إصلاح ذات البين

صلاح بن محمد البدير

2024-08-24 - 1446/02/20
عناصر الخطبة
1/إصلاح ذات البين من قواعد الدين 2/بركات إصلاح ذات البين على الدنيا والدين 3/دور المصلحين الأتقياء في الإصلاح وإزالة الشحناء 4/إرشادات لكل من أراد الإصلاح

اقتباس

إصلاحُ ذاتِ البينِ خصلةٌ جليلةٌ وفضيلةٌ عظيمةٌ، تُستَلُّ بها الضغائنُ والأحقادُ والحزازاتُ، وتُطفأ بها نيرانُ العداواتِ والخصوماتِ والمنازَعاتِ، وقد أمَر اللهُ -تعالى- عبادَه بالمسارَعة إلى قطع المنازَعة، والإصلاحِ بينِ المتخاصمينِ، والتوفيقِ بين المتنازعينِ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد للهِ ربِّ المشرقينِ وربِّ المغربينِ، هدانا وأمرَنا بإصلاحِ ذاتِ البينِ، وأشهدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تجلو قلبَ قائلها مِنَ الرَّيْنِ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه ربُّه وافترَض طاعتَه على جميعِ الثقلينِ، صلى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه الذين تطهَّرُوا من الشرك والشك والشَّيْنِ.

 

أمَّا بعدُ، أيها المسلمون: اتقوا الله وأصلِحوا قلوبَكم؛ فإذا صلَح جَنانُكم، صلَح زمانُكم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

أيها المسلمون: من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين، فَصْلُ الخصوماتِ الثائرةِ، وقطعُ المنازَعاتِ الشاجرةِ، وتأليفُ القلوبِ المتنافرةِ، وإصلاحُ ذاتِ البينِ؛ لأنَّ فسادَ ذاتِ البينِ ثُلمةٌ في الدينِ، وفتنةٌ بينَ المسلمينَ، قال ابن الأعلى الشيباني في وصيته:

فانفوا الضغائن والتخاذل عنكم *** عند المغيب وفي حضور المشهدِ

بصلاح ذات البين طول بقائكم *** إن مد في عمري وإن لم يمددِ

وتكون أيديكم معًا في عونكم *** ليس اليدان لذي التعاون كاليدِ

 

أيها المسلمون: وإصلاحُ ذاتِ البينِ خصلةٌ جليلةٌ وفضيلةٌ عظيمةٌ، تُستَلُّ بها الضغائنُ والأحقادُ والحزازاتُ، وتُطفأ بها نيرانُ العداواتِ والخصوماتِ والمنازَعاتِ، وقد أمَر اللهُ -تعالى- عبادَه بالمسارَعة إلى قطع المنازَعة، والإصلاحِ بينِ المتخاصمينِ، والتوفيقِ بين المتنازعينِ، فمتى شجر بين الناس اختلاف أو مالت النفوس إلى التشاح، أو أشرعت الأيدي الرماح، وجبت المسارعة إلى إصلاح ذات بينهم، قال الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)[الْأَنْفَالِ: 1]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم"، وقال -جل في علاه-: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)[الْحُجُرَاتِ: 9]، وقال -جل جلاله-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 10]، وقال جل وعز في الزوجين: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)[النِّسَاءِ: 128].

 

أيها المسلمون: وإصلاح ذات البين من أجلِّ الطاعات وأحسن الحسنات، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَلَا ‌أُخْبِرُكُمْ ‌بِأَفْضَلَ ‌مِنْ ‌دَرَجَةِ ‌الصِّيَامِ ‌وَالصَّلَاةِ ‌وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ"(أخرجه أحمد وأبو داود).

إن المكارم كلها لو حصلت *** رجعت بجملتها إلى شيئينِ

تعظيم أمر الله -جل جلاله- *** والسعي في إصلاح ذات البينِ

 

ونُقِلَ عن بعض السلف أنهم قالوا: "من أراد فضل العابدين، فليصلح بين الناس، ولا يوقع بينَهم العداوةَ والبغضاءَ"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كُلُّ ‌سُلَامَى ‌مِنَ ‌النَّاسِ ‌عَلَيْهِ ‌صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" مُتفَق عليه، ومعنى: "تعدل بين الاثنين"؛ أي: تصلح بينهما بالعدل.

 

أيها المسلمون: والمصلحون المرائيب يسعون بالإصلاح بين المتخاصمين، ويحرصون على قطع الخلاف، وحسم دواعي الفُرْقة، فإذا نشب بين اثنين مهاجرة وخلاف وشجار، تناهضوا في رفعه وإزاحته، وركبوا الصعب والذلول مشيًا بالصلح، وبثا للسفراء، وبعثا للوجهاء، إلى أن يحل الوفاق بدل الشقاق، والتقارب بدل التحارب، والتناصر بدل التناحر، والتآزر بدل التشاجر، قال جل وعز: (لَا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 114]، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: "أنَّ ‌نَاسا ‌مِنْ ‌بَنِي ‌عَمْرِو ‌بنِ ‌عَوْفٍ ‌كانَ ‌بَيْنَهُمْ ‌شَيْءٌ ‌فَخَرَجَ إلَيْهِمُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في أُنَاسٍ مِنْ أصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ" مُتفَق عليه، وعند البخاري: "أَنَّ ‌أَهْلَ ‌قُبَاءٍ ‌اقْتَتَلُوا ‌حَتَّى ‌تَرَامَوْا ‌بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ".

 

أيها المسلمون: وفي الصُّلح رعاية الأُخُوَّة، وصيانة العِرْض، ودوام السَّكينة، ونزول التوفيق والبركة، وخيرات عظيمة، وبركات كثيرة لا تحصى، والصلح العادل الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير من الفُرْقة، فإن التمادي في الخلاف والشحناء والمباغضة، وقوع في قواعد الشر الجامعة لكل الخذلان والهوان والخسران، وهل جنى المتشاجرون المتنافرون المتناحرون من دوام التصارم والتطاحن إلا سوء الأحدوثة والسمعة، وتكدر العيش الصفي، وتعثر النوم الهني، وتعب الأجساد، وشماتة الحساد، وتقشع الراحة، حتى تضيق عليهم الفسيحة الوسيعة.

إلام الخلف بينكم إلام *** وهذي الضجة الكبرى علامَ

وفيما يكيد بعضكم لبعض *** وتبدون العداوة والخصام

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وتغافلوا عن الزلات، ولا تستقصوا الهفواتِ، وكونوا في كلِّ أوانٍ إخوانًا متحابينَ بجلال الله -تعالى-، متواصلينَ في ذات الله، متعاونينَ على البر والتقوى، نابذينَ للفُرقة والخلاف والأهواء، متمسكينَ بالجماعة والأُلفة والمحبة والإخاء.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، ويا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي آوى مَنْ إلى لُطفه أوى، وأشهدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، داوى بإنعامِه مَنْ يئس من أسقامِه الدَّوَا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، مَنِ اتَّبَعَه كان على الهُدى، ومَنْ عصاهُ كان في الغواية والردى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً تَبقى، وسلامًا يَترى.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

 

أيها المسلمون: كم بيت كاد الخلاف أن يُضَعضِع أركانَه؟! ويهدم بنيانه، لولا إشفاق مصلح، ورحمة ناصح، وعطف محب رآب، وكم صفيين، أو شقيقين، أو قريبين، أو جارين كادت القطيعة والفتنة أن تقع بينهما، لولا سفارة مصلح، وشفاعة وجيه، أبقت ما بينهما من المودَّة، وأدامت ما بينهما من المحبة، وكم حرب كادت أن تشتعل بين شريكين في تجارة، أو زارعة، أو صناعة، أو مهنة، لولا حكمة جامعة، وسداد رأي، وحسن مشورة، ولسان نصح، ومبادرة إصلاح، أطفأت الفتنة، وأخمدت نار الخلاف.

 

ومتى استعان المصلح بمولاه، وأصلح قصده، وأخلص لله فعله، وتوخَّى الزمان المناسب، والمكان الملائم، والكلام السهل المقنع، وقع سعيه نافعًا، كنفع الغيث للأرض، وقد جات الرخصة الشرعيَّة في أن يقول الرجل في الإصلاح بين المتخاصمين، ما لم يسمعه من الذكر الجميل والقول الحسن؛ ليستل به من قلب أخيه السخيمة والضغينة، عن أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنه- أنَّها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا" مُتفَق عليه، قال النوويّ: "معناه: ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس، بل هذا محسن".

 

جعلني الله وإيَّاكم من الصالحين الْمُصلِحِينَ، وصلُّوا وسلِّمُوا على أحمد الهادي شفيع الورى طرا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، اللهُمَّ صل وسلم على نبينا وسيدنا محمد، وارض اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ذوي الشرف الجلي، والقدر العلي؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.

 

اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واحفظ بلادنا، وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، يا ربَّ العالمينَ؛ (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إِبْرَاهِيمَ: 35].

 

اللهُمَّ احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا وثغورنا، اللهُمَّ تقبل موتاهم في الشهداء، اللهُمَّ من على جرحاهم بالشفاء، وردهم إلى أهلهم سالمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا، خادم الحرمين الشريفين لِمَا تُحب وترضى، وخُذْ بناصيته للبِرِّ والتقوى، اللهُمَّ وفِّقه ووليَّ عهدِه وسائرَ ولاةِ المسلمينَ لِمَا فيه عزُّ الإسلامِ وصلاحُ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ انصر إخواننا في فلسطين، على الطغاة المعتدين، والظلمة المحتلين، اللهُمَّ طهر المسجد الأقصى من رجز اليهود الغاصبين، واحفظ أهلنا في فلسطين، واجبر كسرهم، وعجل نصرهم، وأقل عثرتهم، واكشف كربتهم، وفك أسراهم، واشف مرضاهم، وتقبل موتاهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life