عناصر الخطبة
1/ مشقة وصعوبة تربية الأبناء 2/ الحذر من إرغام الأولاد على سرعة تغيير سلوكياتهم الخاطئة 3/ التدرج في تربية الأبناء 4/ خطوات ينبغي اتخاذها في تربية الأبناءاهداف الخطبة
اقتباس
التربية عمل شاق وجهد يحتاج إلى وقت، ومن الخطأ أن يظن البعض أن إحداثَ عملية تعديل السلوك عند الأولاد يتم بين عشية وضحاها، فهذا مجانب للصواب؛ لأن من أصعب المهمات التي يقوم بها الآباء..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طريق الصلاح وحذّر من طرق الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
معاشر الصالحين والصالحات: عودة إلى موضوع التربية البيتية ومع الدرس السادس والأخير من هذه السلسلة، وقد مر بنا في جُمع سابقة الحديثُ عن نعمة الأولاد وأهمية التربية، ثم الحديث عن الوسائل الخاطئة التي ينتهجها بعض الآباء في تربيتهم وتعاملهم مع أولادهم، ثم الحديث عن الأساليب الناجعة في التربية، وقد كانت خلاصة الدرس السابق: أن النصائح أو التوجيهات كلما كانت تُظللها المحبة، وتكتنفها الألفة، وتغشاها الرحمة، وتزينها الحكمة، كلما كان للنصائح أثرها، وللتوجيهات استجابتُها، ويُبنى على إثر ذلك جسر من الثقة بين الأولاد والآباء، فيرى الولد في والديه متنفساً لهمومه، طبيباً لمشكلاته، دليلاً لحيرته واضطراباته، ويرى الوالدان في ولدهما ما يأملان ويرجوان.
وكل ذلك عن طريق الحكمة في التربية.
أما موضوع اليوم فهو الحديث عن أسلوب آخر من الأساليب الناجعة كذلك، وهو أسلوب التدرج في التربية والتوجيه والإرشاد.
فأقول: وبالله التوفيق: التربية عمل شاق وجهد يحتاج إلى وقت، ومن الخطأ أن يظن البعض أن إحداثَ عملية تعديل السلوك عند الأولاد يتم بين عشية وضحاها، فهذا مجانب للصواب؛ لأن من أصعب المهمات التي يقوم بها الآباء، مهمة تحويل سلوك أولادهم وتعديله، وهذا يحتاج إلى وقت كافٍ من التخطيط والتنفيذ المتدرج، فترك الأولاد للعادات السيئة التي كانت جزءًا من حياتهم ليست بالأمر السهل، وفكرة تحويلهم واعتيادهم على عادات حسنة ليست بالأمر الهين كذلك، فكِلا الأمرين بحاجة لفترة زمنية كافية، سواء في الاعتياد على ترك ما هو سيء، أو فعل ما هو حسن، وكلما كانت العادات السيئة مستحكمة أكثر، كلما كانت الحاجة إلى التدرج شيئا فشيئا، وإلى وقت كاف لتغييرها وتعديلها إلى ما هو حسن أو أحسن.
ولهذا نجد أنه من لا يتعامل مع هذه الحقيقة، ويعمد إلى الأسلوب الاستعجالي في التربية، يَفشل في مهمته، إذ سُرعان ما يصاب بالملل واليأس، ويستسلم وقد أيقن أنه لا قدرة لديه في الوصول إلى الأهداف المرجوة من التربية.
لذا -معاشر الآباء والأمهات- علينا أن لا نستعجل الشيء قبل أوانه وخاصة فيما يخص العملية التربوية.
علينا إذا بذلنا ما بوسعنا لأولادنا وبينا لهم ونصحنا لهم واستنفدنا كل الطاقات أن لا نستعجل النتائج، بل علينا أن نستمر ونصبر ونصابر في حرصنا عليهم، وعلى استقامتهم، قال ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200]، وقال سبحانه: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1].
علينا أن نبتعد عن التربية المتمثلة في إرغام أولادنا على السلوك السريع لما نطلب منهم، سواء تحت شعار الواجب الشرعي أو الواجب الأسري، فربنا -سبحانه- يخاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132]، اصطبر ولا تستعجل؛ لأن العجلة هي العدو الأول للتربية.
علينا أن نراعي مفهوم التدرج، ونسعى إلى تحقيقه في برامجنا التربوية، وليس في الأسرة فحسب، وإنما في المدرسة أو في أي مؤسسة تربوية أخرى تسعى للوصول إلى النهوض الحقيقي الفاعل في العملية التربوية، فالوصول المتدرج إلى الهدف المنشود، أقوى وأمتن وأدعى في الاستمرار والدوام.
وهذا هو منهج القرآن الكريم وأسلوبُه القويم الذي ارتبط بالتغيير التربوي للسلوك البشري.
فكل من وقف واستقرأ وتدبر المنهج الرباني في التشريع وإنزال الأحكام والتبليغ، تأكد له أن التدرجَ في نزول الآيات التي ارتبطت بالتغيير التربوي للسلوك البشري سنةٌ من سنن الشريعة الربانية.
لقد كان التشريع الذي نزل من عند الحكيم الخبير، يرعى التدرج في تمرين الناس وتعويدهم على قبول الشرائع وترويضهم عليها، حيث خوطب الناس ابتداء بالأهم فالأهم، فكان التأكيد أولا على تحقيق التوحيد، حتى إذا استقرت نفوسهم، أُمروا بالفرائض ثم سائر الشرائع والأحكام، تقول عائشة -رضي الله عنها- فيما روى البخاري: "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ، نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا".
لقد كان الخطاب التربوي في القرآن الكريم وكذا في السنة النبوية، خطابا تدريجيا يتناسب مع متطلبات منظومة التربية، فلم يكن من اليسير أن ينتقل أهل الجزيرة العربية مما هم عليه من ضلال وانحراف وفساد أخلاقي وفوضى إنسانية إلى مجتمع تتكامل فيه أصول التربية الإسلامية الحميدة.
لذلك نقرأ عن أشخاص كانوا يعيشون في درك الجاهلية، وإذا بهم يتحركون بتدرج تربوي سلس نحو قمة الإسلام، ليصنعوا بعدها نماذج للسلوك البشري في شتى المجالات، لتبقى هذه السلوكات حديثا عبر التاريخ.
ومن هنا كان إعمال منهج وأسلوب التدرج في التشريع التربوي ضرورةً منهجية فرضتها الطبيعة الرسالية لهذا الدين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة على من لا نبي بعده.
التدرج في التربية أسلوب يدل على حكمة المربي، وهو كذلك أسلوب يدل على قدرة صاحبه على التلطف في مخاطبة العقول والأفهام، ومراعاتِه للخصائص النفسية والعقلية والاجتماعية التي يعيشها المتربي في مرحلة ما من مراحل نموه.
وهذا ما فعله لُقمان مع ابنه حيث انتهَج لقمان منهجَ وأسلوبَ التدرج في التربية والتلقين، وبدأ بأهم المسائل وأصولِها.
فبدأ مع ابنه أول ما بدأ: بعدم الشرك بالله -عز وجل-، وحذَّره من أن الشرك ظلم عظيم، فقال: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
ثم انتقل به إلى الوصية الثانية: وجوب طاعة الوالدين والإحسان إليهما: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) [العنكبوت: 8].
ثم تدرج معه إلى لزوم اتباع طريق أهل الصلاح ومعاشرتهم: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) [لقمان: 15]
ثم انتقل به إلى وجوب مراقبة الله -تعالى- في الحركات والسكنات، وفي السر والعلن، وكافة الأحوال والأعمال؛ لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16].
ثم أمره بإقامة الصلاة وأدائها بأركانها وواجباتها: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) [لقمان: 17].
ثم كانت الوصية السادسة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [لقمان: 17].
ثم أمره بالصبر لما سيتعرض له من ابتلاء في كافة الأحوال، فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) [لقمان: 17].
ثم نهاه عن الإعراض والصد عن الناس أثناء حديثه معهم، أو حديثهم معه تكبرا عليهم واحتقارا لهم، بل يجب الاقبال عليهم بوجه طليق مع وجوب التواضع لهم وإلانة الجانب، وتلك هي الوصية الثامنة: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان: 18].
ثم كان التدرج في الوصية التاسعة فنهاه عن المشي بتكبر وخيلاء إعجابا بالنفس، أو افتخارا على الغير: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) [لقمان: 18]، وأمره بالمشي باعتدال، فقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) [لقمان: 19].
ثم ختم بالوصية العاشرة: فحثه على خفض الصوت وعدم رفعه فوق الحاجة لئلا يُؤْذي السامع، مُشبها رفع الصوت فوق الحاجة، بصوت الحمير الذي يُعد من أشد الأصوات وأقبحها لكونه مرتفعا: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19].
وختاما -معاشر المؤمنين والمؤمنات- إذا نظرنا في هذه الوصايا التربوية للقمان الحكيم رأينا أنها تساعد في تأصيل أسلوب التدرج التربوي، وهو أسلوب قرآني يتدرج بالمربي في مدارج المربين وفقا لأسلوب تربوي بديع، يتخير فيه المُربي المواضيعَ المناسبة، وينتقل من خلاله من موضوع إلى موضوع آخر، ومن فكرة إلى فكرة، معتمدا على الحجة المقنعة، والبرهان الواضح.
وهو أسلوب يحتاجه كلُّ قائم على أيَّة عملية تربوية في أي مكان أو زمان.
التعليقات