عناصر الخطبة
1/ أثر الإيمان بالرسل على هوية المسلم 2/ أثر الإيمان باليوم الآخر على هوية المسلم 3/أثر الإيمان بالقدر خيره شره على هوية المسلم.اقتباس
وَفِي إِيمَانِ الْمُسْلِمِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِظْهَارٌ لَهُوِيَّتِهِ وَتَمَيُّزِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقُولُ: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 37]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مُسْتَبْعِدًا مُتَعَجِّبًا: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)[الْإِسْرَاءِ: 49]... أَمَّا الْمُسْلِمُ فَيُوقِنُ أَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أَبْقَى، وَفِيهَا يُلَاقِي الْمَرْءُ جَزَاءَ مَا فَعَلَ فِي دُنْيَاهُ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُ: لَكَ أَنْ تَقِفَ فِي عِزَّةٍ وَفَخْرٍ وَإِبَاءٍ وَأَنْتَ تَصْدَحُ فَتَقُولُ: "أَنَا مُؤْمِنٌ"، فَإِنَّهَا -وَاللَّهِ- الْعِزَّةُ الَّتِي لَا عِزَّةَ بَعْدَهَا، أَوَمَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[الْمُنَافِقُونَ: 8]، وَإِنَّ لِهَذَا الْإِيمَانِ أَرْكَانٌ تَرْفَعُ الْبُنْيَانَ، لَا بُدَّ مِنَ اسْتِكْمَالِهَا لِتَصِيرَ مُؤْمِنًا حَقًّا، وَقَدِ اسْتَعْرَضْنَا فِي خُطْبَتِنَا السَّابِقَةِ بَعْضَهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: رَابِعُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّهِ، مِنْ لَدُنْ نَبِيِّ اللَّهِ آدَمَ إِلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا وَسَلَّمَ-، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مَا تَرَكَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولًا، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الْقَائِلُ: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)[فَاطِرٍ: 24]، وَالْقَائِلُ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا)[النَّحْلِ: 36].
وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ قَائِلًا: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النِّسَاءِ: 165]، وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ؛ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[الْإِسْرَاءِ: 15].
وَعَدَدُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: "مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ إِلَّا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَقَطْ؛ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)[النِّسَاءِ: 164].
وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ رُسُلِهِ؛ فَآمَنَ بِبَعْضِهِمْ وَكَفَرَ بِالْبَعْضِ، وَأَثْنَى عَلَى مَنْ لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ، فَآمَنَ بِهِمْ أَجْمَعِينَ، قَائِلًا -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[النِّسَاءِ: 150-152].
وَإِيمَانُنَا بِرُسُلِ اللَّهِ جَمِيعًا عَلَامَةُ تَفَرُّدٍ وَتَمَيُّزٍ لِأُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّهِ كُلِّهِمْ؛ (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)[الْبَقَرَةِ: 285]، وَغَيْرُنَا لَا يُؤْمِنُونَ بِخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! مَعَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِمَّا يُبْرِزُ هُوِيَّتَنَا وَيُمَيِّزُنَا عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ -أَيْضًا- أَنَّ رَسُولَنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَهُوَ الْقَائِلُ: "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)... وَكَذَلِكَ نَحْنُ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي رِقَابِنَا مُهِمَّةَ إِبْلَاغِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، فَهُوِيَّتُنَا عَالَمِيَّةٌ لَا مَحَلِّيَّةٌ، أَظْهَرَتْهَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رِبْعِيِّ بْنِ الْحَارِثِ: "اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ...".
وَمِنْ جَوَانِبِ تَمَيُّزِنَا كَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ خَيْرُ الرُّسُلِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)... وَأُمَّتُنَا كَذَلِكَ؛ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، قَالَ -تَعَالَى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[آلِ عِمْرَانَ: 110]، وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
وَمِنْ مُفْرَدَاتِ هُوِيَّتِنَا وَتَمَيُّزِنَا أَنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أُمَّتُنَا شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-، هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[الْبَقَرَةِ: 143]"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، فَأُمَّتُنَا شَاهِدَةٌ فَوْقَ الْأُمَمِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الرُّكْنَ الْخَامِسَ لِلْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَعْنَاهُ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِوُقُوعِهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي تَسْبِقُهُ، وَبِالْمَوْتِ وَالْبَرْزَخِ وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ، وَبِإِحْيَاءِ الْخَلَائِقِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَبِمَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ مَوَاقِفَ وَأَهْوَالٍ وَتَتَطَايُرٍ لِلصُّحُفِ، وَبِالصِّرَاطِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، وَبِالْإِتْيَانِ بِجَهَنَّمَ تَجُرُّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَبِالْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ... يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)[الْحَجِّ: 7].
وَنَحْنُ نُؤْمِنُ كَذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ -تَعَالَى- وَحْدَهُ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)[الْأَعْرَافِ: 187].
وَفِي إِيمَانِ الْمُسْلِمِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِظْهَارٌ لَهُوِيَّتِهِ وَتَمَيُّزِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقُولُ: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 37]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مُسْتَبْعِدًا مُتَعَجِّبًا: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)[الْإِسْرَاءِ: 49]... أَمَّا الْمُسْلِمُ فَيُوقِنُ أَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أَبْقَى، وَفِيهَا يُلَاقِي الْمَرْءُ جَزَاءَ مَا فَعَلَ فِي دُنْيَاهُ... وَلَقَدْ نَعَى الْقُرْآنُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَوَعَّدَهُمْ قَائِلًا: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يُونُسَ: 7-8].
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُبْرِزُ تَمَيُّزَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَفَرُّدَهَا عَلَى سَائِرِ أُمَمِ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّنَا أَغْلَبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: "أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: "أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، بَلْ عَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)... فَأُمَّتُنَا أُمَّةٌ لَهَا هُوِيَّتُهَا وَتَمَيُّزُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: وَالرُّكْنُ السَّادِسُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ؛ هُوَ الْإِيمَانُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَمَعْنَاهُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ كُلَّ مَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ مَوْجُودَاتٍ وَأَحْدَاثٍ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَأُمُورٍ تَظْهَرُ أَوْ تَغِيبُ إِنَّمَا هِيَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَبِتَدْبِيرِهِ وَبِأَمْرِهِ وَبِقُدْرَتِهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ وَيُقَدِّرُهَا بِكَيْفِيَّاتِهَا وَأَزْمَانِهَا قَبْلَ إِيجَادِهَا... يَقُولُ -تَعَالَى-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[الْقَمَرِ: 49]، وَيَقُولُ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)[الْأَحْزَابِ: 38].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَالْكَيْسُ: النَّشَاطُ وَالْحِذْقُ بِالْأُمُورِ... يَقُولُ صَاحِبُ سُلَّمِ الْوُصُولِ:
وَالسَّادِسُ الْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ *** فَأَيْقِنَنْ بِهَا وَلَا تُمَارِ
فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ *** وَالْكُلُّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مُسْتَطَرْ
وَالْإِيمَانُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِمَّا يُبْرِزُ هُوِيَّتَنَا وَتَفَرُّدَنَا عَنْ بَاقِي الْأُمَمِ؛ فَإِنَّنَا نُؤْمِنُ أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْ أُمُورٍ وَأَحْدَاثٍ، وَكُلَّ مَا يَقَعُ، وَكُلَّ مَا سَيَقَعُ بِأَمْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَتَقْدِيرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يُونُسَ: 61]، وَغَيْرُنَا يَقُولُ بِأَنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ صُدْفَةً، أَوْ بِتَفَاعُلَاتٍ وَقَعَتْ فِي الطَّبِيعَةِ بِلَا خَالِقٍ يُسَيِّرُهَا! وَأَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ؛ يَكُونُ اتِّفَاقًا وَصُدْفَةً بِلَا تَدْبِيرٍ وَلَا سَبْقِ تَقْدِيرٍ!
أَمَّا نَحْنُ فَنُوقِنُ أَنَّ كُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ هِيَ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ الْحَكِيمِ وَتَقْدِيرِهِ، وَكَذَا كُلُّ بَلَاءٍ وَنِقْمَةٍ وَمُصِيبَةٍ هِيَ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)[الْحَدِيدِ: 22]، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؛ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ؛ حَتَّى مَا يَسْقُطُ مِنَ الْوَرَقِ وَالشَّجَرِ؛ (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الْأَنْعَامِ: 59]، نَعَمْ كُلُّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ وَمَسْطُورٌ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، يَرْوِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنْ أَمَارَاتِ تَفَرُّدِنَا وَتَمَيُّزِنَا أَنَّنَا عِنْدَ الْبَلَاءِ مُطْمَئِنُّونَ وَاثِقُونَ أَنَّهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، رَاجِينَ الْأَجْرَ وَالْمَثُوبَةَ مِنَ اللَّهِ، فَنَتَلَقَّاهُ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَّاهُ رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "... وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)... أَمَّا سِوَانَا فَيَقْنَطُ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ، وَيَجْزَعُ لِكُلِّ بَلَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْرِفُ طَعْمَ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَيَعِيشُ مُعَذَّبًا مُتَضَجِّرًا تَعِيسًا قَانِطًا!
وَخِتَامًا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ السِّتَّةِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِجِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْمَعَ فِي قُلُوبِنَا أَرْكَانَ الْإِيمَانِ كُلَّهَا، وَأَنْ تَهَبَنَا الْيَقِينَ فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ تَجْعَلَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطْمَئِنِّينَ الرَّاضِينَ بِقَضَائِكَ، الْمُؤْمِنِينَ بِرُسُلِكَ، الرَّاجِينَ لِلْيَوْمِ الْآخِرِ...
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
التعليقات