عناصر الخطبة
1/ فضائل مكة المكرمة ومكانتها 2/ وجوب تعظيم البلد الأميناهداف الخطبة
اقتباس
وهذه العرصات والبطاحُ المباركات قد سوَّرها الباري بالأمن والتّحريم، فهي منطقةٌ آمنة حرام بحرمةِ الله إلى يوم القيامة، قال -جلّ شأنه- ممتنًّا على عباده: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص:57]، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا).
أما بعد:
فيا عباد الله.. حجّاجَ بيت الله: اتَّقوا الله تعالى حقَّ تقواه، وافعلوا من الطاعات والصالحات ما يحبّه ويرضاه، وتجافَوا عم كلّ ما يسخطه ويأباه، تفوزوا في الدنيا وتغنموا، وتسعدوا في أخراكم وتنعموا.
أيّها المسلمون: في لُجَج احتدام العالم واضطرابِه، وتخلخلِ أركان أمنِه واحترابه، تتوق الإنسانيّة في عصر الثورة التقانيّة، وأوج الحضارة والمدنية، إلى بقعةٍ آمنة مطمئنة، تُؤسَى فيها الكلوم والجِراح، ويُلقى دونها العتاد ويُحجَر السلاح، ولكن أنَّى ذلك وهيهات إلاّ في شريعة ربّ البريّات، في دين الإسلام وحكمة الملك العلام، وهنا يزدَهي البيان، ويأتلِق التّرجمان، ويغمر الزَّفنُ الجنانَ، حيث شاء بلطيفِ حكمه الدّيّان، وواسِع علمه المنان، أن تكونَ أمّ القرى مكّةُ المكرمة، آمنَ أرض على وجهِ الأرض، وأطهرِ بقعةٍ على مدّ البسيطة، وهي كذلك في جذور التاريخ وأعماقِ الحضارات، لكن مع شديد الأسى والأسَف، أنّ كثيرًا من الناس قد غفل عن ذلك وانصرَف.
إخوةَ الإيمان: وقبل الوقوفِ بتِلك الرّحاب، نُزجي أفضلَ التِّرحاب، وشذَا التحايا وأعطرَ الأطيَاب، إلى حجاج بيت الله الميامِين، فحيّاكم الله -أيّتها الوفود المباركة- في بلادِ الحرمين وبيَّاكم، وأقامَكم في رحماتِ الإسلام وأكنافِه وأحياكم، وتقبَّل الله حجَّكم، وبلَّغكم مَصبَاكم، وإنَّ قلوبَنا -يا ضيوفَ الرحمن- لكم هي المحلّ، أنتم منا على الرؤوس وفي المُقَل.
معاشرَ المسلِمين: هذا البلدُ المبارَك اختصَّه الباري -جلّ في علاه- بخصائصَ فِخام وفضائلَ عِظام، من أهمِّها إضافتُه إلى ذاتِه العليّة ودوامُ ذِكره وشرفِه، قال سبحانه: (وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26]، وقال -عزَ شأنه-: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى:7].
وإلماعًا بفضلِه، وإشادةً بنبله، أقسَم به -جلّ وعلا- في موضِعين من كتابه العزيز، قال تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد:1]، وقال -عزَّ اسمه-: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) [التين:3].
وما تعَدُّد الأسماء لهذه البقعةِ المباركة أمّ القرى والبلَد الأمين ومكّة وبَكّة وغيرها إلا دلالة على فضل المبنَى، وطيبِ المغنى، وسموِّ المسمى، واعلم بأن كثرةَ الأسامي دلالة أنَّ المسمَّى سامٍ.
وفي قسَمٍ يهمِي حبًّا ولوعًا ويزخر شوقًا ونُزوعًا يقول: "والله، إنك لخير أرضِ الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرِجتُ منك ما خرَجتُ". أخرجه الإمام أحمد والترمذي.
أمّة الإسلام، أيّها الحجيج الكرام: وهذه العرصات والبطاحُ المباركات قد سوَّرها الباري بالأمن والتّحريم، فهي منطقةٌ آمنة حرام بحرمةِ الله إلى يوم القيامة، قال -جلّ شأنه- ممتنًّا على عباده: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص:57]، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة:125].
يطمئِنُّ فيه المضطَرِب القلِق، ويأمَن في جنَباته الفزِع الفَرِق، يقول: "إنَّ هذا البلدَ حرَّمه الله يومَ خلق السماواتِ والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة". خرجه البخاري.
وهذا الأمنُ المكين، والأمن المتين، لم يثبُت بالتقرير والتأصيل فحسب، بل استقرَّ واشمخرّ بالوَعيد الأكيد، والزّجر الشديد، لمن حاوَل خرقَه، أو رام فتقَه: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [لحج:25]، ذلك لمن همّ، فكيف بمن يباشر؟! فالأمر أنكر وأخطر.
الله أكبر، إنها دعوةُ الخليل إبراهيمَ -عليه وعلى نبيِّنا أزكى الصلاة وأتمّ التسليم-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ) [البقرة:126]. تلكم -يا أمَم الدنيا- صوتُ مكّة المكرمة، يشقّ الجوزاء، ويعانِق قِمَم السّماء، مُعلنًا لكلّ رمز صَلفٍ جوّاظ، يسوم الأبرياءَ بالحديد والشُّواظ، أنّ الإسلام دين السِّلم والسماحة والسلام، والأمن والأمان والاطمئنان.
ضيوفَ الرحمن، وفودَ الملك العلام: وفي هذه الرّبوع -ما زالت بالنفحات الربانيّة تَضوع- أوّلُ بيت وضِع للناس، استقى المسلمون من هداه وبركاته أَهنأ كاس: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:96، 97]، (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) [المائدة:97]. وزادَها تشريفًا وصَفَا، بالمروة والصّفَا، وبحجرٍ من الجنةِ كريم، وماءِ زمزم المبارك ومقام إبراهيم.
أمّا مكانة الكعبةِ وجمالها، ومنزلتُها وجلالها، واستحكامُ حبِّها في النفوس، ووقع هيبتِها في الأفئدة، وتكحيل الأعين بمرآها، وارتِواء الناظر إليها من كوثَر قداستها، فدونَ ذلك الأسفار والطّروس، ولا قِبلَ لذوي البلاغة والبراعة بوصفِه، بيتٌ في السّنَاء والبهاء هو الأبهَر، وفي أمداء الطهر والروح هو الأطهر، أعلاه الله وأظهَرَه، وقدَّسه وطهّرَه، وجّه إليه الوجوهَ، وفرض على عباده أن يحجّوه، التوحيدُ مظهره ومنارُه، والصالحون والأتقياءُ روّادُه وعُمّاره.
يروق لي منظرُ البيت العتيق إذا *** بدا لطرفيَ في الإصباح والطَّفَـل
كأنَّ حلّته السوداءَ قد نسِجت *** من حبّة القلب أو من أسودِ المقَل
يطوف به الطائفون في شوقٍ وولَه وهُيام، وخشية وإنابةٍ واضطرام، لا فضلَ لسريٍّ ذي حسب، على ذي ضعَةٍ عديم النّشَب: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
تبـاركتَ يا ربَّ العبـادِ جعلتها *** مرادًا لعبّـادٍ مهـادًا لسُجَّد
وطهّرتها بالوحيِ والوعي والنهـى *** وبالكعبةِ الغراء أطهَر مسجدِ
ومِن عظيم فضائل هذه المنازل المعطَّرة بالرحمة قوله -عليه الصلاة والسلام-: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألفِ صلاة فيما سواه إلا المسجِد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضَل من مائةِ ألف صلاة فيما سواه". خرجه الإمام أحمد وغيره.
فيا نِعمَ ما تنعمون به من الفضل الزّخّار، يا أهل هذه الديار، ويا أهلَ الجوار، ويا أيها الحجاج والعمار والزوّار، فهنيئًا لمن طاف به وخَاف، ورجا ربّه الرّحمةَ والألطاف، وسُقيا لمن تضلّع من زمزم في نهلٍ وارتشاف.
يطوفون حولَ البيت يدعون خُشَّعًا *** ويعلو أريجُ الذكر كمسكٍ إذا هبَّا
تناجيـك من أحلامه لوعة الصدى *** وقد نَهلوا الرقراق من زمزم شربًا
إخوةَ العقيدة، جموعَ الحجاج العتيدَة، أيها العمّار والزوار، يا أهلَ الجوار: ولنغدُ مع شَذرةٍ من حال الأسلاف، في تعظيمِ وتوقير هذه الأكنافِ، فعن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب قال: "لأَن أخطئ سبعينَ خطيئة برُكبة -موضع بالحجاز- أحبّ إليَّ من أخطئ خطيئةً واحدة في الحرم".
وفي تفسيرِ الطبريّ: يقول عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "كنّا نُحدَّث أنّ مِن الإلحاد فيه أن يقول الرّجل: كلاّ والله، وبلَى والله، وكنّا نعدّ ظلمَ الخادِم واحتكارَ الطعام إلحادًا في الحرم".
وكان عمر بن عبدِ العزيز -رضي الله عنه ورَحمه- إذا قدِم مكة كأنّه على الرّضَف حتى يخرج، وما ذاك إلاّ اتقاءً للجُناح واللّمَم، وتعظيمًا للحرم.
وعن مجاهد قال: "إذا دخلتَ الحرم فلا تدفعنَّ أحدًا ولاتؤذينّ ولا تزاحم". قال أبو جَعفر: يريد بقوله: "لا تُرفَعُ الأصوات تعظيمًا لمكّة".
فيا لله، ما أروعَ هذه الآداب مع حرماتِ الله، وما أزكى تلك المشاعر إزاء أطهَر المشاعر، إنها لبرهان الصّلاح، وميسَم من تحقّق بالحبِّ الصادق المتين، لهذا البلدِ الأمين، وإنه للتوقير الذي سمَا عن النظريات الحالِمَة والدعاوى العريضةِ إلى حبٍّ واقع أمثَل يُقتَدى به ويؤتسَى ويُعنى به المسلمون.
معاشرَ الأحبة: هذه مكّة المكرمة، أنهار النقاء وسيول الطُّهر والعطاء، ينبوع الّدعوة والشموخ والعلاء، اخضَوضَرَت مكّةُ وأشرقت، واشمخرَّت وأزهرت، بنور الوحيِ المبين، وغشّت قوارعُ الهداية رموزَ الإشراك والأصنام، فكبّتها في الرّغام، وحَرّرت مكّة المكرمة وجهَ الدّنيا، مِن كلّ الأباطيل الوثنيّة، فأشرق بها محيَّا الحياة وكلُّ ثنية، والعالَم إذ ذاك يرزَح تحت نير الجهل وكَلكَل الضلال.
مكّة المكرمة التي أضرمت أوّل قبَس وقّاد من نورِ العلم والمعارف، أضاءَ الآفاقَ وفاق: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق:1]، فهي -وايمُ الباري- النّبعةُ الثرارة الأبديّة للمعارف الدينية، والعاصمة الشماءُ التاريخيّة للعلوم الشرعية.
أمّ القرى -ومن أحَبَّ الشيء أكثر ذِكره- مهوى أفئدة المؤمِنين، ومتنزَّل النورِ المبين، ومَدارج الأنبياء والملائكة المكرّمين. أمّ القرى ينهل منها المسلمون في أقاصي الدنيا رحيقَ الهدى، ويرتشفون أنداءَ الرضا، في حبٍّ مشبوب لا يحَدّ، وشوقٍ مستعر لا يرتدّ. في هذه المشاعر المقدسة بالرّحمة والبركات، منى ومزدلفة وعَرَفات، تتنزّل الرحمات، وتضاعَف الحسنات، وتمحَّص السيِّئات، وتغلَّظ الخطيئات.
مكّة المكرمة وادٍ غير ذي زرع مُقفِر، بيد أنه استنبَت أعظم حضارةٍ إيمانية ضاربة في أمشاج العصور والحقب، تسَّاقطُ الحضارات والأمم وهي مستقِرّة لا تَريم، قد تلألأت غرّتُها، وتألّقت بهجتها إلى يوم الدين.
يا عاذِلي في حبّ مكة والهدى *** قلبي تعلق بالمشاعر ما اصطَبر
وتعلَّقت كل النفوس بحبهـا *** شَغفَ الفؤاد بها فليس بمنتهر
وبعد:
أيها المسلمون: فلا بدعَ -يا رعاكم الله- أن يقال بمستفيضِ الوجل الوجيل: ما هِي أحوالنا تلقاء هذا البَلد الحرام؟! وما سِيَرنا تجاهَ أزكَى المشاعر الفخام؟! وبعد هذا الاستفهام ينقَلِب إليك البصر خاسئًا وهو حسير.
اللّهمّ سلِّم سلِّم، ورحماك ربَّنا رحماك، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليِّ العظيم، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان توابًا غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لم يزل عزيزا قهّارًا، بارك ما شاء من البقاع حكمةً منه واختيارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى للمعظِّمين حُرُماتِه أقدارًا، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، أشرف من درج في أمّ القرى، وخير من رجا لله وقارًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه صفوة الملا مهاجرين وأنصارًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وعظِّموا شعائره وحُرُماته، وابتغوا بتوقيرها غفرانَه ومرضاته: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج:30].
أمّةَ الإسلام: من الثوابتِ والأصول والمسلَّمات التي لا تدول كونُ تعظيمِ الحرمين الشريفَين عقيدةً شامخة في ملّة الإسلام، وفي قلوب أهلِ الإيمان، وإنّه لقمينٌ بنا أن نستمسكَ بها ونتنادَى حولها، لاسيَّما في زمنِ الفتن والمادّيّات التي أقامت دونَ البصائر حِجابًا، وأضحت منها القلوب يبابًا.
إخوةَ الإيمان، أيّتها الوفود المباركة: وأمّا واقع بعض المسلمين -هدانا الله وإياهم- في تعظيمِ هذه الرحاب، فممّا ينعجِم له اللسان ويجِل الجنان، فهل من تعظيم البلد الحرام الإسفافُ باللّوثات العقدية في معقلِ التوحيد، ومنبعِه الأوّل الوحيد؟! وهل من تعظيم البلَد الحرام التهاونُ بأعظم الواجبات، واقتراف المعاصي والخطيئات، في سماعٍ محرّم، وتبرّج وسفور، وقنوات ومعازف وفضائيّات، رنّق وجودُها صفوَ الصالحين القانِتين، فضلاً عن سخطِ ربِّ العالمين؟! ألا دِينٌ يقمَع، وخلُق يردَع، ونفس عن غيّها ترجع؟! أما للحرَم هيبة وإكبار؟! أما للبلد الأمين تعزير ووقار؟! أما لمكّة تعظيم وإجلال؟!
فيا من جاور وقطَن، أو حلّ وظعَن: اتقوا الله في حرَم الله، وعظِّموه ووقِّروه، إننا نناشدكم الباري -جلّ في علاه- أن تجعَلوا هيبتَه وجلاله وتشريفَه وتطهيره وكماله حشوَ قلوبكم، وطيَّ أرواحِكم، وملء أسماعكم وأبصاركم.
وإنَّ من تعظيمه إكرامَ حجّاجه وعمّاره، وإرشادهم في أمور دينهم ومناسكهم بأوطأ الأكناف، وأطيب الأخلاق، دون أذًى وجفاءٍ واعتساف.
فيا من أنعم الله عليكم بالثّواء في أرض الأنبياء، ومهدِ البرَرة الأصفياء، نهيب بكم أن تكونوا من خير القدواتِ، في التأدّب بأدب هذه الجنبات، كونوا من أفضل العباد في خيرِ البلاد، كونوا خير من أطاع في أقدس البقاع، واحذروا أن تكونوا ممن فرَّط وأضاع، ويا أهلَ الجِوار: طِبتم بتعظيم أقدسِ الدّيار.
ويا أيها المحبّ المستهام: تحقّق بتوقير البلد الحرام، ويا أيّها الحجاج الميامين: يا مَن تجشَّمتم مشاقَّ الطريق؛ شوقًا لنفحات البيت العتيق، استشعروا عظمة هذا البلد الحرام، واحذروا الإلمام بالسيئاتِ والآثام، واقضوا مناسكَكم بخير الشمائل، وألطف الأخلاق وأنبل الفضائل.
أيّها العلماء والدّعاة والتربويّون والإعلاميون: ترقَّوا بالنَشء والأجيال في مدارجِ تعظيم البلد الحرام، وانتَحوا لهذا الشرفِ الممجَّد كلَّ فجٍّ وثنيّة، وصهوة ومطيّة، وما ذلك في جنبِ بيت الله العظيمِ بعظيم.
يُذكَّر بذَلك -أيّها المسلمون- وقد وصَلت من حجّاج بيت الله الطلائع، فازَّيَّنت بهم البقاع والمرابِع، فهم فيها كالبدورِ الطوالع، والنجوم السّواطع، سهّل الله أمرَهم، وحفِظ أمنهم، وتقبّل منا ومنهم منه وكرمه.
ولفتَة تقدير تُسطَّر وتُذكَر، وومضَة إشادةٍ بالدعاء تُذخَر، لكلّ مهتمٍّ بتعظيم البلدِ الحرام، وفَّقهم الله لكلّ مرام، ويا له من مشروعٍ إسلاميٍّ حضاريٍّ، كِفاؤُه التشجيع والعنايَة، والإشادَة والاهتمام والرّعاية، مما ينبغي أن يضطلع به كلّ محبٍّ لهذه العرَصات المباركة، فبورِكتم بورِكتم، فمحزَّ الحقّ أصَبتم، وداعيَ الله أجبتم، وطابت مكّة المكرمة، ودامت محفوظةً بحفظِ الله، وطابَ مجاوِروها، وطاب مُوقِّروها ومبجِّلوها، وسلِم حجّاجها وعُمّارها وزوّارها، ووفّقنا الله جميعًا لتعظيم المشاعر والشعائر، وجزانا بذلك أعظم البشائر، إنه جواد كريم.
هذا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البَشَر، المبعوث بخير البِشَر، كما أمركم بذلك ربّكم -جل وعلا- في محكم الآيات والسور، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيك المصطفى...
التعليقات