عناصر الخطبة
1/حادثة واقعية لأكل لحوم البشر 2/تفشي الغيبة بين الناس 3/خطر الغيبة والتحذير منها 4/أوجه الشبه بين الغيبة والربا 5/العواقب الوخيمة للغيبة في الدنيا والآخرة 6/بعض آثار السلف في التحذير من الغيبة 7/مجاهدة النفس على ترك الغيبة وبعض الوصايا في ذلك 8/كيفية التوبة من الغيبةاهداف الخطبة
اقتباس
لا شك أن النفوس قد تقززت من هذه الحادثة واشمأزت، واستبشعتها القلوب قبل الآذان، وهذا من طبيعة النفوس المؤمنة أن تكره ذلك، وتشمئز منه. ولكن العجب كل العجب: أن هذه النفوس نفسُها، وهذه القلوبَ ذاتها، تجالس صنفاً من الناس، وتخالطهم على أكل اللحوم، وأي لحوم؟ إنها لحوم الـ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق الإنسان، علمه البيان، ونهاه عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، أحمده على ما أولاه من الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها دخول الجنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المؤيد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أهل الصدق والإيمان، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعدُ:
فيا عباد الله: ما أبشعها من لحظة، يوم نقرأ في تاريخ من قد مضى: أن رجالاً كانوا يأكلون لحوم البشر، ذكر لنا ابن كثير صاحب كتاب "البداية والنهاية": "أن الناس في سنة اثنتين وستين وأربعمائة قد أكلوا الجيف والميتات، بل أكلوا لحوم الصبيان والبنات، بل نزل الوزير -في ذلك العهد- عن بغلته يوماً فغفل غلامه عنها لضعفه من الجوع، فسرقها ثلاثة نفر فذبحوها، ومن الجوع أكلوها، فقُبَض عليهم، فأخذوا فصلبوا، فلما أصبحوا إلا وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها من شدة الجوع" -والعياذ بالله-.
لا شك أن النفوس قد تقززت من هذه الحادثة واشمأزت، واستبشعتها القلوب قبل الآذان، وهذا من طبيعة النفوس المؤمنة أن تكره ذلك، وتشمئز منه.
عباد الله: ولكن العجب كل العجب: أن هذه النفوس نفسُها، وهذه القلوبَ ذاتها، تجالس صنفاً من الناس، وتخالطهم على أكل اللحوم، وأي لحوم؟
إنها لحوم البشر، إنهم يأكلون لحوم المسلمين الأحياء منهم والأموات، وتجدهم في مجالسهم الآثمة يأكلون لحوم الإخوان والأرحام والأصحاب، ويسمون هذه الأكلات بغير اسمها.
ومع ذلك كله، لا شجب، ولا استنكار، بل سماها بعضهم "مقبلات".
وآخرون عبروا عنها بأنها من "الحش".
والحش يُجمل الأشجار، ويُزين الأزهار.
ألا بئس ما يقولون! وما أقبح ما يفعلون!.
إنها الغيبة، وإن سموها بأحسن المسميات، إنها كبيرة من الكبائر، وإن وصفوها بأجمل الأوصاف.
الغيبة كبير إثمها، وعظيم عقابها.
الغيبة ينفر منها الفضلاء، ويَقَعُ فيها السُّفَهَاء.
أيها المؤمنون: آية في كتاب الله، كم من المرات رددناها؟ وكم من المرات سمعناها؟! ولكننا لا نستشعر معانيها -إلا من رحم-.
الله -تعالى- يقول في محكم كتابه: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات:12].
أيها المؤمنون: والغيبة صفة الفاسقين، لا ينبغي أن تكون في المؤمنين؛ قال تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)[الحجرات:11].
أيها المؤمنون: إن الغيبة لا يمكن صدورها عمن كان قلبه عامراً بالإيمان؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَـرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فإنَّه مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ"[رواه أحمد وأبو داود].
واعلموا -أيها المؤمنون- أنه لا أكره ولا أنتن من رائحة الذين يغتابون المؤمنين؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فارتفعت ريح منتنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين"[رواه أحمد في المسند].
واعلموا -أيها المؤمنون- أن الغيبة ربا؛ فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم"[رواه الطبراني].
وربما تساءل أحدكم: ما وجه الشبه بين الغيبة والربا؟
فالجواب: الأكل! كيف ذلك؟
الجواب: أنَّ الغيبة أكل لِلَحْمِ المسلم، والربا أكل لماله.
عباد الله: ولما تساهل كثير من الناس بالغيبة، ضاعت الأوقات، وأُنفقت الأموال، واشتغلوا بقيل وقال، وكثرة السؤال، وتمكن سوء الظن في القلوب، حتى تباغضت وتحاسدت -إلا من عافاهم الله وقليل ما هم-.
هذه بعض خسائر الدنيا التي أثمرتها تلك الكلمات الآثمة.
أما في الآخرة، فلهم عذاب، وأيُّ عذاب وعقاب، وأيُّ عقاب؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ"[رواه أبو داود].
أيها المؤمنون: جاءت الآثار عن سلفنا تحذر من هذه المعصية، وتبين بعدهم عنها؛ سمع عليُّ بن الحسين -رضي الله عنه- رجلاً يغتاب، فقال: "إياك والغيبة؛ فإنها إدام كلاب الناس".
وعن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: "الغيبة مرعى اللئام".
وفي سير أعلام النبلاء، قال البخاري -رحمه الله-: "ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها".
عباد الله: ينبغي أن نربي أنفسنا، ونجاهدها على أن لا نتكلم في أحد من الناس إلا بخير، فإن الغيبة تأكل الحسنات.
أيها المؤمنون: على أهل النفوس المؤمنة: أن يُمسكوا ألسنتهم عن هذا المرض الخبيث: "الغيبة" وأن ذلك يحتاج إلى مجاهدة، وإلا سيصبح مرضا ملازما.
جاهد نفسك -أخي في الله- إن غضبت من أحد، أو رأيت نعمة على أحد: أن لا يدعوك هذا الغضب، أو ذاك الحسد، إلى أن تتكلم فيه وفي عرضه.
كن من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس؛ تكن إن شاء الله من المحسنين: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:134].
قال صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء".
فمن يزهد بهذا الفضل العظيم؟!.
جاهد نفسك -أخي في الله- على مصاحبة الذين لا يستطيلون في أعراض الناس، وكن حازما غير مجامل.
جاهد نفسك -يا عبد الله- أن لا تذكر الناس إلا بخير.
يا عبدالله: لا تهد حسناتك للآخرين؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا دِرْهَم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار"[رواه مسلم].
فينبغي -يا عبدالله- أن تكون بخيلا بحسناتك، لا تنشرها على الآخرين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول ما قد سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه كان غفّارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده -تعالى- تعبدا ورقا، ونشكره -عز وجل- عملا ونطقا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تبارك تقديرا وخلقا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد الخلق وأشهرهم ذكرا، وأرفعهم قدرا، قد خاطبه ربه في الذكر الحكيم بقوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[القلم: 10- 13].
اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه أولي النهى والأحلام، وعلى التابعين لهم بإحسان في حفظ اللسان، وقلة الكلام، أفضل صلاة وسلام، مادامت الليالي والأيام، وعلينا معهم وفيهم يا ذا الجلال والإكرام.
أما بعد:
فيا عباد الله: وسوس الشيطان إلى البعض من الناس، فالتفتوا إلى غيبة أئمة المساجد، وخطباء الجوامع، وطلاب العلم والعلماء، فسخروا منهم، واغتابوهم وتنقصوهم، وأكلوا لحومهم، في مجالسهم الآثمة، ويغمزونهم ويلمزونهم، ويكذبون عليهم: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[الحشر:11].
يا عباد الله: أدعوكم ونفسي: إلى التوبة النصوح من الغيبة، وانصح نفسي وإياكم: أن نستغفر الله كثيرا بُكرةً وأصيلا، وأن نندم على ما فات من الكلام في الأحياء أو الأموات.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ"[أخرجه البخاري].
التعليقات