عناصر الخطبة
1/ أهمية الأخلاق في التشريع الإسلامي وفضلها 2/ ارتباط العبادات بالأخلاق 3/ مظاهر سوء الأخلاق في حياتنا 4/ لمحة خاطفة عن الإعلام السافل 5/ وزن الأمور بميزان الشرع 6/ مخالفة بعض وسائل الإعلام لشرع الله 7/ خطورة الإلف والاعتياد على الأخلاق السيئة 8/ خطر الإعلام على الأخلاق 9/ الأخلاق منصة الانطلاق 10/ سوء الأخلاق سبب للدمار والهلاك 11/ بعض الأخلاق السيئة في مجتمعاتنا 12/ أحاديث نبوية في الحث على حسن الخلق وبيان أهميته وفضله 13/ السعي لتحسين الأخلاقاهداف الخطبة
اقتباس
أيها الأحباب: إن كل إصلاح لا يجعل من الأخلاق منصة الانطلاق، ومحطة الوصول والانعتاق، هو في الحقيقة إصلاح مزيف، لا يصلح إنسان، ولا يؤسس كيان؛ لأن المعول عليه في كل بناء، وإصلاح هو الإنسان لا التراب والزخارف والبنيان، وأي أخلاق تنشأ في ظلال...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.
وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إنه لا تزكو أمة، ولا ترتقي في مدارج العزة والكرامة، ولا تحظى بالتقدير والهيبة؛ من لدن الأمم الأخرى؛ إذا لم تكن الأخلاق الرفيعة السامية صفتها وحليتها، فالأخلاق هي الغاية من كل تدين، وهي الوسيلة لكل ارتقاء، فهي غاية ووسيلة في نفس الآن.
فتدين بلا خلق يعتبر تدين مدخولا مفصولا عن غايته وثمرته.
ومن تأمل في صفات عباد الرحمن الوارد ذكرهم في خاتمة سورة الفرقان اتضح له ذلك وبان، فقد أشاد الله بعباد الرحمن وذكر حلاهم وكمالهم في باب الانتساب إليه توحيدا وتعبدا وجودا وتوددا وبعدا عن الفحش قولا والفحش فعلا، إلى غير ذلك من الكمالات؛ فكان أول ما بدأ به سبحانه من هذه الصفات صفة تندرج تحت سقف الأخلاق الرفيعة تواضعا للملك الحق، ورفقا بالمخالف من الخلق: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان:63].
وليس التصدير بالأخلاق في ذكر هؤلاء الصفوة من عباد الله من قبيل الصدفة، وإنما هي لغاية يريدها منزل الكتاب الحكيم العليم جل جلاله، وهي أن الأخلاق هي الغاية من كل تشريع، ومن كل انتساب إلى ربنا عظيم الجناب.
ولكم يعجب المرء حينما يسمع قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وفي رواية: "لأتمم صالح الأخلاق".
وكأنه صلى الله عليه وسلم يحصر رسالته العالية العالمية في كونها رسالة تهدف إلى بناء ركن الأخلاق.
إن العبادات أيها الأحباب شرعت في الإسلام لترقيك وتزكيك، وتنقي أوزارك، وتضع عن أثارك، إذا كانت هذه العبادات مع استمرارها وتكرارها؛ لا ترقيك ولا تنقيك، ولا تصل بك إلى مقام التزكية خضوعا لله، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواضعا لخلق الله؛ فاعلم أن الباب دونك مغلق.
فالصلاة مثلا على عظمتها ومكانتها؛ فإنها إذا كانت تقابلها منك أخلاق سيئة فإنه ينتج عن ذلك صورة من التعارض والتناقص، ومن ثم يحصل الحرمان من ثمار الصلاة في الدنيا والآخرة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن فلانة تكثر من صدقاتها وصلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار" قال: يا رسول الله إن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها، قال: "هي في الجنة" [رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم].
وانظر هذا الأمر كذلك في الصيام، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وانظره كذلك في الحج، يقول ربنا: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197].
وانظره كذلك في الإنفاق، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى) [البقرة: 264].
إلى غير ذلك من أنواع الطاعات، وألوان القربات.
والذي دعاني إلى الحديث في هذا الأمر ما يرى في زماننا وأمتنا من مظاهر سوء الخلق، والانفراط والإغراق في الفحش قولا وفعلا، في معاملاتنا وأقوالنا، وشوارعنا وإعلامنا، ومدارسنا وبيوتنا وأسواقنا، وفي كل مظاهر حياتنا.
إن المتتبع أيها الأحباب لقضية الأخلاق في مجتمعنا؛ ليصل إلى قناعة لا شك معها، وهي أن أخلاقنا اليوم قد دخلت غرفة الإنعاش، وأنها وصلت مرحلة تستدعي التدارك، وتستدعي التشارك من كل الهيئات والجماعات والأفراد، كل من موقعه، وبحسب مكانته، ووسعه لإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل أن يتسع الخرق على الراقع، وقبل أن يصبح الانفراط هو الواقع.
إن نظرة سريعة في بعض أحوالنا لتأكد هذا الأمر وتجليه دون عناء ودون كثير تمعن.
انظر رحمك الله إلى إعلامنا تجده في الغالب إعلاما مشوشا معوقا مريبا غريبا، لا علاقة له في الغالب بعالم المبادئ والمثل، بل كل همه المال والمتاجرة بالقيم؛ من أجل اللقم، وملأ الأرصدة، ولو على حساب خراب العقول، ودمار الأفئدة.
أفلام رديئة، ومسلسلات غير بريئة، وبرامج جريئة، وليتها كانت جراءة حق وخير، ولكنها ومع الأسف جرأة شر وهدم وجير، يسوق هذا كله تحت علة وهمية من قبيل الانفتاح، وحرية الرأي، ومسايرة العصر، فسارت كل المواضيع مباحة، وكل الحرمات مستباحة، يتكلم عن الله وعن شرعه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته بكلام تشتم منه في الغالب رائحة التمرد، وظهرت في المجتمعات الإسلامية فئام من الناس، وربما بعضهم ممن ينسب ظلما إلى الثقافة والفكر، هؤلاء قل لهم أي شيء إلا أن تقول لهم قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل لهم ما شئت من النظريات والأيدلوجيات، فإذا ذكرت قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال سلف الأمة اشمأزت قلوبهم، وتلونت وجوههم.
ولست أقول هذا الكلام من قبيل المبالغة، بل هو ورب الكعبة من متابعة متفحصة لأحوال مجتمعاتنا الإسلامية.
وانظر مثلا رحمك الله إلى مدارسنا وأحوال أبنائنا عند أبوابها قبل أن تنظر إلى شيء أخر، ألستم ترون بأم أعينكم أيها الكرام ما يقع في الغالب عند الأبواب من مظاهر مؤلمة، من تدخين لكل ما يدخن من سجائر وغيرها من الذكور والإناث، مع ما يصحب ذلك من كلام هابط وإيحاء ساقط، ناهيك عن التبرج الفادح والتعري الفاضح.
إنهم أبناءنا، إنهم جيل الغد أيها الأحباب الذين ينتظر حمل منهم رسالة الخير، ورسالة الإصلاح والتقويم، فمن الذي بيت لتدميرهم؟ ومن الذي خطط لإفساد أخلاقهم؟!
إن دور الإعلام التدميري في الغالب واضح في هذه الأزمة أزمة الأخلاق التي نعيشها.
ومن المعلوم أنه في عالم الأذواق؛ لا مكان للمال ولا للمتاجرة، ولا للأوراق؛ لأن المصلحة المادية إذا طغت خصوصا فيما له علاقة بالفكر والذوق أفسدت ودمرت.
إن الميزان الذي ينبغي أن يظل قائما عند كل منتسب إلى هذا الدين هو ميزان الشرع، هو ميزان الدين الذي تعرض عليه كل الأمور، وينظر إليها من خلال منظاره، وتقاس بمقياسه، قال ربنا: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء:65].
ويقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب:36].
وقال سبحانه: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).
لا تكفي سمعنا: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].
وإذا عرضنا إعلامنا اليوم على الشرع الحكيم الطاهر المطهر اتضح لنا أن هناك بونا شاسعا مهولا بين ما يعرض اليوم في الإعلام، وبين ما شرع في الإسلام.
إن هناك أيها الأحباب أمرا في غاية الأهمية والخطورة، وهو أن الإلف والاعتياد: يقتلان الحس، ويشلان التفكير، ويعطلان الرؤية، بمعنى أن الإنسان إذا اعتاد على أمر ما فإنه يتحول تلقائيا في فكره وقناعته إلى عادة راسخة، لا يمجها طبعه، ولا تنفر منها نفسه، وإن كانت تخالف الشرع والأخلاق، وهذا هو عين ما وقع لأغلب الناس اليوم في تعاطيهم للإعلام، مع كثرة ما يعرض عليهم من الأفلام والمسلسلات والمهرجانات والمسابقات الغنائية التي ابتلينا بها في هذه الأزمان، والتي يبحث من خلالها عن المغنيين والمغنيات، وكأن الأمة اليوم لا ينقصها إلا المغنون والمغنيات، وكأن الأمة قد حصلت الاكتفاء في ميادين العلم والفكر والأدب وأخذت الريادة والسيادة والتقدم، فلم يعد ينقصها إلا الغناء في الوقت الذي تدك فيها سوريا دكا على مرأى ومسمع من العالم، وتحت غطاء عالمي يمكن للظلم، ويرسخ للبغي، ويؤسس لثقافة الغاب.
وفي الوقت الذي يعاني فيه المسلمون في أنحاء الأرض من الظلم والقهر والغصب، وفي الوقت الذي ينفرد فيه الشيعة الروافض الخبثاء بإخواننا أهل السنة في العراق وغيرها من البلدان، في ظل هذه الأجواء المشحونة والتي تحتاج إلى تكاتف وأخوة بين المسلمين، ورجوعا إلى الله تأتي هذه المسابقات لتقطع الصلة بواقع الجسد الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة، الجسد الذي تتداعى أعضاه بالسهر والحمى إذا اشتكى منه عضو، فكيف إذا اشتكت منه أعضاء!!
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، أمين أمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده نورا وسدادا، وجعل في طياته ما يضمن للفرد والمجتمع السعادة إمدادا وإرشادا، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن من ذكاه ربه في محكم البيان: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا بحبه وسعدوا بقربه ومن اتبع هداهم إلى يوم وعيده ووعده.
معاشر الصالحين: إن الاعتياد على الواجبات الإعلامية المسمومة في الغالب يقتل المناعة الفكرية، ويدمر الحصانة الإيمانية عند المتلقي الذي لا يزن الأمور بميزان الشرع، والذي يستوي عنده النجم والفحم، والورم واللحم، فإذا ما جاء أحد لينبه وينصح ويبين صارت ثائرة الذين يتبعون الشبهات، وأرعدوا وأزبدوا وتوعدوا وسخروا الوسائل لتزيف الحق، والانتصار للباطل، ومعلوم أن الباطل قد يبدو للناس حق، إذا قدم في ثوب التزيين والتزوير والتزييف، ولله در القائل:
في زُخرُفِ القَولِ تزيِيِنٌ لباطلِهِ ***والحقُ قد يَعترِيِهِ سوءُ تعبيرِ
تقولُ هذا مجاجُ النحلِ تمدحَهُ ***وانْ تَعِبَ قُلْتَ ذَا قيءُ الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما جاوزْتَ وصفَهُمَا ***حسن البيانِ يُرِي الظلماءَ كالنورِ
أيها الأحباب: إن كل إصلاح لا يجعل من الأخلاق منصة الانطلاق، ومحطة الوصول والانعتاق، وفي الحقيقة إصلاح مزيف لا يصلح إنسان، ولا يؤسس كيان؛ لأن المعول عليه في كل بناء، وإصلاح هو الإنسان لا التراب والزخارف والبنيان، وأي أخلاق تنشأ في ظلال الإغراق في الشهوات، والسماح بالشبهات، وفسح المجال لأرباب الضلالات، وأصحاب الانحرافات والخرافات.
ولقد أحسن شوقي وأجاد ما قال:
إنْمَا الأُمَمُ الأخلاق مَا بَقيتْ *** فإنْ هُمُ ذهبتْ أخْلاقُهُمْ ذهبُوا
ولقد حكى لنا القرآن مصائر أمم أبيدت وأهلكت وأصبحت أحاديث، وإذا ما أمعنا النظر في الأسباب التي وصلت بتلك الأمم إلى تلكم العاقبة وجدناها في الغالب أسباب أخلاقية؛ فهؤلاء قوم عاد أهلكهم كبرهم وعنادهم، قال الله عنهم: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ)[فصلت: 15-16].
وقوم شعيب ابتلوا بتطفيف المكيال والميزان، وهي مسألة أخلاقية، فعذبوا وعوقبوا، وقوم لوط غيروا الفطرة، واقتحموا الحرمات، فابتلوا بإتيان الذكران، وهو مرض أخلاقي عضال، ينبئ عن فقد الحس، وموت الضمير، فكان ما كان من بوارهم وخسارهم، ودمارهم وهلاكهم.
إنك أيها الحبيب إن أخذت خلق من الأخلاق، أي خلق، وتتبعته في مجتمعنا، بل وتتبعته في نفسك وجدت أن هناك خلل، خذ مثلا خلق الأمانة، وابحث في كل ما له علاقة بالأمانة في مجتمعاتنا، بدءا من الطرقات والشوارع وما فيها من الحفر التي يرتجف معها القلب، ولو كنا نذكر الله عند كل حفرة من الحفر في طرقنا، لكنا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات لكثرتها.
والأمر مثله في المستشفيات إلا من رحم الله هناك أهل الخير والفضل في كل مجال وفي كل مكان، وفي كل ميدان، ولكنهم قلة، في المستشفيات مثلا من يدفع يرفع، ومن لا يدفع يُدفع، وفي كل المرافق إلا من رحم الله تجد خلق الأمانة شبه غائب؛ لأن الناس في الغالب شغلوا بالدنيا، وصار هم أغلبهم تحصيل المال في أقرب الأوقات، وبأقصر الطرق.
ولو تتبعت خلق الحلم والصبر؛ وجدته عزيزا، انظر إلى الطرقات وما يحصل فيها من السب واللعن والشتم، ربما أخطأ الواحد منا في قيادة السيارة، فلا يجد حلما من الناس إلا فيما ندر وقل، وكم نسمع من السب بين مسلمين لأمر تافه بسيط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان" [رواه أحمد والطبراني والبيهقي].
ولو أردت خلق إمساك اللسان لوجدته عزيزا نادرا، إلا من رحم الله وسلم، فلقد تحولت ألسنتنا في الغالب إلى مقاريض، وسهام موجهة، غيبة ونميمة، وقذف واتهام.
ومن المعلوم أيها الأحباب أن من علامة الفراغ، والخواء الداخلي الموحش؛ الانشغال بالناس، وتتبع عوراتهم، والاهتمام بأخبارهم وأمورهم، مع العلم أن فينا من العيوب والمصائب ما فيه غنية عن الانشغال بالغير، ولكنه الفراغ الداخلي، والبعد عن مجالسة الصالحين، وقطع الصلة مع العلم النافع، وساهم في ذلك هذا التطور المخيف المتمثل في الشبكة العنكبوتية، وما فيها من المواقع التي لا هم لها إلا الخوض في الأعراض بحق وبغير حق، والبحث في خصوصية الناس ودواخلهم وأعراضهم، والحكم على نياتهم ومقاصدهم، ورحم الله عبدا شغلته عيوبه عن عيوب غيره.
وقل مثل ذلك في خلق القناعة والعفة والإيثار، وغير ذلك من الأخلاق الكريمة التي تستهدف اليوم، ويراد تدميرها، وقطع الأمة عنها بكل الوسائل.
أيها الأحباب: إن توتر العلاقة بين الأمم والأفراد، وبين مكارم الأخلاق هي علامة بداية الاندحار والاندثار، ومن ثم وجب تدارك الأمر، ووصل الناس بمنابع الأخلاق الكريمة الراقية الزاهية، والتي يمثل الكتاب والسنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عينها ومعينها، وأصلها ومثلها، ولقد دعانا الله إلى النهل من هذه العين الصافية الرقراقة، والأخلاق العالية المتألقة، وذلك بإبراز مثلها الأجمل، وأنموذجها الأكمل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21].
ولنستمع إلى طائفة من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القضية العظيمة، قضية الأخلاق، نسمعها لتتطهر النفوس، وترتقي إلى منازل الأبرار.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" [رواه الترمذي].
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتي الله بعبد من عباده -يعني يوم القيامة - آتاه الله مالا، فقال له: ما عملت في الدنيا؟- قال: ولا يكتمون الله حديثا- قال: يا رب آتيتني مالك". ويبدو أن هذا الرجل كان صاحب أخلاق، قال: "آتيتني مالك" نسب المال إلى الله تواضعا "آتيتني مالك فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز" أي التجاوز "فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذلك منك تجاوزا عن عبدي" [رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقا" [رواه الترمذي].
وعن أبو إمامه الباهلي قال صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم -أي ضامن- ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء -أي الجدل- وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" [رواه أبو داوود].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" [رواه أبو داود].
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون" [رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: "الفم والفرج" [رواه الترمذي].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء " [رواه الترمذي].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار: على كل قريب هين سهل" [رواه الترمذي].
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" بوجه مبتسم، [رواه مسلم].
وعن أنس رضي الله عنه قال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لما صنعته، ولا لشيء تركته لما تركته" صلى الله عليه وسلم.
يتضح لنا أيها الأحباب من خلال هذه الجواهر النبوية، والدرر المحمدية؛ أن الأخلاق من دين الله بمكان، وأنه يجب على كل منتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمل جاهدا على أن يصلح أخلاقه، وذلك في الإمكان لمن وفقه الله وأعان؛ لقول رسول الله صلى لله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يستغني يغنه الله، ومن يعف يعفه الله" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولله در القائل:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى *** فإن أعطيت تاقت وإلا تسلت
ويقول الآخر:
النفس راغبة إذا رغبتها وإذا تر إلى قليل تقنع
وسنواصل إن شاء الله الرحلة مع رياض الأخلاق الظاهرة الناضرة.
اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق.
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (2)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (4)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (5)
التعليقات