عناصر الخطبة
1/الصيف موعظة بليغة 2/من عبر ومواعظ شدة الحر 3/النهي عن التذمر من الحر 4/وسائل اتقاء شدة الحراقتباس
هذا التذمرَ لنْ يُغيرَ منَ الأمرِ شيئًا، ثمَ ألا نَشكرُ اللهَ على نعمةِ التكييفِ بالمنازِل والمجالسِ والمساجدِ والمدارسِ والمكاتبِ، بل والأسواقِ والمنتزهاتِ، قالَ بعضُ السلفِ: "إذا حَمِيَ عليَّ حرُ الصيفِ برّدتُه بذكرِ النعمِ"...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحمدُ لِلهِ، نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ تَسْلِيْماً كَثِيْراً.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقُوا اللهَ؛ فتقوَى اللهِ ما جاورَتْ قلبَ امرئٍ إلا وصلْ.
أيُها المؤمنونَ: نعيشُ هذهِ الأيامَ موعظةً بليغةً، يشهدُها الأعمى والبصيرُ، إنها واعظُ الصيفِ، فهل أصغتْ قلوبُنا لموعظتهِ؟!.
لقدْ أوقدتِ الشمسُ نارَها، وأذكتْ أُوارها، فأيُّ شيءٍ تَعلمناه من شدةِ الحرِ؟ وإنها -واللهِ- لحِكمٌ وعِبرٌ نتلقاها من حرِ الصيفِ، الذي يَمرُ علينا كلَ سنةٍ شئنا أم أبَيْنا.
ومن هذهِ الحكمِ والعبرِ: أولاً: أن اللهَ -تعالَى- جعلَ ما في الدنيا من شدةِ الحرِ مذكراً بحرِ جهنمَ، ودليلاً عليها، فقد روَى الشيخانِ أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ".
فيا مَنْ لا يصبرُ على وقفةٍ يسيرةٍ في حرِّ الظهيرةِ، كيفَ بك إذا دنتِ الشمسُ من رؤوسِ الخلقِ، وطالَ وقوفُهم، وعظُمَ كربُهم، واشتدَ زحامُهم؟! روى مسلمٌ أن رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا".
ثانيًا: من العبرِ في هذا الحرِ: أن نَذكُرَ به جنةَ ربِنا كما نَذكرُ به نارَه، فهل تعلمونَ أن أهلَ الجنةِ يدخلونَها يومَ يدخلونَها في شدةِ القيلولةِ، كما أن أهلَ النارِ يدخلونَها كذلكَ؛ لقولِ الحقِ -سبحانَه-: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا)[الفرقان: 24]، قالَ عكرمةُ: "إني لأعرفُ الساعةَ التي يدخلُ فيها أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، هيَ الساعةُ التي تكونُ في الدنيا عندَ ارتفاعِ الضحَى الأكبرِ، إذا انقلبَ الناسُ إلى أهليهِم للقيلولةِ"(تفسير ابن كثير)، قالَ بعضُ السلفِ: "إن اللهَ وصفَ الجنةَ بصفةِ الصيفِ لا بصفةِ الشتاءِ فقال: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ)[الواقعة: 28 - 33]"(لطائف المعارف).
ثالثًا: ومما نعتبرُ به في هجيرِ القائلةِ وحرِ الصيفِ أن نَذكرَ نعمَ اللهِ علينا، يومَ أن نرَى ما يُعانيهِ الفقراءُ والمساكينُ، فيومَ نَنعمُ بالهواءِ الباردِ في منازِلنا ومساجدِنا ومكاتبِنا ومراكبِنا، فلنَذكرْ قوماً أضناهمُ الفقرُ، فصارُوا يعيشونَ تحتَ سمومِ الحرِ وتَضخُمِ الفواتيرِ، يَستَجْدونَ من يُسددُها عنهم، فهل فكرتَ أن تُسددَ عن فقيرٍ فاتورتَهُ؟ أو تُدخلَ على مُعوِزٍ مكيفاً تجدُ بَرْدَه يومَ تَدخلُ قبرِك؛ ليأتيَك من بردِ الجنةِ وطِيْبِها هناكَ؟.
رابعًا: منَ العبرِ في حرِ الصيفِ أن نَفهمَ حكمةَ اللهَ في تَعَاقُبِه كلَ سنةٍ وتَدَرُّجِهِ، وما يَنتجُ عنه من منافعٍ، قالَ ابنُ القيمِ -رحمهُ اللهُ-: "في الصيفِ تنضجُ الثمارُ، وتَنْحَلُ فضلاتُ الأبدانِ والأخلاطِ، التي انعقدتْ في الشتاءِ، وتَغُورُ البرودةُ، وتهربُ إلى الأجوافِ؛ ولهذا تَبردُ العيونُ والآبارُ"(مفتاح دار السعادة).
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي هدَانا وأعطَانا، وصلاةً وسلامًا على مَن زكَانا ودعَانا.
أما بعدُ: فقد أصبحَ من المعتادِ لدى الناسِ تَتبُّعُ درجاتِ الحرارةِ، وإتْباعُهم ذلكَ بالتأففِ والتألمِ من شدةِ الحرِ، وقد كانَ السلفُ يُحاسِبُ أحدُهمْ نفسَه في قولهِ: "يومٌ حارٌ، ويومٌ باردٌ".
ويَجملُ بالمسلمِ التوقيْ عن اتخاذِ هذا حديثاً في المجالسِ؛ لأن هذا التذمرَ لنْ يُغيرَ منَ الأمرِ شيئًا، ثمَ ألا نَشكرُ اللهَ على نعمةِ التكييفِ بالمنازِل والمجالسِ والمساجدِ والمدارسِ والمكاتبِ، بل والأسواقِ والمنتزهاتِ، قالَ بعضُ السلفِ: "إذا حَمِيَ عليَّ حرُ الصيفِ برّدتُه بذكرِ النعمِ"(تاريخ بغداد).
يَرغبُ الإنسانُ في الصيفِ الشتا *** فإذا جاءَ الشتا أنكرهُ
إنه لا يــرضَى بحــالٍ أبداً *** قُتِلَ الإنســــانُ ما أكفرهُ
وقد أرشدَنا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدلَ التذمرِ من الحرِ أن نستعيذَ من النارِ، فقد قَالَ: "مَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ"(فتح الباري لابن رجب).
أيُها المسلمونَ: مرتْ علينا أيامٌ جاوَزَتْ فيها الحرارةُ الخمسينَ، فهل أدركْنا نعمةَ الكهرباءِ فاقتصَدْنا في استهلاكِها، وهلْ شَكرْنا ربَنا على تسخيرِها، ثم هلْ مِنْ شُكرِ نعمةِ الكهرباءِ أن نُشغّلَ بها ما حرَّمَ اللهُ؟ وهلْ مِنْ شُكرِها تشغيلُ ما زادَ عن حاجتِنا؟!.
فاللهم اجعلنا لكَ ذكّارينَ، شكّارينَ، منيبينَ، مخبتينَ، مِطواعينَ، رَبَّنَا أَوْزِعْنَا أَنْ نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا وَعَلَى وَالِدَيْنَا وَأَنْ نَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لَنَا فِي ذُرِّيَّتِنَا، اللهم تقبلْ توباتِنا، واغسلْ حَوباتِنا، وأجبْ دعواتِنا، اَللَّهُمَّ اِحْفَظْ دِيْنَنَا وَأَمْنَنَا وَحُدُوْدَنَا وَجُنُوْدَنَا. وَاحْفَظْ ثَرَوَاتِنَا وَثَمَرَاتِنَا، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنَا لِلإِسْلاَمِ، أَلاَ تَنْزِعَهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحْنُ مُسْلِمُونَ، اَللَّهُمَّ وَفّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَارْزُقْهُمْ بِطَانَةَ اَلصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمَ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ.
التعليقات