عناصر الخطبة
1/من شمائل النبي -عليه الصلاة والسلام- 2/صور من رحمة النبي وسماحته 3/الاستهزاء بالأنبياء ظاهرة قديمة 4/دفاع الله -تعالى- عن نبيهاقتباس
أحبَّه كلُ شيءٍ حتى الجماداتُ الصماءُ، والبهائمُ العجماءُ، أحبَّه جبلُ أحُدٍ، وحَنَّ الجِذْعُ إليه، وسلَّمَ الحَجَرُ عليهِ، وسبَّحَ الحصَى في كفَّيهِ، واشتكى الجَمَلُ إليهِ، وقاتلَتِ الملائكةُ بين يديهِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ الذِيْ جَعَلَ لَنَا دِيْنًا هُوَ خَيْرُ الأَدْيَانِ، وَأَنْزَلَ لَنَا كِتَابًا هُوَ خَيْرُ الكُتُبِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُوْلاً هُوَ خَيْرُ الرُّسُلِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
أَمَّا بَعْدُ: إنه شامةٌ في جبينِ التاريخِ؛ فما أشرقتِ الشمسُ ولا غربتْ على أطهرَ منه نفْساً, إنه محمدٌ عبدُ اللهِ ورسولُه -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- الذي جمعَ اللهُ له بين المحامدِ كلِها, فكان محمداً، ورفعَ اللهُ ذِكرَه, وأعلى قَدرَه, فكان سيّداً.
جاءَ أمةً بأكملِها كانتْ تعيشُ في مَجَاهِلِ التاريخِ قرونًا، فأحيا اللهُ به مَوَاتَها عِلمًا وإيمانًا؛ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الجمعة: 2].
ولازالَ العالَمُ يتساءَلُ في دهشةٍ: كيفَ استطاعَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أن يَنهضَ بهذهِ الأمةِ في وقتٍ وجيزٍ؟ وكيف سلّمَ زمامَ التاريخِ لأمةٍ كانت تعيشُ على هامشِهِ؟! (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص5].
كان -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على ما حباهُ اللهُ من العَظَمةِ والمهابةِ الرحمةُ والسماحةُ؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107], يُشفقُ على أمٍ يبكِي صغيرُها فيُوجِزُ صلاةً كان يريدُ إطالتَها، ويُطيلُ سجودَه لصبيٍ ارتحلَه، ويقطعُ خطبتَه لطفلٍ يتعثرُ في رداءَه، بل يُشفقُ على من كذبُوه ولم يُؤمنوا به، فكم تحبَّبَ إلى عمِهِ أبي طالبٍ ورجاهُ رجاءَ الولدِ لوالدِهِ فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ! قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"(صحيح البخاري).
واشتدَ حرصُه -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على نجاةِ قومِهِ المعرِضين، حتى كادَ يُهلِكُ نفسَه شفقةً عليهم، فيأمرُه ربُه -عز وجل- بالرفقِ بنفسِهِ: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 3], بل إن رحمتَه لتتدفقُ في قلبِهِ الكريمِ في أشدِ ساعاتِهم إيذاءً له، فقد مَسَحَ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ يومَ أحُدٍ وقالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"(صحيح البخاري).
اللهُ أكبرُ!, ما أرحمَه وأعظمَه!, أصحابُه قتلَى وجرحَى، وجَبينُه مشجوجةٌ، ورَباعيتُه مكسورةٌ، ثم يدعُو لهم بالمغفرةِ، ويَنتسِبُ لهم بقولِهِ: "لِقَوْمِي", ويَعتذِرُ عنهم بـ"إنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ".
ما ضَربَ بيدِهِ أحداً, وما انتقَمَ لنفسِهِ، بل حتى المرأةُ اليهوديةُ التي دبرتْ لقتلِهِ بلحمِ الشاةِ المسمومةِ عفا عنها، ولم يأمُرْ بقتلِها؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آل عمران: 159].
أحبَّه كلُ شيءٍ حتى الجماداتُ الصماءُ، والبهائمُ العجماءُ، أحبَّه جبلُ أحُدٍ، وحَنَّ الجِذْعُ إليه، وسلَّمَ الحَجَرُ عليهِ، وسبَّحَ الحصَى في كفَّيهِ، واشتكى الجَمَلُ إليهِ، وقاتلَتِ الملائكةُ بين يديهِ.
فاللهم وفِقْنا للإيمانِ به، والعملِ بما دلَّنا عليهِ، والذَّودِ عنه وعن شريعتِهِ، لنَرِدَ حوضَه؛ فنستقِيَ منه شَرْبةً لا نظمأُ بعدَها أبدًا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ الذِيْ هَدَانَا، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى مَنْ لِلْهُدَى دَعَانَا.
أَمَّا بَعْدُ: فإن ممارسةَ الاستهزاءِ بالأنبياءِ ممارسةٌ قديمةٌ قِدَمَ التاريخِ؛ (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)[الحجر: 11], وإن كلَ حدَثٍ فيه استهزاءٌ بالنبيِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يُثمِرُ للمسلمينَ؛ فيُثِيْرُ في قلوبِهمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةً دينيةً، ولو أنَّ أعداءَ اللهِ يُدركونَ أن استهزاءَهم يوقِدُ في نفوسِ المؤمنينَ جَذْوَةٌ لأحجَمُوا عن فَعْلَتِهم، ولكنْ؛ (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)[الحشر: 2], (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 30].
ونحنُ نعتقِدُ أن اللهَ -سبحانَه- سيَحمِيْ سُمعةَ رسولِهِ محمدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-, ويُخَلِّدُ ذِكرَه الحَسَنَ؛ مِصداقًا لِمَا قالَ ربُنا (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95], ولما قَالَ رَسُولُه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا؛ وَأَنَا مُحَمَّدٌ؟!"(صحيح البخاري), فهمْ يَشتِمونَ شخصًا في خيالاتِهِمُ العَفِنةِ، وليستْ تلك الموصوفاتُ تُطابِقُ صفاتِ نبيِنا الكريمِ!.
وإن اللهَ قد توعّدَ المؤذِينَ لرسولِهِ بالانتقامِ, يقولُ ربُنا المنتقِمُ: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]؛ أي: إنَّ مُبْغِضَكَ يا محمدُ هُوَ الأذلُ المنقطِعُ من كلِ ذِكرٍ, وفي هذا يقولُ ابنُ تيميةَ -رحمهُ اللهِ-: "وَكُلُّ مَنْ شَنَأَهُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الِانْبِتَارِ عَلَى قَدْرِ شَنَاءَتِهِ لَهُ"(مجموع الفتاوى).
معاشرَ الغيورِينَ لنبيِهِم -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: إن ربَنا وهبَنَا سلاحاً فتّاكاً لا يُصيبُه العَطَبُ، نحارِبُ به أعداءَنا؛ ألا وهوَ الدعاءُ.
فاللهمَ -هازمَ الأحزابِ- اهزمِ المستهزئِينَ؛ لقاءَ ما عادَوا رسولَكَ, وحارَبُوا عبادَكَ المؤمنينَ, اللهم شتتْ شملَهم، وفرّقْ رأيَهم.
اللهم إنا آمنا بنبيِك -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأحببنَاهُ واتّبعْنَاه وما رأينَاهُ, اللهم فلا تحرِمْنا رؤيتَه يومَ القيامةِ, اللهم اجعلنا من إخوانِهِ الذين تمنَى رؤيتَهم يومَ قالَ: "وددتُ أني رأيتُ إخوانِيَ الذين لم يأتُوا بعْدُ".
اللهم بارِكْ في عُمُرِ وليِّ أمرِنا ووليِ عهدِه, وزِدْهُم عِزًا وبذلاً في نُصرةِ الإسلامِ وخدمةِ المسلمينِ, اللهم واكفِنا وبلادَنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجارِ، وانصرْ مجاهدِينا ومرابطِينا, وانصرْ المستضعفينَ من المسلمينَ في بقاعِ الأرضِ.
اللهم صلِ وسلِم على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
التعليقات