عناصر الخطبة
1/إنفاق المال في الحياة 2/أهمية الوصية قبل الموت 3/المبادرة بكتابة الوصية 4/أقسام الناس في الوصية وأحوالها 5/المسلم الفَطِن يقدم لنفسه قبل موته.اقتباس
قدِّموا لأنفسكم، فالحياة قصيرة، والأيام سريعة، والموت يأتي فجأة، فالعاقل اللبيب هو الذي يكون على أهبة الاستعداد للموت في كل لحظة، ولا يُسوِّف ويقول لن أموت الآن، سوف أعمر إلى الثمانين والتسعين، وما يدري هذا المسكين أن المقابر مليئة بالشباب والأطفال!!
الخطبةُ الأولَى:
أما بعد فيا أيها الناس: الناس في الدنيا يكسبون وينفقون، ويأكلون ويتصدقون، ويهدون ويقرضون، ويدخرون ويتاجرون، فالمال طالما أنهم أحياء هو لهم يصنعون به ما يشاؤون، وسيُسْأَلُون عن هذا المال من أين اكتسبوه وفيما أنفقوه.
وإن من رحمة الله أن جعل للعبد حقًّا في ماله بعد موته ينتزعه من الورثة ويصنع به ما يشاء، وذلك بالوصية به قبل موته، فقد يكون الإنسان عنده أموال وثروة كبيرة، أو يكون عليه حقوق للناس، أو له حقوق على الناس، فكل هذه تحتاج إلى كتابة ووصية قبل الموت؛ لأن العبد إذا مات انتقلت كل أملاكه للورثة، ولهذا حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على الوصية.
والوصية مستحبَّة لمن ترك خيرًا، وواجبة لمن عليه حقوق للناس؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"؛ قال عبد الله بن عمر: "ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك إلا وعندي وصيتي".
وهكذا ينبغي للمسلم الحازم، الحريص على نفسه، المستعدّ لآخرته، أن يبادر بكتابة الوصية طالما أن في العمر فُسحة، ولا يُسوِّف، فإن الموت يأتي بغتة.
فقد شَرَعَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الوصيَّةَ لُطفًا بعِبادِه ورَحمةً بهم عِندما جَعَلَ للمسلمِ نَصيبًا مِن مالِه يُوصي به قبْلَ وَفاتِه في أعمالِ البِرِّ التي تَعودُ على غيرِه بالخيرِ، وتَعودُ على الموصي بالأجْرِ والثَّوابِ.
وفي حديث ابن عمر حثَّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأكَّدَ على المُبادَرةِ بكِتابةِ الوَصيَّةِ قبْلَ مُباغَتةِ الموتِ، وبيَّنَ أنَّه لَيس لائقًا بالمسلمِ -سَواءٌ كان رجُلاً أو امرأةً- وله شَيءٌ يُوصِي فيه مِن الأموالِ، والبَنين الصِّغارِ، والحُقوقِ التي له، وعليه؛ مِن دِيونٍ، وكفَّاراتٍ، وزَكَواتٍ فرَّطَ فيها، أنْ تَمضِي عليه لَيلتانِ أو أكثرُ؛ إلَّا ووَصيَّتُه بهذا الشَّيءِ مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه، فإذا وصَّى بذلك أُخرِجَت الدِّيونُ مِن رَأسِ المالِ، وأُخرِجَ غيرُها مِن ثُلثِه.
وأخْرَجَ الدَّارميُّ والدَّارقطنيُّ عن أنسٍ قال: هكذا كانوا يُوصُون: هذا ما أَوصى به فلانُ بنُ فلانٍ؛ أنَّه يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عبْدُه ورَسولُه، وأنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن في القبورِ، وأَوصى مَن تَرَكَ بعْدَه مِن أهْلِه أنْ يَتَّقوا اللهَ ويُصلِحوا ذاتَ بيْنهم، وأنْ يُطِيعوا اللهَ ورَسولَه إنْ كانوا مُؤمِنين، وأَوصاهم بما أَوصى به إبراهيمُ بَنِيه ويَعقوبُ (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[البقرة: 132]، وأَوصى إنْ حَدَثَ به حَدَثٌ مِن وَجَعِه هذا: أنَّ حاجتَه كذا وكذا.
وكتابة الوصية لا تحتاج إلى محكمة أو كاتب عدل، بل يصلح أن تكتبها أنت بنفسك، وتُشْهِد عليها مَن تُحِبّ، ولك أن تعدل فيها ما شئت إلى وقت الموت.
وفي الحديثِ: الحثُّ على كِتابةِ الوصيَّةِ.
وفيه: أنَّ الأشياءَ المهمَّةَ يَنْبغي أنْ تُضبَطَ بالكتابةِ؛ لأنَّها أثبَتُ مِن الضَّبطِ بالحِفظِ؛ لأنَّه يَخونُ غالِبًا.
وفيه: النَّدبُ إلى التَّأهُّبِ للموتِ، والاحترازِ قبْلَ الفَوتِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَدْري مَتى يَفجَؤُه الموتُ.
عباد الله: الناس بين صنفين؛ رجل غني له أموال طائلة، فمثل هذا يُستحب أن يُوصي بشيء من ماله، ولا يزيد على الثلث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الثلث، والثلث كثير"، وقد أوصى أبو بكر الصديق بالخمس، وقال: "رضيت بما رضي الله لنفسه ولرسوله"، يعني قوله تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[الأنفال: 41].
والصنف الثاني مَن ليس لديه مال طائل، فهذا يترك ماله لورثته أفضل، وهو من أفضل الصدقات؛ لأنها في قريب، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ".
قال ابن قدامة في المغني: "وَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ مُحْتَاجُونَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: (إنْ تَرَكَ خَيْرًا)".
وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِي: "إنَّك لَنْ تَدَعَ طَائِلاً، إنَّمَا تَرَكْت شَيْئًا يَسِيرًا، فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ".
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولاً عن الوصية قبل الموت، فمن كان له ثروة تزيد على حاجة ورثته، فإنه يُستحب له أن يوصي بالإنفاق في وجوه البر، ليستمرّ أجرها دَارًّا عليه بعد موته.
والأفضل أن يُخْرِجها ويُرتِّب أمورها، في حال حياته، ليَسْلَم من نزاع ورثته من بعده، والكل يعرف قصصًا حصلت في النزاع بين الورثة في قسمة التركة، فأَخْرِجْها وقفًا في سبيل الله تُشْرِف عليه في حياتك، وتضع عليه ناظرًا بعد وفاتك.
وقد سمعنا عن كبار التجار في المملكة، وكيف حصل بين ورثتهم نزاع وشقاق ومحاكم، وتعطلت الوصية؛ حيث لم يوصِ الميت بوصية واضحة، أو جعلها في أصول المال الذي يصعب قسمته، وسمعنا عن تجار قسموا تركتهم في حياتهم وأوقفوا ما أرادوا الوصية به في حياتهم، وأشرفوا على سيره، واشترطوا الأكل منه ما داموا أحياء، فسلموا من النزاع في تنفيذ الوصية، لأنها كانت نافذة من قبل الموت.
والمسلم الفَطِن يُقدِّم لنفسه قبل موته، فمثلاً من كان لديه عقارات كثيرة، فإنه يُوقف غلة بعضها على وجوه البر في حياته، وتستمر بعد موته، فهي غير داخلة في التركة، ولذا لا يكون عليها نزاع، ويجعل عليها ناظرًا أو نظارًا، وكذا مَن أراد مِن ورثته أن يبنوا له مسجدًا بعد موته، فلْيَبْنِه قبل موته.
ومَن لم يكن لديه عقارات وأصول، وإنما هي أموال في البنوك، فلْيجعلها في صناديق الاستثمار الآمنة في البنوك، ويكتبها وقفًا، ينفق الناظر عليها من أرباحها، وتبقى هي لا تحتاج لمن يُديرها وينمّيها، فلا تترك لورثتك إلا الإشراف على الوقف وعلى الصالح منهم، فنحن -عباد الله- في دار تُعدّ مزرعة للآخرة، فلا يصلح أن تذهب من الدنيا وتضيع زرعك.
معاشر المسلمين: قدِّموا لأنفسكم، فالحياة قصيرة، والأيام سريعة، والموت يأتي فجأة، فالعاقل اللبيب هو الذي يكون على أهبة الاستعداد للموت في كل لحظة، ولا يُسوِّف ويقول لن أموت الآن، سوف أعمر إلى الثمانين والتسعين، وما يدري هذا المسكين أن المقابر مليئة بالشباب والأطفال!!
اللهم ارزقنا الاستعداد ليوم المعاد ......
التعليقات