عناصر الخطبة
1/خلق الإنسان ضعيفًا 2/وسطية الإسلام في التعامل مع الإنسان 3/عدم مصادم الشريعة للفطرة والطبيعة الإنسانية 5/النهي عن مجالس المنكر 6/خطورة إلف المعصية واستمراء المنكر.اقتباس
يعظم المنكر، إن صحب المرء معه غيره، أو دعاه إلى حضور مجلس لغو، وشهود زور، وزيَّنه له، وحبَّبه فيه.. وتكبر المصيبة إن صحب المرء معه مَن ولَّاه الله أمرهم، وكلَّفه بتربيتهم ورعايتهم، واستأمنه على حفظهم واستقامتهم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: خلق الله الإنسان خلقاً من بعد خلق، فسوَّاه وعدله، وصوّره وأكرمه، فكانت الحكمة الربانية والقدرة الإلهية، أن يُخلَق خلقاً غير متماسك، خلقاً أجوف خالياً من الداخل، لا يملك نفسه فيحبسها عن شهواتها، أو يقدر على دفع الوساوس عنها؛ لأن الجوف يقلبه ويذهب به هنا وهناك، فهو ضعيف الصبر من حيث إنه لا يثبت ثبوت ما ليس بأجوف؛ لذا طمع الشيطان فيه، وطمح أن ينال منه مراده وما يوسوس له فيه، وفي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "لمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إبْلِيسُ يُطِيفُ به، يَنْظُرُ ما هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أجْوَفَ عَرَفَ أنَّه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ"(رواه مسلم).
عباد الله: لما كان خلق الإنسان خلقاً أجوف لا يتمالك، جاءت الشريعة والأوامر الشرعية، بما يوافق طبيعة خلقته، ويلائم حقيقة تكوينه، إذ لم تأمره بالتبتل والانقطاع في العبادة، أو تتركه يلهث وراء دنياه وشهواته، ولكن بين ذلك قواماً، في شريعة ربانية متمثلة في قوله -تعالى-: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201].
ومنهجية نبوية اختطها رسول الهدى ونبي الرحمة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إليهِم، فَقالَ: "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي"(رواه الشيخان).
عباد الله: من جماليات شريعتنا وكمالها، في موافقتها للخلقة البشرية، والطبيعة الإنسانية، النهي عن قربان الشيء المحرم، فضلاً عن فِعْله والعمل به، والأمر باتخاذ مسافة بين المنكر ومقارفته، بالابتعاد عنه والحذر من سلوك وسائله وطرقه المفضية إليه، خاصة إذا كانت النفوس تميل إليها بطبيعتها، وتشتهيها بخِلْقتها، كل ذلك سداً لطرق الهوى وصرفاً للنفس الأمارة بالسوء، وردعاً لوساوس الشيطان وخطواته، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الأنعام:152]، وقال -سبحانه-: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[الإسراء:32]، وقال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)[البقرة:222].
فإن من ركب طرقها، وتقحّم وسائلها المفضية إليها، وحام حولها، يوشك أن يواقعها ويرتكب كبيرة من الذنوب، أو موبقة توبق عمله، وفي الحديث: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ"(رواه مسلم).
وحين تكون المحرمات لا تألفها النفوس، ولا تميل إليها بطبيعتها وخلقتها، سوى من تنكر خلقته وخالف فطرته، فإن الغالب تعلق الحكم بالنهي عن مجرد الفعل لا بالنهي عن قربان وسائله واتباع طرقه.
عباد الله: ومما جاء الأمر بالنأي منه، والابتعاد عنه، ما كان موطن ريبة، أو مجمع منكر، أو مظنة فشو الذنوب والمعاصي، تنتهك فيها محارم الله، ويقارف فيها ما يغضب الله ويمقته، حتى وإن لم يعمل بعملهم، أو يشاركهم في منكرهم؛ حتى يصون المرء دينه، ويحفظ عليه إيمانه؛ إذ جاء الوعيد على مَن خالط قوم أهل منكر وسكت عنه، أو رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر المنكر بنفسه، فهو في الإثم بمنزلة المباشر، قال الله -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء:140].
فهذا نهي صريح عن مجالستهم حال مواقعتهم لهذا المنكر.. فما دام لا يقدر على الإنكار باليد أو اللسان فلا بد إذاً من مفارقته للمنكر، قال ابن سعدي: "وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يُستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتُقتحم حدوده التي حدّها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي: غير الكفر بآيات الله ولا الاستهزاء بها".
قال المهلب: "وفي هذا أن مَن كثَّر سواد قوم في المعصية مختاراً؛ أن العقوبة تلزمه معهم، ولذا روي عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه أخذ قومًا يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب، وقرأ هذه الآية: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) أي: إن الرضا بالمعصية معصية.
فاللهم ارحمنا برحمتك، وعُمّنا بعفوك ومغفرتك، واهدنا صراطك المستقيم، وأعذنا من شرور أنفسنا وشر الشيطان، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: يعظم المنكر، إن صحب المرء معه غيره، أو دعاه إلى حضور مجلس لغو، وشهود زور، وزيَّنه له، وحبَّبه فيه، وفي الحديث: "ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا"(رواه مسلم).
وتكبر المصيبة إن صحب المرء معه مَن ولَّاه الله أمرهم، وكلَّفه بتربيتهم ورعايتهم، واستأمنه على حفظهم واستقامتهم، وفي الحديث "كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ"؛ إذ إلف المعصية، واستمراء المنكر لدى الطفل والصغير ، عاقبته وخيمة، والانعتاق عنه عسير.
فاللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
هذا وصلوا وسلموا....
التعليقات