عناصر الخطبة
1/ قارون نموذج لمن كفر بأنعم الله 2/ كثرة نعم الله وقلة الشاكرين 3/ الأنبياء وخلق الشكر 4/ قيدوا النعم بشكرها أو أزيلوها بكفرها 5/ تأملات في مصائر من كفروا بنعم الله ومن شكروااهداف الخطبة
اقتباس
اكفروا نعم الله، وأنا ضمين لكم بقارون مخسوف به، وبعادٍ جديدة، تهلك بالصرصر العاتية، وبثمود أخرى تهلك بالطاغية.. اكفروا نعمة الله، وأنا ضمين بسبأ والأحقافَ وذي الأيكة وقومِ تبع، وأصحاب الرس، وفرعون وهامان ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير يهب الرضا لمن اهتدى ومن يضلل يذقه من عذاب السعير:
الحمد له يعطي الذي يعطي *** وحاشا جودِه أن يبخلا
جلت جلائل فضله عن عدها *** وهو الذي وفَّى وفي إكرامه قد أسبلا
ملكوته في كل شيء رحمة *** متفضل ما شاء أن يتفضلا
وله سؤال الخلق في ما شاءه *** وهو الذي قد جل جبار السما أن يسألا
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147].
ليست لقارون حكاية طويلة، إلا أنه قال ذات يوم: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78]، فلما كان من غد خُسفت به وبداره الأرض
خَسَفت به الأرضونَ من كفرانه *** والأرض تخسف بالبغي الكافر!
يا ويل قارون، أكان ضره لو اعترف ثم قال:
شكرتك يا رحمن بالحمد والرضا *** وها أنا أبقي لطف جودك بالشكر!
أما قارون فقد مات، وأما مسارب الكفر في قلبه، فلن تزال منتفضة حية، والنِّعم تصدِّق ذلك أو تكذبه في كل قلب بشري قارونٌ صغير؛ فالمؤمن يحرقه بالشكر، والظالم ينمِّيه بالجبروت!!
وأما إبليس فهو يعلن التحدي ليقول: (لآتينَّهُم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 17].
ورب العزة يقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]
فاختر لنفسك يا أخا العرفان*** أبحزب ربك أم هوى الشيطان؟!
نعم الإله جليلة تترى *** والأعطيات ترومنا جهرا!
الله أعظم ما شكرت له *** يجزي بشكر عباده شكرا
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [البقرة: 243].
نعوذ بالله من نِعمٍ نقمت علينا، فنسينا شكر الله بها!! حديثٌ كهذا، قد لا تهش له ضمائرُ سامعة، أو أفئدةٌ جائعة، هوت الألذَّ من الحديثِ الأطيبا، وتريد معنى تشتهيه لتطربا
نعم: أعترف أن عنوان هذه الخطبة: أفلا يشكرون؟ أفلا يشكرون، أهو سؤال؟ فأين جوابه؟
نعترف ثانية، أن الإجابة على سؤال كهذا ما تحققت بعدُ، بل يَخْلق فيُعبَد غيرُه، ويعطي فيُشكَر سواه، ويحفظ فليلجأ لغيره، ويثيب فيدعى سواه!
الخير منه نازلٌ *** والشرٌّ منا صاعدٌ
وعوائد من جوده *** ما مثلهنَّ عوائد
طابت لأرباب الهدى *** منه، وخاب الجاحد
نعم، نعترف اعترافا تاما، ونقر إقرارا كاملا، أنك قلت عنا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10] فصدقت، ومن أصدق منك حديثا، فلم نشكرك حق شكرك، وقلت عن عبادك: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13] فصدقت.
فالشاكرون قليل إن أردتهُمُ *** والكافرون بربي أكثرُ الناسِ
كل هذه الفيوضات وهذه البركات والأنعم السابغات، والمخلوقات، والكائنات، والعظمة والإحكام والصنع والدقة، والملك والملكوت، والجبروت! وقليلا ما يشكرون؟. فلولا يشكرون. لعلهم يشكرون. لقوم يشكرون. ولكن أكثر الناس لا يشكرون!
لقد أحصيت في كتاب الله الآيات المختومة بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 52] فوجدت أن الله قد ذكرها في أربعة عشر موضعًا! بهذه الصيغة فحسب، وسواها من الصيغ أكثر أيضا.
نعم، هي غاية قرآنية من الغايات المحكمة؛ لإيجادنا، وإسباغ النعم علينا، وإذا ضاعت الغاية، ضاعت الوسيلة! من الذي قال لهم: أن بينهم وبين النعمة نسبا؟ ولقد علم الذي تمت كلمته صدقا وعدلا أنهم لئن شكروا ليزيدنهم، ولئن كفروا فعذاب الله شديد!!
يا رب أنت خلقتني *** وخلقت لي وخلقت مني
سبحانك اللهم عالم *** كلِّ غيب مستكن
ما لي بشكرك طاقة *** يا سيدي إن لم تعني!
نشكر الله على أفضاله، يمنح الشُّكْر لمن لا يشكره! ألم تُعطنا أنت هذا الضياء وأعطيتنا أنت هذا السّحر؟ ألم تهدنا دينك المستقيم وأهديتنا من صنوف العبر؟ لك الشكر، في الصحة والسقم!
قيدوا النعمة بالشكران، وإن شئتم فحلُّوها وأزيلوها، بالكفران والطغيان، والنسيان، والعصيان، والنكران
قيدوها بشكر الله! فإن الله قد ضرب أمثلة في كتابه، على الكافرين بنعمه، فخسف الله بهم، كأن لم يكونوا في الأرض يوما.
نعمٌ ما بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.. أما أوجدنا، أما أبدعنا؟! أما رزقنا؟! أما هدانا، ألم يتب علينا، ألم يرشدنا؟ أما هو الذي أصحّنا، أما قوّانا، أما أورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء؟!
لك الشكرُ يا ربنا والمحامدُ *** تزيد على النُّعمى وفضلك زائد
أفلا يشكرون؟
اشكروا نعمة الشكور فربي محسن مؤمن ومعطٍ غفور باسط كفَّه بنعماه دوما وهو للشاكرين برٌّ شكور
سنة الشكر، من سنن الأنبياء قبلنا:
آدم -عليه السلام- وحواء حين يشكران فيقولان: (لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف: 189]، نوح -عليه السلام-: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء: 3]، إبراهيم -عليه السلام- (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 120- 121]، داود -عليه السلام-: قال الله له: (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ: 13].
سليمان -عليه السلام- قال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19].
لقمان -عليه السلام-، (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12].
يوسف -عليه السلام-: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [يوسف: 38].
موسى -عليه السلام-: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف: 144].
وأمر الله أنبياءه وأمر الناس: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "أفلا أكون عبدا شكورا"
ومن الرزية أن شكري صامت *** عما فعلت وأن برك ناطق
أأرى الصنيعة منك ثم أُسِرُّها *** إني إذن لعطاء ربي سارق
جبالٌ من العطيّات لا تحصى شواهدها، وكيف والأفق هذا شاهد فيه
أشعر أني في محيط كبير وأنا أدير حديثا كهذا، لم ألجه بعد؛ فكيف نسبح إذن؟!
تنعقد الألسنة، وكل شيء هاهنا من حولك يدعوك للشكر، ونستغفر الله العظيم إن كنا ظننا أننا سنوفي شكر الله، وأنعمه ونعماءه وفضله وإحسانه، بمثل هذا المقام!!
والله ما تمرَّ لحظة واحدة ولا أجزاؤها إلا وللإنسان على ربه نعمة يربُّها، فليشكر إذن أو ليكفر!
أما عودتنا النعم عوائدها، فتبلدنا، فاستغربنا من دعوات الشكر؟!
دع عينيك تتوقف لحظتين.. دع الجوع يعمل فيك ليلتين .. دع الماء تفقده مرتين.. ودع الهواء يحبس ثانيتين.. دع النوم يهرب منك قليلا.. دع العافياتِ تموت تموت.. ودع نعم الإله تبور يوما لتنظر كيف أنت بها تعيش..
لك الشكر طوعا لك الشكر فرضا وثيقا عميقا سماء وأرضا
لك الشكر صمتا لك الشكر ذكرا لك الشكر خفقا
لك الشكر نبضا
لك الشكر ملء خلايا جناني وكلِّ كياني رنوّاً وغمضا
إلهي وجاهي إليك اتجاهي وطيدا مديدا، لترضى فأرضى
الله أعظم ما شكرت له يجزي بشكر عباده شكرًا!
(أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) [يس: 71- 73].
أفلا يشكرون؟
من الذي خلقكم ثم يتوفاكم؟ إنه الله. من الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم، ولا تعلمون شيئا؟ إنه الله
من الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون؟ إنه الله
من الذي فضّل بعضكم على بعض في الرزق؟ الله
من الذي جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات؟ إنه الله
من الذي جعل لكم من بيوتكم سكنا؟ الله
من الذي جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم؟ إنه الله
من الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم؟ إنه الله
من الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله؟ إنه الله
من الذي خلقكم من ضعف؟ إنه الله. ثم جعل من بعد ضعف قوة؟ إنه الله؟ ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة؟ إنه الله
من الذي أنبتكم من الأرض نباتا؟ من الذي جعل لكم الأرض بساطا؟ إنه الله
من الذي يقبض ويبسط وإليه ترجعون؟ إنه الله
من الذي أعلم بما كانوا يكتمون؟ إنه الله من الذي يؤيد بنصره من يشاء؟ إنه الله
من الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؟ إنه الله
من رءوفٌ بالعباد؟ من عزيز ذو انتقام؟ إنه الله
من سريعٌ للحساب؟، من شديدٌ بالعقاب؟، من بصيرٌ بالعباد؟ إنه الله
من خبيرٌ من بصيرٌ؟ من سميعٌ من عليم؟ من عزيز من حكيم، من غفورٌ من رحيم؟ من غفور من شكور؟ إنه الله، الله، الله
والله مالك غير الله من أحد *** فحسبك الله في كلٍ لك الله!
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 89].
أستغفر الله ولي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بتقوى الإله*** فإن الإله سريع النقم!
هما أمران، شكران أو كفران؛ فمن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني كريم!
الشكر يفتح أبوابا مغلقة *** لله فيها على من رامه نعم
ورد في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أيُّ شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذِرني الناس به، فمسه فذهب عنه قذرُه وأعطي لونا حسنا، قال: فأيُّ المال أحب إليك قال الإبل، فأعطي ناقة عُشَراء، وقال له بارك الله لك فيها.
فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذِرني الناس؛ فمسحه فذهب عنه وأعطى شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملا وقال بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال أن يَرُدَّ الله إليّ بصري فأُبصر الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاةً والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
ثم إن المَلَك أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال الأبرص: الحقوق كثيرة. فقال الملك: كأني أعرفك ألم تكن أبرصَ يقذِرك الناس، فقيرا فأعطاك الله. فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر.
فقال الملك: فإن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الملكُ الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل مارد هذا فقال الملك: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ له: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ الملك: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ".
استدفعوا نقم الله بشكران نعمه، فقد ضرب الله لنا في كتابه، عجبا من العجب لقرى كاملة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، لكنها كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]
فبادر الشكر واستغلق وثائقه ***واستدفع الله ما تجري به النقم
ضرب الله لنا مَثَلاً بهذه القَرْيَة، وابن عباس رضي الله عنه، حين أتى على تفسيرها، قال: هذه القرية، هي مكة وقد قاله قتادة ومجاهد وابن زيد.
(كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) يسوق الله لها أرزاقها من أنحاء الدنيا، فكفرت برسالة محمد بن عبد الله، فجعلهم الله صرعى للجوع، وصرعى للخوف، ومنهم من قضى نحبه جيفة ملقية في قليب بدر، ومنهم صرعى الشتات، والموتِ على الكفر..
يقول ابن عباس: "هذه القرية هي مكة"؛ ونحن نقول: رضي الله عنك يا أبا العباس، بل هي كل قرية تكفر بالله، تكفر بنعم الله، تكفر بشرائع الله، بحقوق الله..
هي في كل قرية، ضيعت حدوده، في كل قرية ضيعت شعائره..
في كل قرية لم تقدر: لا إله إلا الله، وما انضوت تحت لوائها الخفاق، يهتف عاليا: الله أكبر!!
في كل قرية يُمسخ شبابها، وتنفلت نساؤها، ويفسخ العقدَ رجالُها..
في كل قرية تحارب أصواتُ مصلحيها، ويسخر من صالحيها..
في كل قرية ومدينة، وبلدة انحدرت أخلاقها، فهي في كل يوم تتعرى، وفي كل يوم تدفن ميثاقا سماويا، وتلد نظاما بهيميا..
نعم -يا أبا العباس- كلها نعم الله، وكل هذه القرى ليس بينها وبين الله نسب أو سبب!
اكفروا نعم الله، وأنا ضمين لكم بقارون مخسوف به، وبعادٍ جديدة، تهلك بالصرصر العاتية، وبثمود أخرى تهلك بالطاغية..
اكفروا نعمة الله، وأنا ضمين بسبأ والأحقافَ وذي الأيكة وقومِ تبع، وأصحاب الرس، وفرعون وهامان..
يقول ابن كثير: "كانت المرأة في سبأ تذهب بسلة على رأسها فتمتلئ السلة من الثمار التي تتساقط على السَّلة، وآتى الله كل رجل من سبأ بجانب بيته بستانين وجنتين، عن يمين وعن شمال، يخرج من بيته، بستان عن يمينه وبستان عن شماله، ثمار دانية، نعيم خالد، ظل وفير، وماء بارد، وحياة الرغد تملأ الديار، ولكن القلوب أعرضت عن الجبار".
ففعلوا كما يفعل الآن: وهناك من يريد أن يعيد السبئية الجديدة؛ منتفخة بالكفر، مطلية بالجحود، يتخلعون عن الدين، يأمرون بالمنكر، وينكرون المعروف، ويستهزءون بالرسالة، ويقاطعون، أصوات الحق،
أكان بين الله وبين خلقه حبل متين حتى لا يسعنا ما وسع غيرنا؟!
كلا والله؛ ونحن ما الذي وجدناه في هذه الصحراء القاحلة، التي تفر منها الدواب، ويشتد فيها الحر، ويجمدها البرد، ما ذا كان بينها وبين الله حتى يجعلها مروجا وأنهارا؟!
أكان غير التوحيد، وتقييدنا نعمة الله بالهدى ودين الحق؟!
إذن فلم هذه الحتوف بكفراننا النعم، وتضييعنا المواثيق، والتفسخ والفساد في البلاد والعناد, والإفساد والإلحاد؟!
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)،
والله يقول: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) [القصص: 58]..
ويقول عن قوم ما كانت بينهم وبين الله وقاية إلا بالشكر، فلما كفروا، كفر بهم في الأولى والأخرى، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28].
نِعَمٌ، كانت على قو*** مٍ زمانا، ثم فاتت
هكذا النعمةُ والإح*** سانُ قد كانت وكانت
اشكروا نعمة الله، اشكروا نعمة الله فهو أبقى لها..
اشكروا نعمة الشكور فربي محسن مؤمن ومعطٍ غفور باسط كفَّه بنعماه دوما وهو للشاكرين برٌّ شكور.
يقول الكاتب إبراهيم كوكي -وهو كاتب سوري-: لما بلغ الترف بأهل العراق أنّ ما ينزل على المائدة يرمى بما بقي منه إلى المهملات، ولم يكونوا يأكلون أي أكل، طافت عليه ساعات عدة، يقول: ابتلاهم الله بالحصار عشر سنين حتى صاروا يأكلون الخبز الأسود اليابس، ومات لهم مليونا طفل من الفقر والمرض.
ويكمل الكاتب فيقول: لما صرت أرى في دمشق وضواحيها الخبز في الحاويات بكثرة، ورأيت امرأة فقيرة سقط منها رغيفُ خبز فتركته على الأرض ثم مضت، ورأيت آخر يبعد ما سقط منه على الأرض بأطراف قدميه.
ورأيت بأم عينيّ وصول الهدر إلى مستويات مخيفة في بلدي أيقنت أننا مقبلون على أيام سوداء، سنشتهي بها هذه الأرغفة من الخبز التي كنت أراها في الحاويات.
حتى صاروا ما صاروا وأهلها *** شذرا للحادثات، وأمسى جدُّها تعِسا
ففي العراق وفي أرض الشام بها *** ما ينسف النفسَ أو ما ينزف النفَسا
مدائنٌ حلها الإفساد مبتسما *** جذلانَ وارتحل الحبور مبتئسا
وصيَّرتها العوادي العابثات بها *** يستوحش الطرفُ منها ضِعْف ما أنِسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها *** مدارساً للمثاني أصبحت دُرُسا
كيف تشكر نعم الله؟
أحسنوا جوار نعم الله، فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أحسنوا جوار نعم الله لا تنفروها فقلما ذهبت عن قوم فعادت إليهم".
وفي رواية لابن ماجه: "يا عائشة أكرمي كريما؛ فإنها ما نفرت عن قوم فعادت إليهم".
اشكروا نعمة الله بأقوال وأفعال، فالله يقول: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 145] (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 33].
وروى مسلم في صحيحه: "إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها" (رواه مسلم).
تفكروا في نعمه: عن عائشة -رضي الله عنها مرفوعا-: "ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها، وما أذنب عبد ذنباً فندم عليه إلا كتب الله له مغفرة قبل أن يستغفره، وما اشترى عبد ثوبا بدينار أو نصف دينار فلبسه فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له" أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: "لا أعلم في إسناده أحدا ذكر بجرح ولم يخرجاه".
الشكر ليس عبارة مسموعة *** وقفت بثغرك ثم ماتت فيه
الشكر منك عبارة وعبادة *** فعلية ما الشكر بالتمويه
الشكر ليس كلمات تردد، بل مواقفا تتجدد بشكر المنعم المتفضل،
وهذه الجملة تختصر كل الخطبة: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعل لك شاكرين، لك ذاكرين لك، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين.
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد
التعليقات