عناصر الخطبة
1/ الأمن والسلام والطمأنينة رهن باتباع شريعة الله 2/ الفرق بين المجتمعات الناجية والهالكة 3/ تنوع دروب الاحتساب بتنوع الفساد 4/ احتساب على مستوى الأفراد والجماعات 5/ عاقبة السكوت عن المفسدين 6/ القرآن يلعن المجتمع السلبي 7/ الاحتساب خصيصة من خصائص هذه الأمةاهداف الخطبة
اقتباس
فالسلام والأمن والطمأنينة والرغد والرخاء نتيجة طبيعية لاتباع شرع الله ونوره، والانحراف عن هذا الشرع إنما هو حيدة عن طريق السلام والنور المبين إلى الخلف والفتن والجوع والشقاق؛ ولذلك ضرب الله لنا الأمثال بالقرى التي تزهد في سبل السلام، وتخرج طوع إرادتها من أنوار الوحي إلى ظلمات الأهواء، فإذا هي تتردى في شرور وعذابات وآلام لا منتهى لها...
الحمد لله الذي شرّف أمة الإسلام بالشهادة على الأمم، وأرسل إليها آخر رسله وأكرمهم وأنزل عليها أعظم كتبه وأكملها، وأشهد أن لا إله إلا الله العظيم الأعلى، له الآخرة والأولى، له ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، جاء بالحق وصدّق به، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بالتقوى؛ فإنها عماد الخير وأساس الفلاح، وإنها لمعراج القبول ومستمسك العصمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أيها المؤمنون: إن ربكم رؤوف بعباده لطيف بهم، خبير بما يصلحهم، دلهم على موارد الخير والسلام والأمن في الدنيا والآخرة: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:16].
نعم -أيها المؤمنون-، فالسلام والأمن والطمأنينة والرغد والرخاء نتيجة طبيعية لاتباع شرع الله ونوره، والانحراف عن هذا الشرع إنما هو حيدة عن طريق السلام والنور المبين إلى الخلف والفتن والجوع والشقاق؛ ولذلك ضرب الله لنا الأمثال بالقرى التي تزهد في سبل السلام، وتخرج طوع إرادتها من أنوار الوحي إلى ظلمات الأهواء، فإذا هي تتردى في شرور وعذابات وآلام لا منتهى لها: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112].
إنها سنة ربانية لا تتبدل ولا تتحول، الطمأنينة ظل الاستقامة على شرع الله، ونتيجة حتمية له، فلا طمأنينة بغير استقامة، ولا أمن بغير دين: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
فإذا رأيتم -عباد الله- الفتن تخترق الأمم، والخوف يمزق الشعوب، إذا رأيتم الجوع والفقر والتخلف والشقاق والفساد، إذا رأيتموها تضرب المجتمعات فاعلموا أن تلك إنما هي عواقب كانت منتظرة وعذابات كانت متوقعة أنذر بها القرآن العظيم، وقص علينا أمثالها ومثولاتها في أمم خلت وقرون سلفت، والسؤال المؤلم هو كيف ينحرف المجتمع المسلم الذي بين يديه الوحي المعصوم والصراط المستقيم، كيف تتخبط الأمة المسلمة بمسالك الخوف والقلق والشر وبين يديها سبل السلام؟! كيف يتردى الناس في هذه الحفر والظلمات ولديها أنور الشرع المبين؟! كيف يغرق المجتمع في الانحراف وفيه عباد مخلصون وعلماء عارفون وقراء يجيدون؟!
إن الإجابة الشافية الواضحة إنها لفي الحديث العظيم الذي رواه النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا". رواه البخاري.
ولا يخلو مجتمع -أيها المؤمنون- مِن شبهات مَن معهم فؤوس الفساد، لا يفتؤون ينقرون قاع السفينة، ولكن الفرق بين المجتمعات الواعية والمجتمعات الغافلة الجاهلة إنما يكمن في وجود القوة التي تهدي السفهاء من خرق السفينة.
إن الفرق بين المجتمعات الناجية والمجتمعات الهالكة هو وجود بقية من أهل الخير والغيرة والعقل يشفقون على المجتمع ويخافون عليه، ويقومون على شؤونها، يحرسونها من أولئك الجهال المتعجلين المهتمين بأنفسهم وشهواتهم فحسب، تلك الفئة المشغولة بحماية المجتمع، الساهرة على سلامته هي أمانه من الهلاك، هي التي تقيه -بإذن الله- من تداعيات الفساد وتراكمات الأخطاء، هي التي تحفظ عليه أعراضه أن تنتهك، وثقافته أن تلوث، وعقيدته أن تشاب بشوائب الشرك والشك، وسياسته أن تنحرف، ولعظم فضلهم على الناس، ولعميم بركتهم على الأمة سماهم الله المفلحين، بل حصر الفلاح فيهم فحسب، قال –عز وجل-: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]، مفلحون لأنهم قاموا بحماية معالم الشريعة وحدود الله أن تنتهك، مفلحون لأنهم قاموا بأشرف مهمة قام بها إنسان: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].
فلا أحد أحسن منهم قولاً، ولا أحد أشد منهم عملاً، مفلحون لأنهم حجزوا مجتمعاتهم عن الفساد، وهل ثارت شعوب العالم الإسلامي واسترخصت الدماء إلا فرارًا من الفساد وتخلصًا من المفسدين؟! وأولئك المصلحون يقمعون الفساد في بداياته، ويكبتون بوادره قبل أن يستفحل وقبل أن يضغط على كل جوانب الحياة ويسد على الناس مسالكها، فلا يجدون بدًّا من المواجهة وإن كانت مبيدة قاتلة، يقول سبحانه: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ) [هود:116]، ثم يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
وذلك عهد من الله وميثاق، ومن أوثق من الله عهدًا!! لم يهلك الله أمة أهلها مصلحون، لم يهلك الله أمة فيها تلك البقية من الأخيار يقومون بدورهم بالقدر الكافي والقوة المطلوبة؛ لأنهم يقاومون الفساد، وهل أهلك الأمم غير الفساد؟! هل اشتكت الشعوب وبكت وتمزقت وجاعت وعرت وافتقرت إلا من الفساد؟!
وإذا تنوعت أشكال الفساد فلابد أن يتنوع معه دروب الاحتساب، فالاحتساب -يا أمة الإسلام- ليس فقط على إغلاق المحلات أوقات الصلاة، ولا على الأخلاق في الأسواق، ولا على الأغاني في المطاعم والصالات، وكل ذلك خير وعظيم، ولكن الاحتساب شامل وعام شمول الشريعة وعمومها، فكل شيء لله فيه أمر ونهي.
بل الاحتساب فيه شأن، ثمة منكرات اقتصادية مالية على مستوى الأفراد والمؤسسات، ثمة انحرافات إعلامية وأخرى مالية وإدارية، هناك جوانب سياسية يجب أن تشملها حركة الاحتساب، وكم حفل تاريخ الإسلام وعلمائه بصور احتساب العلماء على الساسة والأمراء والباعة والشعراء وعلى النساء والصبيان وعلى كل شأن من شؤون الحياة.
لأن المجتمع إذا أغفل أي جانب من جوانب الحياة ولم يحرسه بالاحتساب فإن ذلك الجانب كلما تأخر الاحتساب فيه أو ضعف نخر داء الفساد فيه حتى يعطبه، فإذا أعطبه عز إصلاحه وارتفعت ضريبة تصحيحه.
إن المجتمعات المسلمة الثائرة إنها اليوم تدفع ضريبة التصحيح المتأخر، إنها اليوم تلوم نفسها على السكوت والمداهنة والضعف الذي طالت آماده حتى ضرب الفساد أطنابه في كل مفاصل الحياة، فعز التخلص منه إلا بانتفاضات تسفك فيها دماء وتزهق أرواح.
أجل -أيها المؤمنون- إن الفساد لا يغفل إذا غفلنا عنه، وإن المفسدون لا يسكتون إذا سكتنا عنهم، وإن تركهم وما يشاؤون هو ترك للبلاد لتنحدر إلى الفتن التي ترون أمثالها هنا وهناك، وإن من أكبر المغالطات وأعظم الغش لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم أدعياء علم أو مدعو حكمة وينهون المصلحين عن نصحهم، أو ينكرون عليهم مواقفهم الشجاعة ووقفاتهم المخلصة بحجة الخوف من الفتنة، ألا إن الفتنة هي الصمت على المنكرات، ألا إن الفتنة هي ترك الأمة تنزلق إلى عذابات الدنيا والآخرة.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
إن السكوت على الأخطاء والذنوب هو الذي ينبت الفتنة ويسقي مدها، حتى إذا انفجرت على نحو ما ترون في العالم من حولكم عمت الصالح والمفسد: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال:25].
أيها المؤمنون: لقد أخرجت الصحوة المباركة المصلحين في كل التخصصات الشرعية والطبية والسياسية والقانونية والإعلامية وغيرها، ألا فليقم كل مختص على ثغره، وليحرس كل مؤتمن حقله وبابه، فكل تلك الأبواب مستهدفة بالفساد والمنكرات، فمن يحميها إذا أسلمها رجالها؟! من يرد عن أمة الإسلام فسادها إذا غفل عنها صادقوها ومصلحوها.
إن المجتمع بأسره مطالب بحركة الاحتساب المباركة كلٌّ بقدر ما آتاه الله من العلم والقدرة، وقد أفلح والله من اتقى ربه قدر استطاعته.
إن القرآن العظيم يلعن المجتمع السلبي الذي يسكت وهو يرى حدود الله تنتهك، قال سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) [المائدة:78]، (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة:79].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكن فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: اتقوا الله ربكم، واعلموا أن الله –عز وجل- بفضله على أمة محمد اختارها للشهادة على الناس، وجعلها الأمة الوسط العدل الخيار، وجعلها أمة الخيرية والرحمة والهداية، يقول -تبارك وتعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران:110].
وانظر كيف أخّر الله الإيمان بالله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآية؛ ذلك لأن الإيمان بالله خصيصة تشترك فيها أمة الإسلام مع غيرها ممن سبقها من أمم الإيمان، ولكن القيام بهذه الشعيرة -شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إنما هو خصيصة من خصائص هذه الأمة المباركة، فمن أعظم مقاصد الشريعة في الاحتساب هو تصبير الأمة وتمكينها من أزمة قيادة العالم، واستواؤها على عرش الخيرية والشهادة والعدل، يقول الرازي في تعليقه على الآية الكريمة: "واعلم أن هذا الكلام مستأنف، والمقصود منه بيان علّة تلك الخيريَّة، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس. أي هذه أمة خيرية لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر".
والمعنى -أيها المؤمنون- أنه لا يمكن أن يقود العالم أو يسوده إلا أمة صالحة تمتلك باب القوة بصحة عقيدتها، وسلامة أخلاقها، وقوة اقتصادها، وإحكام إدارتها، ووفرة مالها، وقوة جيوشها، ونقاء إعلامها.
ولم تكن أمة الإسلام كذلك إلا إذا قامت قائمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على كل تلك المجالات والاحتساب، وإلا فكيف لأمة مدخولة العقيدة فاسدة السياسة رديئة الأخلاق كيف لها أن تقود!! بل كيف لها أن تتحضر أو حتى تعيش كما الناس يعيشون!!
ولذلك فإن الإسلام يوجب على كل فرد فيه أن ينضم إلى ركب الحسبة، لا عذر لأحد، كلٌّ بقدر استطاعته، وإلا فإنه يأثم إن تخلف، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
هذا؛ واعلموا -يا عباد الله- أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال الله -جل الله-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) [الأحزاب: 57].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
التعليقات