عناصر الخطبة
1/ أهمية التحية وفضلها في القرآن والسنة 2/ السلام شعار للأمة المحمدية 3/ السلام من أسماء الله -عز وجل- 4/ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لإفشاء السلام 5/ أبخل الناس من بخل بالسلاماقتباس
إن السلام حق من حقوق المسلم على أخيه؛ فإسلامنا لا يريد من أحدنا قسيسًا في صومعته، أو راهبًا في صلواته، أو معتكفًا لا يبرح مسجده، أو صامتًا قد أعلن لله صومه، أو منعزلاً عن الناس قد اختلى بنفسه؛ بل أراد مجتمعًا يسوده الإخاء، وكيانًا مترابطًا متسامحًا يتصف بالإخاء، له حقوق وعليه واجبات ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أُمتنا خير أمة، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادةً تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تكون لنا نورًا من كل ظلمة وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- القائل: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة:281]، فاتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله: لما جاء الإسلام الحنيف شرع الله -عز وجل- فيه تحية للمسلمين فيما بينهم، وشعارًا لهم، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال الله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [النور: 61]، على أنفسكم؛ لأنك حين تسلم على غيرك كأنك تسلم على نفسك؛ لأن غيرك هو أيضًا سيسلم عليك؛ ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة. فإذا دخلتم -أيها المؤمنون والمؤمنات- بيوتًا فسلموا على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم، وحيوهم تحية ثابتة من عند الله، مباركة طيبة؛ أي مسْتَتْبِعة لزيادة البركات والخيرات ولزيادة المحبة والمودة. ووصف ربنا - سبحانه- هذه التحية بالبركة والطيب؛ لأنها دعوة مؤمن لمؤمن وكلاهما يرجو بها من الله- تعالى- زيادة الخير وطيب الرزق والحياة.
وأرشد الله -سبحانه- عباده إلى آداب الدخول على الناس في بيوتهم ومحلاتهم، وضرورة الاستئناس والسلام عليهم؛ ليكون الإنسان حينها حسن المدخل حسن المخرج، فهذا من حسن خلقه مع الناس، قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور:27]، يقول ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: "هذه آداب شرعية، أدَّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان، فأمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأنسوا؛ أي يستأذنوا قبل الدخول، ويسلموا بعده، وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أُذن له وإلا انصرف" [ابن كثير:3/339].
وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن السلام سنة الأنبياء، بل وبدأ به بعد أن خلق أبينا آدم -عليه السلام-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة، فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك، فقال السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله.." [رواه البخاري ومسلم].
قال ابن القيم -رحمه الله- موضحًا أهمية السلام كشعار للأمة المحمدية:".. فشرع الله الملك القدوس السلام لأهل الإسلام تحية بينهم سلام عليكم، وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي فيها ما هو محال وكذب نحو قولهم: تعيش ألف سنة وما هو قاصر المعنى مثل أنعم صباحًا، ومنها ما لا ينبغي مثل السجود، فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله؛ لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها، فهي الأصل المقدم على كل مقصود، ومقصود العبد من الحياة يحصل بشيئين: بسلامته من الشر وحصول الخير عليه والسلامة من الشر مقدَّمة على حصول الخير وهي الصلة" [بدائع الفوائد:2/ 373].
عباد الله: وقد أمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حيوا بأي تحية كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظًا وبشاشة، أو مثلها قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء:86]، وعن عمران بن حصين، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِيُّ: "عَشْرٌ" ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ: "عِشْرُونَ" ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ " ثَلَاثُونَ" [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وعلى هذا الفضل ومثله تنافس الصحابة على الثواب المترتب على بذل السلام بصيغته المشروعة الكاملة؛ فالتسابق في ميادين الخير والتنافس عليه كان شعارهم وميدانهم الذين هم فرسانه، وقد وعوا كثيرًا أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- قولاً وعملاً، فكانوا لا يفوتهم خير ولا نافع.
وعن عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام خير؟ فقال: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ" [رواه البخاري، ومسلم]، قال ابن رجب: "وجمع في الحديث بين إطعام الطعام وإفشاء السلام؛ لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل وهو أكمل الإحسان، وإنما كان هذا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام وواجباته" [فتح الباري].
وقال السنوسي: "المراد بالسلام: التحية بين الناس، وهو مما يزرع الود والمحبة في القلوب، كما يفعل الطعام، وقد يكون في قلب المحبين ضعف فيزول بالتحية، وقد يكون عدوا فينقلب بها صديقًا. وهذا حضّ منه -صلى الله عليه وسلم- على تأليف قلوب المؤمنين، وإن أفضل خلقهم الإسلامية ألفة بعضهم بعضًا وتحيتهم وتوادهم واستجلاب ذلك بينهم بالقول والفعل، وقد حض -صلى الله عليه وسلم- على التحابب والتودد وعلى أسبابهما؛ من التهادي وإطعام الطعام وإفشاء السلام، ونهى عن أضدادها من التقاطع والتدابر والتجسس والتحسس والنميمة وذوي الوجهين.
والألفةُ أحد فرائض الدين وواجبات الشريعة ونظام شمل الإسلام، وفي بذل السلام على من عرف ومن لم يعرف إخلاص العمل لله تعالى؛ إذا لا مصانعة ولا مَلَقًا لمن تعرف دون من لا تعرف، وفيه مع ذلك استعمال خلق التواضع، وإفشاء شعار هذه الأمة من لفظ السلام". ا.هـ. [إكمال المعلم شرح صحيح مسلم].
عباد الله: لقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بإفشاء السلام في أحاديث كثيرة؛ منها حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَضَعَهُ بَيْنَكُمْ فَأَفْشُوهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلُ دَرَجَةٍ لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمُ السَّلَامَ، فَإِنْ هُمْ رَدُّوا عَلَيْهِ وَإِلَّا رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ" [ الطبراني في الكبير:10391، وصححه الألباني].
فالسلام اسم عظيم من أسماء الله -عز وجل-، وعلى هذا فإنّ قول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أي هو يراقبكم ويطّلع عليكم، فيكون فيها موعظة وتذكير بالله، ويدخل في المعنى كذلك: نزلت عليكم بركة اسمه تعالى، وحصلت عليكم سلامته ورافقتكم؛ فيا له من مغنم وفير، وخير جمّ كثير أن يذكر المسلم اسم الله -تعالى-، وأن يذكّر به الناس؛ الذي بذكره تطمئن القلوب وتنشرح الصدور.
وجاء في حديث عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: "ثَلَاثُ خِلَالٍ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ خِلَالَ الْإِيمَانِ"، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ وَمَا هَذِهِ الْخَلَّالُ الَّتِي زَعَمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ خِلَالَ الْإِيمَانِ؟" فَقَالَ عَمَّارٌ عِنْدَ ذَلِكَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "الْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ" [رواه أبو نعيم في الحلية، والكلم الطيب للألباني].
وبذل السلام للعالم يتضمن تواضع الإنسان، وأنه لا يتكبر على أحد، يبذل السلام للصغير والكبير، والشريف والوضيع، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، والمتكبر ضد هذا، فإنه لا يرد السلام على كل من سلم عليه، كبرًا منه وتيهًا، وأما الإنفاق في الإقتار فلا يصدر إلا عن قوة وثقة بالله -عز وجل-، أن الله يخلفه ما أنفقه، عن قوة يقين، وتوكل، ورحمة، وسخاء نفس بها، ووثوق بوعد الله، من وعده مغفرة منه، وفضلاً، وسعة، وتكذيبًا بوعد من يعده الفقر، ويأمره بالفحشاء، والله المستعان.
كما أن في إفشاء السلام لطيفة أخرى أنه يتضمن: رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله مخلصًا فلا يتبع فيه هواه، وعامًّا للجميع فلا يخص أصحابه وأحبابه به.
ولا شك -عباد الله- أن السلام من أعظم أسباب الألفة والمحبة، وهو طريق إلى الجنة، وهو تحية أهل الجنة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ" [رواه مسلم]، قال النووي -رحمه الله-: "وفيه الحث العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف، كما في الحديث الآخر. والسلام أدل أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إنشائه تكمن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع وإعظام حرمات المسلمين" [شرح النووي على مسلم].
وما أجمل إفشاء السلام وانتشاره بين الناس، فيسلّم الأخ على أخيه المسلم إذا لقيه، وأن تسلم المسلمة على أختها إذا لقيتها، وما أجمل السلام إذا حُلّي بابتسامة، وزُيّن بطلاقة وجه، وكمّل بالمصافحة، وقارن ذلك كله الإخلاص لوجه الله -تعالى-.
وحقا لقد أدى توجيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه بأن يفشوا السلام بينهم ثماره، وآتى أُكُله واقعًا في حياته وبعد مماته؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار، أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضًا" [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وقد كانوا كذلك يتبادرون السلام ويتسابقون إليه فكانت ألسنتهم تنطق بالسلام وحياتهم كلها سلام.
وتأمل معي -أخي الكريم- كيف أسس النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمع المسلم من أول يوم على خلق السلام والتسامح والصلة؛ فعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-، قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء تكلم به أن قال: "يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
فانظروا -يا عباد الله- كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصَّل وأسَّس وبنى ذلك المجتمع على التقوى والألفة والمحبّة؛ فوجّه -عليه الصلاة والسلام- نداء إلى جميع الناس، وخاطبهم بكلام جامع مفهوم، يفهمه الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والعالم والجاهل، وهكذا كان هديه يخاطب الناس بما يفقهونه كلامٌ قليل يحمل معاني كثيرة، وكذلك ينبغي للشيوخ المدرّسين والأئمة الخطباء أن يكونوا، فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رسول إلى جميع الناس، فكذلك يجب على الإمام أن يكون إمامًا لجميع الناس، في الخطاب العام والحرص على إيصال الخير في ود ورحمة.
عباد الله: إن أول ما بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قدومه المدينة أن حث الناس على إفشاء السلام، وعلى الإحسان إلى الأنام؛ ليدلّنا على أهمية ذلك في بناء المجتمع المسلم المتماسك الذي لا تخترقه العواصف ولا تزلزله الفتن، وقد حقق ذلك في الواقع، فأسس مجتمعًا فريدا كان غُرّة في التاريخ، ومضربًا للأمثال، فكان مجتمعًا تسوده الأخلاق الفاضلة والمحبة والألفة والإحسان والإيثار والبذل والعطاء؛ حتى قال أحد المستشرقين: "لقد كانت تلك المرحلة الزمنية مرحلةً لا نظير لها في التاريخ، بل لم يعرف التاريخ مرحلة مثلها". والحق ما شهدت به الأعداء.
فكم هو جميل -يا عباد الله- أن نقتدي بخير خلق الله، نبي الله وصحابته الكرام، فنكون على قلب رجل في الصدق والأخلاق الفاضلة النبيلة والخلال الحميدة.
هدانا الله وإياكم لما ينفعنا من البر وحسن الخلق، وجعلنا من خير الناس للناس، وجنبنا وإياكم مساوئ الأخلاق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أنّ التقوى سببٌ لتوفيق العبد، ونجاته وتبصيره، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال:29].
إن السلام -أيها المسلمون- حق من حقوق المسلم على أخيه؛ فإسلامنا لا يريد من أحدنا قسيسًا في صومعته، أو راهبًا في صلواته، أو معتكفًا لا يبرح مسجده، أو صامتًا قد أعلن لله صومه، أو منعزلاً عن الناس قد اختلى بنفسه؛ بل أراد مجتمعًا يسوده الإخاء، وكيانًا مترابطًا متسامحًا يتصف بالإخاء، له حقوق وعليه واجبات؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "حق المسلم على المسلم ست -وذكر منها- إذا لقيته فسلّم عليه" [مسلم:2162]، يصل بأجر هذه الحقوق إلى ما هو أعظم أجرًا ودرجة من الصائم والقائم.
واعلموا -عباد الله- أن إفشاء السلام ونشره بين المجتمع المسلم لا يقتصر نفعه على تآلف القلوب وتقارب الأبدان وإيجاد الابتسامة، أو بمعنى أشمل على منافع دنيوية حاصلة؛ بل يتعدى ذلك إلى مقام أرفع، وموعود أفضل، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الناس وأولاهم بالله هو من بدأ الناس بالسلام؛ فعن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ" [رواه أبو داود وصححه الألباني].
ويحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من التقاطع وطول الخصام وقطع السلام؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأ بِالسَّلامِ" [رواه البخاري، ومسلم].
عباد الله: البخل صفة ذميمة، وليس هناك داء أقبح وأبشع منه، والبخل أنواع، والبخلاء كثر، وكل أنواعه مذمومة، وكل أصنافه مكروهة، إلا البخل بالدين فإنه محمود، فلا يحل لأحد أن يتنازل عن دينه ولا يرضى بالدنية فيه.
ومن الناس من يبخل بماله، وهذا هو الغالب، ومنهم من يبخل بعلمه ولا يحب بذله للناس، سواء كان علمًا شرعيا، أو علمًا دنيويا كالصُّنّاع والحرفيين.
ومن أنواع البخل الذميمة والعادات الرذيلة عدم الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر، كما أخبر بذلك رسولنا: "البخيل من ذكرتُ عنده ولم يصلِّ علي" [رواه أحمد في مسنده].
وأبخل وأرذل الجميع -وهو شاهد حديثنا- الذي يبخل بالسلام، ويشح بالتحية على إخوانه المسلمين؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعجز الناس من عجز في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام" [رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني]، فالسلام لا يكلفه إلا أن يفتح شفتيه ويحرك لسانه.
ومن الناس من لا يسلِّم إلا على من يعرفهم، وهذه من علامات الساعة المؤذنة بقربها؛ فعن عبد الله بن مسعود قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ السَّلَامَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَأَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ بِالْمَسْجِدِ ثُمَّ لَا يُصَلِّي فِيهِ" [الطحاوي في مشكل الآثار]، ومنهم من لا يسلِّم على من يعرفهم، وإذا سُلم عليه لا يرد، والسلام سُنّة وردّه واجب. وهذا الصنف من البشر أبغض الخلق إلى الله وإلى عباده.
وقارن -أخي المسلم- بين حال البخيل بالسلام، وبين حال الصحابي الكبير والشيخ الجليل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، الذي كان يغدو إلى السوق فقط من أجل السلام، لتعرف الفرق بين الكرام واللئام، وبين المرحومين والمحرومين؛ فعن الطُّفيل بن أبيِّ بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على ساقط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه؛ قال الطُّفيل: فجئت عبد الله بن عمر يومًا فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ وأقول: اجلس بنا ههنا نتحدث؛ فقال: "يا أبا بطن -وكان الطفيل ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام، فنسلم على من لقيناه" [رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني].
فلتفخروا -أيها المسلمون- بهذه الشعيرة العظيمة، ولتعتزوا بها، فإن اليهود يحسدونكم عليها روت عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]. وهذا يعني أنها خاصة لهم عن غيرهم من الأمم، وكأن السلام هو البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب.
فاتقوا الله -عباد الله- وحسنوا أخلاقكم مع الخلق ما استطعتم، وأفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، واعلموا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام ذنبًا إلا غفرته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا ميتًا لنا إلا رحمته، ولا همًا إلا فرجته، ولا غمًا إلا أزلته، ولا عاصيًا إلا هديته، ولا طائعًا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضًا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين!
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ولا تجعل فينا شقيًا ولا محرومًا، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
التعليقات