عناصر الخطبة
1/ دور القِصَّة في إيصالِ الفائدةِ بأسهلِ طَريق 2/ تأملات في قصة أصحاب الأخدود 3/ دروس في معاني التضحية والصمود 4/ الصبر والثبات على الدين فوز عظيم.اهداف الخطبة
اقتباس
سبحانَ اللهِ .. لقد اختلطَ الأمرُ مع وضوحِه على الغُلامِ .. وهذا يدلُّ على وجوبِ العِنايةِ بالأبناءِ والبناتِ وعدمِ تعريضِهم للشَّهواتِ والشُّبهاتِ بحُجَّةِ أن فطرَتَهم سليمةٌ .. لقد احتاجَ هذا الغُلامُ إلى آيةٍ من اللهِ تعالى لتُريَه الحقَّ من البَّاطلِ .. وهكذا عندما نُعرِّضُ أبناءَنا للقنواتِ الحاسدةِ .. والأفكارِ الفاسدةِ .. فنجعلُهم في اختلاطٍ للأمورِ .. وفي حَيرةٍ بينَ طريقِ الطُّهرِ والفُجورِ. وانظروا إلى رحمةِ اللهِ -تعالى- بمن لجأَ إليه باحثاً عن الحقِّ، وهو القائلُ: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ" .. فجعلَ كرامةً عظيمةً لهذا الغُلامِ .. فحجرٌ صغيرٌ بِيَدِ غلامٍ صغيرٍ يقتلُ دابَّةً عظيمةً؟، ولكنَّه البُرهانُ الذي (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العَظيمِ في قَدْرِه، العَزيزِ في قَهْرِه، العَليمِ بحالِ العبدِ في سِرِّهِ وجَهْرِه، يَسمعُ أنينَ المظلومِ عندَ ضَعْفِ صَبرِه، ويجودُ عَليه بإعانَتِه ونَصرِه، أحمدُه على القدَرِ خيرِه وشرِّه، وأشكرُه على القضاءِ حُلوِه ومرِّه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الآياتُ الباهرةُ، ومِن آياتِه أن تقومَ السَّماءُ والأرضُ بأمرِه.
وأشهَدُ أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، جاهَدَ في اللهِ حقَّ جهادِه طولَ عُمْرِه، وسائرَ دَهرِه، صلى اللهُ عليه وعلى سائرِ آلِه وأصحابِه، ما جادَ السَّحابُ بقطرِه، وطلَّ الرَّبيعُ بزهرِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا .. يا أهلَ الإيمانِ .. أطيعوا ربَّكم .. (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 2828].
أما بعد: فكما تعلمونَ ما لأثرِ القِصَّةِ في إيصالِ الفائدةِ بأسهلِ طَريقٍ .. والتَّربيةِ بأسلوبِ اللَّهفةِ والتَّشويقِ .. فكيفَ إذا كانتْ هذه القِصَّةُ من الوحي الذي أوحاهُ اللهُ تعالى لنبيِّه صلى اللهُ عليه وسلمَ .. حينَها سنعيشُ مع أحسنِ القَصصِ .. (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3].. فكلُّ جملةٍ .. وكلُّ كلمةٍ .. بل كلُّ حرفٍ .. فيه من المعاني العظيمةِ مما لا يخطرُ على بالٍ .. وليسَ له في كلامِ البَشرِ مثالٌ .. فلا حشوَ فيه .. ولا لغوَ .. ولا ما لا فائدةَ فيه .. بل (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) [النور: 53].. فتعالوا لنسمعَ شيئاً من هذا النُّورِ .. نزدادُ بهِ علماً وتنشرحُ به الصُّدورُ.
تبدأُ القِصَّة بمشهدِ النِّهايةِ في قولِه تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 3- 9].. فما هي بدايةُ الأحداثِ؟ .. ومن هم أصحابُ الأُخدودِ؟
عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ".
وهذا السَّاحرُ هو أولُ علاماتِ خُذلانِ الملكِ كما جاءَ في الحديثِ: "إذا أرادَ اللَّهُ بالأميرِ خيرًا، جَعلَ لَهُ وزيرَ صِدقٍ، إن نسيَ ذَكَّرَهُ وإن ذَكرَ أعانَهُ .. وإذا أرادَ بِهِ غيرَ ذلِكَ، جعلَ لَهُ وزيرَ سَوءٍ، إن نسيَ لم يذَكِّرْهُ، وإن ذَكرَ لم يُعنْهُ" .. ولذلك كانَ هذا الملكُ كافراً يستعبدُ النَّاسَ .. ويستعينُ بالسِّحرِ لثباتِ مُلْكِه .. ولدوامِ إفكِه.
ثُمَّ انظروا لوزيرِ السَّوءِ الذي لا ينصحُ بخيرٍ .. فها هو في آخرِ أيامِ عُمرِه يخشى انقطاعَ الكُفرِ .. فيسألُ عن خليفةٍ ليُعلِّمَه السِّحرَ .. ليبقى الشَّرُّ في البِلادِ وبينَ العبادِ .. وصدقَ اللهُ تعالى: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه: 69].
وأما اختيارُ الغُلامِ لتَعلُّمِ السِّحرِ .. فذلك لأن الغُلامَ أصفى ذِهناً .. وأطولَ في الغالبِ عُمراً .. وأضعفَ عن التَّمييزِ بين الحقِّ والبَّاطلِ .. وليَنشأَ على السِّحرِ ويتعلَّقُ به فلا يستطيعُ عندَ الكِبرِ تركَه.
"فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ"، يريدونَ للغُلامِ أن يكونَ ساحراً كاهناً، ويريدُ له ربُّه أن يكونَ داعيةً مؤمناً، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق: 15- 17]، يبذلونَ في المكرِ أشدَّ التَّعبِ، ولكن مَنْ يُغَالِبِ اللَّهَ يُغْلَبْ.
"فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ" .. فهل يكذبُ ويحافظُ على مجالسِ الأولياءِ .. لمصلحةِ التَّعرفِ على دينِ الأنبياءِ .. أم يتعرَّضُ لمفسدةِ شرِّ الأعداءِ .. والتَّعذيبِ والسِّجنِ والابتلاءِ .. فيمنعونَه من لذَّةِ سماعِ وحي السَّماءِ.
"فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ، فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ" ..
سبحانَ اللهِ .. لقد اختلطَ الأمرُ مع وضوحِه على الغُلامِ .. وهذا يدلُّ على وجوبِ العِنايةِ بالأبناءِ والبناتِ وعدمِ تعريضِهم للشَّهواتِ والشُّبهاتِ بحُجَّةِ أن فطرَتَهم سليمةٌ .. لقد احتاجَ هذا الغُلامُ إلى آيةٍ من اللهِ تعالى لتُريَه الحقَّ من البَّاطلِ .. وهكذا عندما نُعرِّضُ أبناءَنا للقنواتِ الحاسدةِ .. والأفكارِ الفاسدةِ .. فنجعلُهم في اختلاطٍ للأمورِ .. وفي حَيرةٍ بينَ طريقِ الطُّهرِ والفُجورِ.
وانظروا إلى رحمةِ اللهِ -تعالى- بمن لجأَ إليه باحثاً عن الحقِّ، وهو القائلُ: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ" .. فجعلَ كرامةً عظيمةً لهذا الغُلامِ .. فحجرٌ صغيرٌ بِيَدِ غلامٍ صغيرٍ يقتلُ دابَّةً عظيمةً؟، ولكنَّه البُرهانُ الذي (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 16].
"فَأَتَى الرَّاهِبَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ، فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ" .. كم نحتاجُ أيُّها الأحبَّةُ إلى مثلِ هذا التَّواضعِ والتَّشحيعِ للأجيالِ والمُتعلمينَ .. "أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى" .. فكم لهذه الكلماتِ من الأثرِ البالغِ في نفسِ هذا الفتى النَّجيبِ.
وأما علمُه بالابتلاءِ فليسَ من علمِ الغيبِ .. بل هي سنَّةُ اللهِ تعالى التي لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ في كلِّ من آمنَ به .. (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1- 3] .. فهناكَ اختبارٌ ينتظرُك أيها المُهتدي .. ليتبيَنَ صِدقُ الصَّادقِ وكَذبُ المُدَّعي.
"وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ" .. إنه يا عبادَ اللهِ الإيمانُ البريءُ .. من هذا الغُلامِ الجريءِ .. فأصبحَ مُباركاً مُستجابَ الدُّعاءِ .. يدعو للمريضِ فيُشفى بإذن اللهِ تعالى من سائرِ الأدواءِ.
فجاءَه جليسُ المَلكِ وكانَ قد أصابَه العَمى .. وقالَ له: إن أنت شفيتني أعطيتُك المالَ الكَثيرَ .. ولا تلومونَه فقد تعلَّمَ في مجالسِ الملكِ الظَّالمِ التَّعلَّقَ بالأشخاصِ والأسبابِ .. ونسيَ الشَّافيَ الواحدَ الأحدَ ربَّ الأربابِ.
فلذلك كانَ لا بُّدَ من الغلامِ أن يُعلمَه التَّوحيدَ .. والتَّعلَّقَ بربِّ العبيدِ .. "فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ"، فكانتْ النَّتيجةُ "فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ" .. وأما أنتَ أيُّها المؤمنُ فلا تحتاجُ إلى من يدعو لك .. لأن اللهَ تعالى قالَ لنبيِّه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186].
في اليومِ التَّالي ذهبَ جليسُ المَلكِ يمشي بصيراً إلى القَصرِ .. "فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟، قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟، قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ".. ولا ندري أنضحكُ من هذا المَلكِ أم نبكي؟ .. سنينَ مضتْ وهذا الرَّجلُ جليسُه فلم يستطعْ له نفعاً .. ثُمَّ لمَّا رآه بصيراً يقولُ له: "وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟" .. ولكنَّه الاستِخفافُ بعقولِ الأتباعِ .. من أهلِ الاستبدادِ والظُّلمِ والخِداعِ.
"فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ، حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلامِ، فَجِيءَ بِالْغُلامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ" .. محاولةُ فاشلةٌ من الملكِ المِسكينِ .. ليكونَ الغُلامُ من حزبِه الخاسرينَ .. "فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ، حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ –وَهو المِنْشارُ- فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ" (وهذا لفظ صحيح مسلم 3005)..
أما ضعفُ الغُلامِ وعدمُ تحمُّلِه للتَّعذيبِ الكبيرِ .. فشيءٌ متوقَّعٌ مَقبولٌ .. وأما صبرُ الرَّاهبِ والجَليسِ على قطعِ المناشيرِ .. فشيءٌ تَحارُ فيه العُقولُ .. وهذا مِصداقُ حديثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا، قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
فكم قُتلَ في سبيلِ هذا الدِّينِ أنبياءُ .. وكم أُوذيَ في الثَّباتِ عليه أولياءُ .. وكم أُريقتْ في طريقِه الدِّماءُ .. فهنيئاً لقومٍ يُنادوَنَ يومَ القيامةِ باسم (الشُّهداءِ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسُّنَّةِ، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيِّناتِ والعِظاتِ والحكمةِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ مُعِزِّ التَّوحيدِ وأهلِه، ومُذِلِّ الشَّركِ وحِزبِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في رُبوبيَّتِه وأُلوهيَّتِه وأسمائِه وصفاتِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفوتُه من خلقِه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آلِه وأصحابِهِ.
"ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلامِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟، قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ –وهو السَّفِينَةُ الصَّغِيرَةُ- فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟، قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ" ..
كأنَ هذا الغُلامُ قد سمعَ تلكَ الكلماتِ المُبارَكاتِ من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"، ومَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ فَمَعَهُ الْفِئَةُ الَّتِي لا تُغْلَبُ، وَالْحَارِسُ الَّذِي لا يَنَامُ، وَالْهَادِي الَّذِي لا يَضِلُّ.
"فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟، قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ" ..
لقد ضحَّى هذا الغُلامُ بنفسِه في سبيلِ إنقاذِ أمَّةٍ من الأممِ .. نعم قد ماتَ ولكنَّه أحيا الكثيرَ من النَّاسِ .. وقد رأوا من يدَّعي الألوهيَّةِ وهو لا يستطيعُ قتلَ غُلامٍ صغيرٍ إلا بالاستعانةِ بربِّه القديرِ.
"فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَق" .. فعجباً لهؤلاءِ .. كيفَ بهذه السُّرعةِ وقرَ في قلوبِهم الإيمانُ .. حتى يصبروا على الموتِ تحتَ لهيبِ النِّيرانِ.
وأنا الآن أعتذرُ إليكم عندما قلتُ لكم في بِدايةِ الخُطبةِ .. أن القِصَّةَ بدأتْ بمشهدِ النِّهايةِ في قولِه تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) [البروج: 3].. بل القِصَّةُ لم تنتهِ بعدُ .. وبقيَ منها الفصلُ الأخيرُ.. وهو عندما يجمعُ اللهُ تعالى الأولينِ والآخرينِ ثُمَّ يفصلُ بينهم بالحقِّ .. بحكمٍ فصلٍ عدلٍ .. حينها يأتي الحُكمُ النِّهائي (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [البروج: 10- 11] ..
عندها سيعلمُ الأشهادُ ما هي حقيقةُ الانتصارِ .. ومن هو الفائزُ الحقيقيُّ .. وسيظهرُ للجميعِ معنى قولِه تعالى: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ).
اللهم إنا نسألُكَ إيمانًا لا يرتدُّ، ونعيمًا لا يَنفدْ، ومرافقةَ نبيِّكَ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ في أعلى جنَّاتِ الخُلدِ .. اللهمَّ اجعلنا من أوليائِك المتقينَ، وحِزبِكَ المفلحينَ، وعبادِك الصَّالحينَ، واستعملْنا في مرضاتِك، ووفقنا لمحابِك، وصرِّفنا بحسنِ اختيارِك ..
اللَّهُمَّ كُنْ لِلْمُسْلِمينَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلَّ مَكَانٍ، فَرِّجْ هَمَّهُم، وَنَفِّسْ كَرْبَهُم، وَأَقِلْ عَثْرَتَهُم وَتَوَلَّ بِنَفْسِكَ أَمْرَهُم، اللَّهُمَّ ارْفَعْ رَايَتَهُم، وَاكْبِتْ عَدُوَّهُمْ، اللَّهُمَّ وَحِّدْ صَفَّهُم، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُم، وَرُدَّهُم إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً ..
اللهمَّ أصلحْ ولاةَ أمورِ المسلمينَ، اللهمَّ هيئ للمسلمينَ ولاةً صالحينَ يقودونَهم بكتابِك وسُنَّةِ نبيِّك، اللهمَّ من كانَ من ولاةِ أمورِ المسلمينَ غيرَ مستقيمٍ على شَرعِك ولا ناصحاً لعبادِك فاهدِه إلى الحقِّ أو أبدلُه بخيرٍ منه يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أصلحْ بطانةَ ولاةِ أمورِ المسلمينَ، اللهمَّ هيئْ لهم بِطانةً صالحةً تدلُهم على الخيرِ وترغبُهم فيه وتُبينُ لهم الشَّرَ وتزجرُهم عنه يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ من كانَ من بطانةِ ولاةِ أمورِ المسلمينَ غيرَ ناصحٍ لهم ولا لرعيتِهم فارزقْهم بُغضَه وأبعدْه عنهم يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وهيئ لهم بدلَه بطانةً صالحةً إنك على كلِّ شيءٍ قديرٍ، (ربنا اغفر لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلَّاً للذينَ آمنوا ربَّنا إنك رءوفٌ رحيمٌ).
التعليقات