عناصر الخطبة
1/ أطوار خلق الإنسان 2/ دلالتها على الخالق العظيم 3/ العناية الإلهية الدائمة بالإنسان 4/ وجوب شكر الله تعالى على إحسانه خَلقاً ورعاية.اهداف الخطبة
اقتباس
فيا أيها الإنسان! أعِدْ الآن النظر في نفسك مرة بعد مرة؛ مَن الذي دبَّرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أمك، في موضع لا يد تنالك فيه، ولا بصر يدركك، ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر؟ من الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات؟.
الحمد لله الذي تعرَّف إلى خلقه بأنواع التعرُّفات، ونصب لهم الدلالات، وأوضح لهم الآيات البينات، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:42].
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:12-14].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دعا عباده إلى التفكر في آياته ومخلوقاته؛ ليستدلوا بذلك على وحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتفكرين، وقدوة الذاكرين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله! ندب –سبحانه- ابن آدم في هذه الآيات إلى النظر والتفكر في نفسه في مبدأ خلقه، ووسطه، وآخره؛ إذ نفسه وخَلقه من أعظم الدلائل على فاطره، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه وهو غافل عنه، معرض عن التفكر فيه.
لينظر ابن آدم كيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى بأن قادهما بسلسلة المحبة والشهوة التي هي سبب تخليق الولد وتكوينه من نطفة، ولينظر بعين البصيرة إلى "النطفة" وهي قطرة (مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السجدة:8]، ضعيف مستقذَر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادةً لقدرته، مطيعة لمشيئته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مُسْتَقَرِّها ومجتمعها في مكان لا يناله هواء يفسده، ولا برد يُجمِّده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه؛ فأقامت النطفة هناك برهة من الدهر.
ثم قلَب –سبحانه- تلك النطفة البيضاء المشرقة "علَقة"، دمًا أحمرَ، قد تغير لونها وشكلها وصفاتها، فأقامت كذلك مدة؛ ثم جعلها "مضغة"، قطعة لحمٍ بقدْر ما يمضغها الماضغ، مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها؛ ثم قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى "العظام" و "العروق" و "الأعصاب"، ثم ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال؛ ثم كساها "لحمًا" ركَّبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظًا، وجعلها حاملة مقيمة له.
وانظر كيف صوَّرها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومدَّ اليدين والرجلين وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع؛ ثم قسم الأصابع بالأنامل، ثم ركَّب فيها الأظفار، وركب الأعضاء الباطنة من القلب، والمعدة، والأمعاء، والكبد، والمرارة، والطِّحال، والرئة، والمثانة، وغير ذلك، كل واحد منها له قدر يخصه، ومنفعة تخصه.
تأمل أعضاءك وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأة لها، "فاليدان" للعلاج والبطش، والأخذ والإعطاء، والحماية والدفع؛ و"الرجلان" لحمل البدن والسعي والركوب، وانتصاب القامة؛ و"العينان" للاهتداء، والجمال والزينة والملاحة، ورؤية ما في السموات والأرض وآياتهما وعجائبهما؛ و"الفم" للغذاء، والكلام، والجمال، وغير ذلك. و"الأنف" للتنفس وإخراج فضلات الدماغ، وزينةً للوجه؛ و"اللسان" للبيان والترجمة والتبليغ عنك؛ و"الأذنان" صاحبتا الأخبار تؤديانها إليك.
وتأمل "الجهاز الهضمي"، تأمل أعضاء هضم غذائك وما أودع الله فيها من القوى التي تحيل أنواع الأطعمة من حنطة ولحم وفاكهة وماء وغيرها إلى دم يغذي أجزاء جسمك بما يناسب كل عضو وحاسة، وإلا تحول إلى سم؛ "فالفم" -مع كونه يقطِّع الغذاء ويخلطه- يقوم بجزء من الهضم بما أودع فيه من اللعاب؛ و"المريء" -مع كونه منفذًا للمعدة- يقوم بجزء من الهضم بما فيه من حركات وإفرازات لزجة ينزلق بها الغذاء إلى المعدة؛ و"المعدة" -مع كونها خزانة حافظة للغذاء- تتم عملية طحن الأطعمة وتبدأ بهضمها واستحلابها، وتساعد بحموضتها القوية على تعقيم الأطعمة، وتنظم حركة عبورها إلى الأمعاء.
و"الأمعاء" تُتِم هضم الطعام وتحليله إلى عناصره الأولية، تُساعدها على ذلك عصارات الكبد والمعثكلة (البنكرياس). ومن خلال جدران الأمعاء يجري امتصاص خلاصة المواد المهضومة ودفعها إلى الكبد، ثم التخلص من الثفل (الفضلات). ثم "الكبد" يقوم بأكثر من خمسين وظيفة من التخزين، والتأليف، وتعديل السموم؛ ويساعد الكبدَ "الطحال" و"الكليتان".
فإذا تنقى الدم من تلك الفضلات، وعملت فيه هذه الخَدم بقواها التي أودعها الله هذا العمل، وأصلحته هذا الإصلاح، اندفع من الكبد إلى "القلب" بواسطة الوريد الأجوف السفلي، فيصب في الأذين الأيمن من القلب، ومنه إلى البطين الأيمن من القلب، وهذا غليظ أزرق غير مصفى، فيضخه البطين الأيمن إلى "الرئتين" فينبثُّ في جرمهما، ويخالط الهواء النقي ويتصفَّى، ثم يعود بواسطة الأوردة الرئوية إلى الأذين الأيسر من القلب، ومنه إلى البطين الأيسر منه، فيضخه بواسطة الشريان (الأبهر) إلى العروق الضوارب؛ فيوصل -سبحانه- الغذاء بواسطتها إلى كل جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وإلى كل حاسة بحسبها، فيحيله إلى العظم عظمًا، وإلى اللحم لحمًا، وإلى العصب عصبًا، وإلى الشعر شعرًا، وهكذا ...
إنه –سبحانه- هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله رزقًا ثانيًا، فالرزق الأول خَلق الغذاء، وهذا إيصاله إلى الأعضاء. أعوذ بالله من الشطيان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) [الحج:5].
الخطة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الإنسان! أعِدْ الآن النظر في نفسك مرة بعد مرة؛ مَن الذي دبرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك، ولا بصر يدركك، ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر؟ من الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات؟.
ثم إذا كمل خلقك واستحكم، وقوي أديمك على مباشرة الهواء، وبصرك على ملاقاة الضياء، وصلبَتْ عظامك على مباشرة الأيدي والتقلب على الغبراء، هاج الطلق بأمك فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط؟!.
ومَن الذي صرَّف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها؟ ومن الذي رققه لك، وصفَّاه، وأطاب طعمه، وحسَّن لونه، وأحكم طبخه؟! ومن عطَّف عليك قلب الأم، ووضع فيه الحنان العجيب، والرحمة الباهرة؟!.
حتى إذا قوي بدنك، واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك، وضع فيك آلة القطع والطحن؛ وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة، كلما زيد لك في تلك الآلات، فمَن الذي ساعدك بها، ومكَّنك من ضروب الغذاء، إلا أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين؟
فاشكره، واذكره، وأحسِن عبادته وحده، على خَلْقِك في أحسن تقويم، وتغذيتك بأصناف النعم، وأنت صغير وكبير، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34].
التعليقات