أشرف مخلوق

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2023-09-25 - 1445/03/10
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/مكانة الإنسان 2/تكريم الله للإنسان 3/شكر نعمة التكريم 4/وقفات مع النفس ودعوة للمراجعة 5/توازن النفوس بين المباحات والطاعات 6/صيانة النفس عن أسباب الهلاك والخسران.

اقتباس

نفسك أمانة عندك، وأعظم ما يجب عليك نحو هذه الأمانة أن تسعى في نجاتها من الخسران، وإنما تُنجّي نفسك من الخسران إذا صُنتها عما حرم الله؛ فالسمع والبصر والجوارح نِعَم من الله عليك؛ فلا توظفها في معصية الله؛ فتوقع نفسك في الخسران...

 الخُطْبَة الأُولَى:

 

إنّ الحمدَ لله؛ نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

عبد الله: أنت أشرف مخلوق تولَّى الله خلقه بيده؛ (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ)[ص: 75]،  فعن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قالُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قبضةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَصْفَرُ وَبَيْنَ ذلك والسّهْل والحَزْنُ والخبيث والطيب"(رواه أبو دواد وصححه الألباني).

 

ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وكرّمه على سائر المخلوقات (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70].

 

وسخر الكون كله له (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الجاثية: 13]، إنه أنت يا عبد الله؛ فهل تدرك مكانتك في هذا الكون؟

 

وتزعم أنك جرم صغير   ***   وفيك انطوى العالم الأكبر

 

أنت العبد الذي كرَّمه ربه، وإنما تنال هذا التكريم إذا استشعرتَ أنك مخلوق عظيم؟ وإنما اكتسبت نفسك هذه العظمة عندما علمْت الغاية التي من أجلها خُلقت؟ فلماذا خُلقت يا عبد الله؟ للعب، للهو، للغفلة، للاستمتاع بالمأكل والمشرب فحسب، ستقول لي: كلا كلا، بل ستتلو عليّ هذه الآية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].

 

ما أجمل أن نكون عباداً لله لننال هذا التكريم والتشريف: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70].

 

يا أيها العبد المكرم: كيف أنت مع توحيد الله ومحبته والإخلاص له -سبحانه-؟ قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الأعراف: 179].

 

عبد الله كيف أنت مع القرآن وذكر الله؟  كيف أنت مع الصلاة والمحافظة عليها في بيوت الله؟ كيف أنت مع برك بوالديك؟ كيف أنت مع أرحامك وجيرانك وأهلك؟ إجابتك تحدد مدى كرامتك على الله وكم من أناسٍ حرموا هذا التكريم حتى أصبحت الدواب خير منهم: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزمر: 15].

 

عبد الله: نفسك أمانة عندك، وأعظم ما يجب عليك نحو هذه الأمانة أن تسعى في نجاتها من الخسران، وإنما تُنجّي نفسك من الخسران إذا صُنتها عما حرم الله -عز وجل-؛ فالسمع والبصر والجوارح نِعَم من الله عليك؛ فلا توظفها في معصية الله؛ فتوقع نفسك في الخسران المبين (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء: 36].

 

عبد الله: نفسك أمانة عندك، ومن حق هذه النفس أن تقوم بحقوقها وتتوازن معها؛ فعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: آخَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينَ سَلْمانَ وبينَ أبي الدَّرْداءِ، فزار سَلْمانُ أبا الدَّرْداءِ، فرأى أمَّ الدَّرْداءِ متبذِّلةً، فقال: ما شأنُكِ متبذِّلةً؟! قالتْ: إنّ أخاكَ أبا الدَّرْداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنْيا. قال: فلمّا جاء أبو الدَّرْداءِ، قرَّبَ إليه طعامًا، فقال: كُلْ، فإنِّي صائمٌ. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكُلَ. قال: فأكَلَ، فلمّا كان الليلُ ذهَبَ أبو الدَّرْداءِ ليقومَ، فقال له سَلْمانُ: نَمْ، فنام، ثمَّ ذهَبَ يقومُ، فقال له: نَمْ، فنام، فلمّا كان عندُ الصُّبْحِ، قال له سَلْمانُ: قُمِ الآنَ، فقاما فصلَّيا. فقال: إنّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولربِّكَ عليكَ حقًّا، ولضَيفِكَ عليك حقًّا، وإنّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأَتَيا النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فذَكَرا ذلكَ؟ فقال له: "صدَقَ سَلْمانُ"(رواه البخاري).

 

وقد كرر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الوصية لعثمان بن مظعون -رضي الله عنه- ولعبد الله بن عمرو، فما أجمل أن نتوازن مع أنفسنا في علاقتها بربها في استمتاعها بالحال المباح، في أداء حق الأهل والزوج والأرحام والجيران لنعيش سعداء، ونؤدي أمانة النفس كما أراد الله.

 

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أما بعد: عبد الله، أيها العبد المكرم: نفسك أمانة، ومن حق هذه النفس أن تصونها عن أسباب الهلاك؛ قال -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة: 195].

 

فالعناية بالصحة والمحافظة على البدن صحيحاً معافًى واختيار أطايب الأطعمة مطلب شرعيّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة: 172].

 

والعناية بالنظافة والملبس والمظهر الطيب من حقوق نفسك عليك ومما يحبه الله -جل وعلا-، قال رجل: يا رسول الله، إني لُيعْجبني أن يكون ثوبي غَسيلاً، ورأسي دَهيناً، وشِرَاك نعلي جديداً، وذكر أشياء، حتى ذكر علاَقة سوطَه، أفمن الكبر ذَاكَ يا رسولِ الله؟، قال: "لا، ذاك الجَمال، إن الله جميل يحبّ الجَمال"(رواه أحمد بسند صحيح).

 

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"(رواه مسلم).

 

يا أيها المكرم! هذا هو دينك وإسلامك! فما أعظمه من دين! وهذا هو ربك يحب الجمال، فتَجَمُّلك في ثوبك وحذائك، وعنايتك بشعرك مظهرٌ من مظاهر الجمال الذي يحبه الله -عز وجل-.

 

عبد الله: اعتز بديننا وافتخر به إنه دين الجمال، دين الحضارة والرقي، دين الحقوق والمثل والقيم والأخلاق، دين التكريم والتشريف، دين اختاره الله ورضيه لك (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]. 

 

دين يصل الدنيا بالآخرة ليس فيه رهبانية فيه السعادة والهناء والاستقرار: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].

 

عبد الله: أنت أشرف مخلوق، والكون كل مخلوق من أجلك ومسخَّر لك (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)[البقرة: 29]، (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الجاثية: 13].

 

فما أحوجك يا عبد الله أن تحب ربك، وتلهج بذِكْره وتديم العبودية له، وتكون شاكراً لنعمه.

 

اللَّهُمَّ أَلَّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا...

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life