحمه الله-:
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنّها لا تفرج
أيها المسلمون: الإحباط: هو مجموعة من المشاعر النفسية المؤلمة, التي تأتي للفرد من عدم النجاح والفشل المتكرر في مواقف مختلفة أو متتالية, وعدم قدرته على فعل ما يريد, أو يحبط الإنسان نتيجة عدم التوصل لحلول للمشكلات التي يواجهها هو أو مجتمعه, وتؤدي هذه المشاعر إلى القعود والتقاعس، فتجعل المسلم عاجزاً مخذولاً متوقفاً عن العمل لدينه ودنياه.
وليس الفرد وحده من يقع في الإحباط واليأس، بل أحيانًا شعوب بأكملها تصل لحالة من الإحباط, بسبب ما تعانيه في واقعها من أوضاع صعبة.
عباد الله: وفي الإحباط سوء ظن بالله -سبحانه-, وضعف في مسألة التوكل على الله -تعالى-, وله صور فلنحذرها ولنحذِّر منها, من ذلك:
الضيق والقلق: وسببهما الانقطاع عن الله -عز وجل-؛ لأنّ عدم الايمان به, أو البعد عنه يؤدّي إلى هذا الاضطراب النفسي, وحينما تتزايد هموم الإنسان تتحول حياته إلى تعاسة وخيبة, حتى يتوقف عن العمل والبذل والعطاء.
والقلق والهم يعتري كل الناس, ولكن القادرين على التغلب عليه هم أهل الإيمان, الذين يستشعرون قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصبٍ، ولا سقمٍ ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته".
وحين لا يحسن العبد التعامل مع الضيق والقلق يكون فريسة لداء الإحباط, ومرد ذلك الى ضعف الإيمان, والغفلة عن السنن الكونية.
ومن صور الإحباط: الشعور بالعجز والدونية؛ فشعور الإنسان بذلك يجعله يصاب بالإحباط، فيصبح خاملاً لا ينجز شيئا لدينه ولا لدنياه, وكم نرى من العجز والانهزام والتخاذل في زمن ضعف فيه الأمل وساء العمل!.
ولأثر الهم والعجز على حالة الإنسان النفسية كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتعوذ منهما كثيراً, قال أنس -رضي الله عنه-: كنتُ أخدمُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-, فكنتُ أسمعُهُ كثيراً يقولُ: "اللهمً إني أعوذُ بكَ مِن الهم والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ".
ومن صور الإحباط: اليأس والقنوط: وهما يقضيان على الأمل, ويحولان دون العمل, ويذيقان من تلبس بهما مرارة الإحباط والفشل؛ فالمؤمن لا يقنط أبداً (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الحجر:56].
ومن صور الإحباط: اعتزال الناس والانكفاء على النفس؛ هربا من مواجهة الأعباء وتحمل المسؤولية التي تجب على الفرد؛ يأساً من إصلاح المجتمع, ولقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إشاعة روح التشاؤم في المجتمع, والادعاء بأن الخير قد انتهى من الناس. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، وفي رواية: "إِذَا سَمِعتُمْ رَجُلاً يَقُولُ: قَدْ هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، يَقُولُ اللهُ: إِنَّهُ هُوَ هَالِكٌ"(أخرجه مسلم).
عباد الله: ولكي نحصن أنفسنا من داء الإحباط فعلينا أن نعرف أسبابه وطرق تسلله إلينا، فمن أسبابه:
أولاً: الجهل؛ فقد عدد ابن القيم -رحمه الله- شيئا من الكبائر وذكر منها القنوط واليأْس من رحمة الله، ثم قال: "إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها".
ثانياً: ضعف إيمان العبد؛ حيث أن ذلك يقود إلى اليأس وذهاب السكينة والرضا من القلب، ويحل محلها القلق والخوف والتضجر والتسخط والقعود عن العمل.
ثالثاً: الاستشراف للوعود دون استكمال أسبابها وانتظار مجيئها في موعدها الذي أراده الله -سبحانه-، ولا شك أن هذا ناتج عن قلة الصبر لا سيما مع طول البلاء وزيادة العناء؛ فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون".
تريد إدراك المعالي رخيصة ** ولا بد دون الشهد من إبر النحل
رابعاً: غلو القلب في التعلق بالدنيا والحزن على فوات بعض متاعها الزائل وخيرها الراحل, قال تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)[الروم:36], وقال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)[هود:9-10].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
إخوة الإيمان: على الإنسان أن يوطن نفسه على أن هذه الدنيا دار بلاء ونكد، وليست بدار نعيم وراحة؛ فمن علم هذا وعرف حقارة الدنيا ودناءتها فإنه لن يحزن على شيء فات منه، فضلاً عن أن يصيبه الإحباط واليأس من عدم تحقق أي أمر من أمورها.
وعلينا أن نعلم أن طريق النجاح ليس خالياً من المكدرات والمنغصات والمصاعب، فلا نيأس إذا واجهنا شيء منها، بل على الواحد منا أن يكون لبقاً فطناً، ينتزع المنح من وسط المحن، ويأتي بالأفكار والحلول من داخل المشاكل والمصاعب.
ومن مضاره: أنه يجلب سوء الظّنّ بالله تعالى؛ حيث إن الإيمان يملأ قلب المؤمن بالأمل والتفاؤل, والإحباط ضد ذلك، بل ويضعف توكل العبد وثقته بربه، وهذا مما ينافي كمال الإيمان وتمامه.
ومنها: ضعف الهمّة وفقدان الثقة بالنفس؛ حيث يعيش المحبط فاقداً ثقته بنفسه وإمكاناته وقدراته, ويرى نفسه عاجزاً مكبلاً باليأس الذي أصابه.
ومن أضرار الإحباط: أنه سببٌ من أسباب النكوص والانحراف, وضعف الالتزام بالدين والتمسك به, وكثير من أصحاب التدين الظاهري والالتزام السطحي صاروا كذلك بسبب ما تسلل إلى نفوسهم من الإحباط واليأس. قال -تعالى-: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)[الحج:11].
ومن مضار الإحباط وأشنعها: أنه قد يؤدي بصاحبه إلى ارتكاب الأفعال الشنيعة، كقتل النفس بالانتحار، ولذلك يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي" [متفق عليه].
أيها المؤمنون: يجب على المسلم مقاومة الإحباط, والسعي في معالجته, والحد من تفشيه في أوساط المجتمع، ومن السبل التي يعالج بها الاحباط:
أولاً: تقوية الإيمان بالقضاء والقدر, والرضاء بالله وما جاء عن الله؛ حتّى يقبل الشخص ما قسم الله له من الرّزق والصّحّة والمنصب، وليعلم أن ما قدره الله له كله خير وإن كان في ظاهره الشر (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].
ثانياً: أن يتعوّد الإنسان على الأخذ بالأسباب، والصّبر على البلاء؛ فهذا يعقوب -عليه السلام- مع ما هو فيه من البلاء الشديد يوصي أبناءه: (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:87].
ثالثاً: التفاؤل والأمل من أعظم العلاج لداء الإحباط, وأفضل الأمل ما كان مع الشدة والبلاء, وكلما زادت شدة المؤمن زاد أمله ورجاءه في الله, فالتفاؤل دافعٌ لحسن الظن بالله، ويوجه صاحبه ليصنع من الكرب والعسر طريقاً للبحث عن الفرج والخلاص.
لما جاءت إبراهيم -عليه السلام- البشرى بالولد في سنٍ كبير أبدى تعجبه فقال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)[الحجر:54]؛ فماذا كان جوابهم؟: (قالوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)[الحجر:55-56]
وهذا موسى -عليه السلام- وقومه وقد تبعهم فرعون وجنوده, حتى إذا وصلوا إلى شاطئ البحر وفرعون من خلفهم قالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء:61], فقال لهم نبي الله موسى -عليه السلام- في ثقة وتفاؤل ويقين: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:62].
رابعاً: ومن أعظم العلاج: الدعاء والانكسار بين يدي الله. ولا يخفى على العبد أثر الدعاء في نيل مراده، وتحقيق مطالبه ومآربه الدينية والدنيوية, والدعاء يحتاج إلى إلحاح وصبر وعدم استعجال, قال رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُسْتَجابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجبْ لي"(رواه البخاري).
إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما به الصّدر الرّحيب
وأوطأت المكاره واطمأنّت *** وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضّرّ وجها *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث *** يمنّ به اللّطيف المستجيب
فما أحوجنا -أيها المسلمون- إلى التفاؤل والاستبشار بوعود الله وتأييده ونصره وعطاياه؛ ولن يحصل ذلك حتى نطر الإحباط ونفارق المحبطين؛ فلنتق الله وألا نقنط من فضله ورحمته؛ فهو القائل: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)[الزمر: 53].
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
التعليقات