عناصر الخطبة
1/ اسم الله اللطيف في القرآن والسنة 2/معاني اسم الله اللطيف 3/بعض مظاهر لطف الله بخلقه 4/ آثار الإيمان باسم الله اللطيف.اقتباس
ومن لطفه -سبحانه- أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى إليها, ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي, وهذا المعنى يتجلى واضحًا في قصة يوسف -عليه السلام-, فقد لطف الله به من حين أُلقيَ في الجبّ، مرورًا بالفتنة والسجن، حتى مكَّن الله له في الأرض، ولهذا قال معترفًا بذلك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: فإن من أسماء الله الحسنى التي تكررت أكثر من مرة, اسم الله "اللطيف"، قال تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103], وقال -تبارك وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[الحج: 63], وقال -جل وعلا-: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16], وقال -سبحانه-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
وقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه بأنه اللطيف، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تخرج خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة من الليالي في الظلام الدامس؛ غيرةً عليه -صلى الله عليه وسلم-، إذ ظنت أنه ذاهب لإحدى زوجاته، فإذا هو يذهب إلى "البقيع" قبور أصحابه ليستغفر لهم، ورجعت هي أمامه مسرعةً، فلما دخل وجدها ليست بحال النائم, بل تحت الغطاء وصدرها يخفق بشدة كأنها كانت تجري، ولم تكُ نائمة، فسألها، فلم ترد، فعندها قال لها: قَالَ لها: "لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (مسلم).
عباد الله: اللطيف لغةً: هو الرفيق, الذي يوصل إليك حاجاتك في رِفْق، وهو الذي اجتمع له الرِّفق في الفعل، والعلمُ بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدَّرها له.
ولاسم الله اللطيف معنيان عظيمان:
الأول: أن الله يعلم دقائق الأمور وخفاياها ، وما في الضمائر والصدور, قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الذي لَطُفَ علمه حتى أدرك الخفايا والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور".
المعنى الثاني: أن الله تعالى يحسن إلى عباده من حيث لا يحتسبون, ويسوق إليهم ما به صلاحهم من حيث لا يشعرون قال الزجاج : "المحسن إِلَى عباده فِي خَفَاء وَستر من حَيْثُ لَا يعلمُونَ، ويسبب لَهُم أَسبَاب معيشتهم من حَيْثُ لَا يحتسبون".
فاللطيف -سبحانه- هو الذي دقَّ علمه حتى أدرك السرائر والضمائر، وأحاط بالخفيات من الأمور، واحتجب عن أن يُحاط به أو تُدْرَك كيفيته، فهو الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفاياها، وسرائرها معرفةً دقيقةً دون شعور الإنسان بثقل من وجود الله ومعيته.
فمن دقة علمه وعظيم إحاطته بخفيّ ودقيق المعلومات أنه -سبحانه- يعلم ما يجول في خواطر الإنسان، وما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس وأفكار، كما أنه -سبحانه- يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ومع ذلك لا يحيط العباد به علمًا، قال تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103] فسبحان اللطيف الخبير!.
واللطيف -سبحانه- هو الذي يُجرِي رحمته تحت أستار الخفاء، يوصّل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه بالطرق الخفية، التي لا يشعرون بها، ويهيئ مصالحهم من حيث لا يحتسبون، قال تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ) [الشورى: 19].
وهو -سبحانه- لطيف بعباده رفيق بهم, يعامل المؤمنين بعطف ورأفة، ويدعو المخالفين إلى التوبة والغفران، مهما بلغ بهم العصيان.
ومن لطفه -سبحانه- أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى إليها, ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي. وهذا المعنى يتجلى واضحًا في قصة يوسف -عليه السلام-, فقد لطف الله به من حين أُلقيَ في الجبّ، مرورًا بالفتنة والسجن، حتى مكَّن الله له في الأرض، ولهذا قال معترفًا بذلك اللطف الإلهي: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 100]، فاللطيف -سبحانه- جمع له من العلم والنبوة، وساق إليه المنافع، وأوصلها إلى يوسف -عليه السلام-، من غير أن يشعر، مع كل الابتلاءات التي ظاهرها الهلاك إلا أن الله أنجاه ولطف به.
أيها المسلمون: والله -تبارك وتعالى- رفق ولطف بعباده في كل شيء، فقد لطف بهم -سبحانه- في الأوامر الشرعية، فقد أنزل القرآن مفصلاً ومنجّمًا، وتدرج تشريع الأحكام وفرض الفرائض والواجبات، وما فيها من اليسر والمرونة حتى اكتملت، وأصبحت دينًا كاملاً ارتضاه ربنا لعباده، كل ذلك خير شاهد وأعظم دليل على لطف الله بعباده.
ومن لطف الله بخلقه اللطف في النهي؛ فإن الشريعة لم تأتِ جملة واحدة؛ بحيث يدرك العبد المحرمات كلها دفعة واحدة, بل تدرجت بحسب الوقائع والحاجات, حتى إن بعضًا مما حرَّمه الله لاحقًا استمر على الإباحة وقتًا طويلاً, ومنها ما نزل الحكم فيها تدريجيًّا؛ لطفًا من الله بالذين اعتادوا عليها وألفوها, ونستشهد بمثال تحريم الخمر, فقد كان بالتدريج؛ مراعاةً للنفوس التي اعتادت شربها.
وقد وصف الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالرفق، فقال -جل وعلا-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، وحثّ ربنا -تبارك وتعالى- الأنبياء والدعاة والمصلحين على اللطف والرفق في دعوة البشر إلى الله, قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا) [ طه: 43- 44]، فقد أمر الله نبيه موسى أن يكون لطيفًا مع فرعون, مع أنه أعتى عصاة الأرض.
أيها المؤمنون: وإن مظاهر لطف الله بعباده أنه يسوق إليهم أرزاقهم وما يحتاجونه في معاشهم، وما زال أحدهم جنينًا في بطن أمه في ظلمات ثلاث، فحفظه ورعاه، وغذّاه بواسطة الحبل السري إلى أن ينفصل، ثم ألهمه بعد الانفصال التقام الثدي، وتناول الحليب منه بالفم، ثم تأخير خلق الأسنان إلى وقت الحاجة إليها بعد الفطام.
ومن لطفه -سبحانه- بعباده المؤمنين أنه -جل وعلا- يتولاهم بلطفه، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر، والبدع والمعاصي، إلى نور العلم والإيمان والطاعة، كما يقيهم طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوء والفحشاء، مع توافر أسباب الفتنة، وجواذب المعاصي والشهوات، فيمنُّ عليهم ببرهان لطفه ونور إيمانه، فيدعون المنكرات مع اطمئنان نفوسُهم، وانشراح صدورُهم.
ومن مظاهر لطف اللطيف -سبحانه- بعباده أن الإنسان عندما يعمل الطاعة يشعر بانشراح في الصدر، وعندما يعمل المعصية يشعر بانقباضٍ وضيقٍ في الصدر، ويشعر بالوحشة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- لمن سأل عن البِرّ؟: "البرّ ما اطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاك في الصدر" (مسند أحمد وفي سنده مقال).
وفيه أن الله -سبحانه- أودع في الإنسان حاسة أو لنقل آلة لقياس الخير والشرّ قبل الإقدام عليه, ومن اللطف أن الله يُشْعِر الإنسان بأقل شيء، سواء بالإقبال أو الإدبار عليه.
ومن لطفه -جل وعلا- بعبده أن يبتليه أحيانًا ببعض المصائب، ثم يوفّقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، حتى ينال رفيع الدرجات، ويكرم عبده بأن يُوجِد في قلبه حلاوة الرجاء، وانتظار الفرج، وكشف الضر، فيخف ألمه وتنشط نفسه. قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفّف حمل المشقة، ولاسيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من رَوح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعجَّل، وبه وبغيره يُعرف معنى اسمه اللطيف".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على خير الورى، أما بعد:
عباد الله: متى استيقن العبد معاني اسم الله اللطيف، واستشعر لطف الله -تعالى-، دفعه ذلك إلى امتثال كثير من الآثار الإيمانية، منها:
الإيمان بعظيم علم الله -تعالى-، فلا يخفى عليه من المعلومات شيء، وإن دقت وخفيت ولطفت, قال الشوكاني: "إن الله لطيف لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي، وهذا يستلزم من العبد تعظيم الله -سبحانه-، ومراقبته في السر والعلن، في السكنات والحركات، فكلما زاد يقينه بلطف علم الله -تعالى-، كلما ازداد مراقبةً له وحياءً منه في خلوته وجلوته".
ومن الإيمان باسم الله اللطيف: إثبات ما تضمَّنه من أوصاف الجمال والجلال والعظمة، بلا تعطيل أو تحريف، ولا تمثيل أو تكييف، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، تنزيه بلا تعطيل، وإثبات بلا تمثيل.
ومن الآثار الإيمانية: عدم اليأس والقنوط من رحمة الله -سبحانه-، وإحسان الظن به، مهما تكالبت الخطوب، واشتدت النوازل، فلرب فرجٍ عظيم في باطن ضيق شديد، ولرب سعادة دائمة خُتمت بشقاء عابر، فقضاء الله كله خير للعبد المؤمن، إن صبر واحتسب، وأحسن الظن في اللطيف الخبير –سبحانه-.
ومن الآثار الإيمانية: التحلي بهذه الصفة الجميلة، أن يكون الواحد في عمله وحياته عالمًا بدقائق الأمور، ولا يكن سطحيًّا، فلطيف اليد هو من كان حاذقًا في صنعته، مهتديًا إلى ما يصعب على غيره.
وإذا أردت -عبد الله- إحداث تغيير فيمن حولك، فاجعل هذا التغيير تدريجيًّا؛ لئلا تثقل على الناس, فالناس أعداء ما يجهلون.
وإذا دعوت إلى الله -عز وجل-, فكن رحيمًا لينًا لطيف القول والردّ, ولا تكن فظًّا, قال -جل وعلا-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
وإذا أمرت الآخرين فليكن أمرك بلطف, وعلى قدر استطاعة المأمور، وقد قيل: "إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستَطاع"، ولذلك جاءت الشريعة متناسبة مع طاقة الفرد, ومواكبة لقدراته، قال اللطيف -سبحانه-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، وهذا إخبار عن عدل الله ورحمته ولطفه.
وينبغي أن يتصف العبد بالحنوّ على الضعفاء واليتامى والمساكين، والتلطّف معهم ومجاملتهم، وعليه أن ينتقي لطائف القول في حديثه مع الآخرين، ويبشّ في وجوههم, فقد أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بعدم نهر السّائل: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى: 10], وقال رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" (صحيح مسلم).
عباد الله: إن معرفة الله باسمه اللطيف المتضمن لمعنى عظيم من معاني الجمال، كرفقه - سبحانه- بعباده، وإيصاله مصالحهم بطرق خفية تورث من حقّق معرفتها محبة الله -سبحانه-، والتعلق به وتعظيمه.
فاسألوا لله لطفه وعفوه تنالوا بركات اسمه اللطيف.
ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
التعليقات