عناصر الخطبة
1/ مفهوم الإحسان ومكانته 2/ أهمية تطبيقه في جميع الميادين 3/ سبب تقصيرنا في تطبيق الإحسان 4/ الإحسان والتمكين في الأرض (يوسف عليه السلام أنموذجا) 5/ مما يعين على الإحساناهداف الخطبة
اقتباس
إن الذي يجهل قواعد اللغة لا يحسن البيان، والذي يجهل أركان الصلاة لا يجيد العبادة، والذي يجهل شئون الحياة لا يحسن الإفادة منها ولا التبريز، ومن المؤسف أن أقدام المسلمين زُلزلت في كل الميادين فوعيهم لكتاب الله وسنة رسوله ضعيف، وفقههم لقوانين الحياة وقيادتها وحسن العيش فيها ..
الخطبة الأولى:
في يوم من أيام المدنية النبوية، المفعمة بالجد، المليئة بالعمل، الحريصة على الوقت، وفي ثنايا حلقة من حلقاتها وجلسة من جلساتها والصحب الكرام متحلقون حول النور المتلألئ في جنباتها، والضياء المشرق في حياتها حول البشير النذير يستمدون من نوره؛ إذ جاء الملك الكريم جبريل عليه السلام على صورة رجل بهي الطلعة يلبس ثيابًا بيضاء نقية، مسرح الشعر نظيفًا، جاء وقرب من رسول الله حتى أسند ركبتيه على ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وسأل أسئلة عظيمة يعلّم الأمة أمر دينها، ورسول الله يجيبه.
فسأله عن الإسلام، فأجاب بخمس، ثم سأله عن الإيمان، فأجاب بست. وكأنه يقول له: الإسلام: استجابة مطلقة لتعاليم الله وتحرٍّ دقيق لرضاه. والإيمان: حسن معرفة لله، وثقة نامية فيه. فإذا تجمعت هذه العناصر وجرت فيها مشاعر اليقين، وأينعت فيها صوالح الأعمال، فإن المرء يكون لا محالة محسنًا.
وعندها سأله عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
هذا التعريف الدقيق المنبعث من مشكاة النبوة، يحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتكتشف أنواره، فلا يزال يشرح النفس ويهديها بهديه، إنه يقول: رؤية وجه الله في العمل هي الباعث على إجادته والدافع على إتقانه، فإذا لم يبلغ هذه الرتبة، فلن ينزل عن الرتبة الأخرى وهي الشعور بإشراف الله ورقابته عليه وعلى كل شيء حوله.
(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [هود: 5]، (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف:7].
تعبير عجيب يحمل في اختصاره حقيقة هائلة، وخلة مذهلة. إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدةً كبيرة، يقيم عليها الإسلام بناءه، إنها قاعدة الإحسان بكل شُعَبه ومعانيه.
والأمرُ بالإحسان بمختلف صُوره وتنوع أشكاله، في جميع الحالات، وكافَّة التصرُّفات، قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام الكبرى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل:90].
أصحابُ الإحسان في ظلال معيَّة الله ورعايتِه ولُطفِهِ ورحمته (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128].
إن إجادةَ الأعمال وإحسانهَا كلَّها غايةٌ من غايات وجود الإنسان على ظهر الأرض (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود:7].
لقد استحب الله للإنسان -الذي جعله خليفته في الأرض- أن يتقن كل ما يصدر عنه، ولا يخرجه من بين يديه معيبًا مشوّهًا، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (رواه مسلم).
إن الإحسان ليس علمًا عاديًا ولا عملاً عاديًا، إنما هو القصد البعيد الذي تبلغ به الأشياء تمامها وتتألق فيه بجودتها ونقائها.
الإحسان تناول جميع الأعمال دينية كانت أو دنيوية على أتم وجه وأكمله.
إنه كلّ لا يتجزأ كما أن الصدق مثلاً لا يتجزأ فليس صادقًا من يتعمد الكذب في نصف أخباره، ويتحرى الصدق في نصفها الآخر، وليس محسنًا من تراه في نصف أعماله رديء التصرف غبي السلوك، وفي نصفها الآخر مجيدًا مستحب السيرة.
فالإحسان مراقبةٌ ومشاهدةٌ، والرقابة الإلهية لا تتناول عملاً وتدع آخر، بل تتناول الأعمالَ كلَها (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [يونس:61].
الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه: اعبده على هذا النحو: وأنت تقيم حد السرقة شاعرًا بأن الله يريد إشاعة الأمان في الناس وأخذ المجرمين بالنكال.. ورؤية الله في ساحة المحكمة حين يقام الحد هي رؤيته في المسجد حين تقام الصلاة.
إننا نرى اليوم غيابَ الإحسان في جميع ميادين حياتنا في عباداتنا ومعاملاتنا فإساءة المسلمين إلى دينهم وأنفسهم بالغ الشدة.
وقد تتابعت هذه الإساءات واتسع نطاقها.. فأسأنا إلى ديننا فلم نحسن تطبيق تعاليمه، ولم نجد تمثلها.
وأسأنا إلى أنفسنا بأن أهناها ولم نحسن أن نقدم للعالم نموذجًا إسلاميًّا حيًّا راقيًّا في جميع ميادين الحياة.
فالأمة التي بقيت دهرًا طليعة مرموقة تتراجع عبر السنين، وتلاحقها الهزائم في شتى الميادين، حتى اللعب لا تحسنه؛ فما أحسنت العمل بحقائق دينها، ولا أحسنت العمل بشئون دنياها.
إن الذي يجهل قواعد اللغة لا يحسن البيان، والذي يجهل أركان الصلاة لا يجيد العبادة، والذي يجهل شئون الحياة لا يحسن الإفادة منها ولا التبريز، ومن المؤسف أن أقدام المسلمين زُلزلت في كل الميادين فوعيهم لكتاب الله وسنة رسوله ضعيف، وفقههم لقوانين الحياة وقيادتها وحسن العيش فيها أشد ضعفًا.
إننا من الناحية العامة بشرٌ كغيرنا من البشر؛ لنا ما للناس من أسماع وأبصار وأفئدة؛ فلماذا تتعطل حواسنا وأفكارنا، وتنطلق حواس الناس وأسماعهم في كل مجال؟!.
لماذا ينجح العامل الصيني إذا صنع جسرًا أو شق طريقًا في حين يفشل مسلم؛ فما الفرق؟!
الفرق واضح أن المسلم لا يحسن عمله ولا يتقنه.
ولذا رأينا الجودة فيما يصنعه الآخرون ويقدمونه للعالم؛ لأنهم أحسنوا صنعته وأتقنوا إخراجه للناس وكأنما صنعوه لأنفسهم.
لماذا تمس أصابعهم الأشياء فتجود, وتلمسها أصابعنا فتضطرب؟
إن عدم القدرة على الإحسان أفقرتنا. وعجْزنا عن الإتقان شوّه سمعتنا؛ وما الذي يعيقك أن تكون محسنًا متقنًا مجيدًا لجميع أعمالك.. عبادة تحسنها، وعمل تتقنه..
لا يعيقنا شيء سوى أننا تربينا على الفتور والكسل والتراخي.. تربينا على أن نجد في طلب ما هو لنا، والتقصير فيما هو علينا.. تربينا أن نطلب حقنا قبل أن نؤدي واجبنا وإن أدينا واجبنا فليس على الوجه المطلوب.
إن الإحسان أن نقوم بكافة الإعمال على وجهها المشروع كما أُثرت عن صاحب الرسالة متحرين في صلاتنا وزكاتنا وصيامنا وحجنا أن نتأسى به وأن نلتزم سننه.
وإذا ما أحسنا وأتقنا فإن للإحسان جزاءين: الأول في الآخرة، والثاني عاجل تلقاه الأمم في حاضر أمرها وتراه عيانًا (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس:26]، (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ) [الإسراء:7]، (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60].
وما ارتفع قدر إنسان ولا علا شأنه وكبرت سمعته في أي مجال إلا لأنه محسن في عمله متقن له.
وقد شرح القرآن الكريم أن الإحسان بهذا الشمول طريق التمكين في الحياة والاستيلاء على أزمّتها، وملئها باليُمن والبركة.
كان يوسف الصديق -عليه السلام- شابًّا بادي العفة راسخ اليقين متين الخُلق عظيم الثقة بالله، اجتاز الأزمات التي مرت به؛ من تشريد وسجن وتلويث سمعة وكآبة عيش، فلم يهن له عزم ولم تزل له قدم ولم يطش له هدف.
فماذا كانت عقبى هذا الإحسان؟!
كانت العقبى التمكين أن الرجل المختطف المستضعف يلي أضخم المناصب (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:56].
إن الإحسان بلغ به المدى وجعله في مصر مناط الآمال ومحط الرجال.
إن الإحسان لا يضيع غرسه، ولن تتخلى العناية الإلهية عن أصحابه مهما خذلتهم الحظوظ وتعثرت بهم المراحل.
الخطبة الثانية:
ليس الإحسان نتيجة ذهنٍ طبيعتُه الغفلة أو يقظة نفس، طبيعتها الركود إنه خليقة مستقرة ومَلَكة تتكون من حب الإتقان وهواية الكمال وإدمان الذكر لله وطول الشعور بصحبته.
وطرق الإحسان كثيرة ولكن من يطيقها؟! إنها تتطلب العزمات الشداد والصبر الجميل والهمم البعيدة والجهاد الدؤوب، وصاحب هذه الخصال أهل لأن يبسط الله عليه كنفه ويلهمه رشده، وأن يكون معه أبدًا.
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]، (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل:128]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
وصلوا وسلموا الصادق المصدوق ...
التعليقات