عناصر الخطبة
1/أرقام الهدر الغذائي سنوياً في المملكة 2/مظاهر من شكر نعمة الطعام 3/الهدي النبوي في التعامل مع الطعام 4/التحذير من الإسراف وصور منه 5/من قصص جوع النبي وأصحابه 6/وصايا في حفظ نعمة الطعاماقتباس
قالت وزارة البيئة عبر موقعها الرسمي: "إن كمية الهدر الغذائي سنويا في السعودية بلغت حوالي أربعة ملايين و66 ألف طن، وأوضحت الوزارة أن القيمة الإجمالية للهدر في بند الاستهلاك الإنفاقي في المملكة تقارب الـ٤٠ مليار و480 مليون ريال سنوياً"....
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].
عباد الله: أرقامٌ مفزعة مخيفة يقول الدكتور فهد الخضيري: "إن السعوديين هم الأكثر هدراً للطعام على مستوى العالم، بمعدل 427 كيلوغراما للفرد الواحد في العام"، قالت وزارة البيئة عبر موقعها الرسمي: "إن كمية الهدر الغذائي سنويا في السعودية بلغت حوالي أربعة ملايين و66 ألف طن، وأوضحت الوزارة أن القيمة الإجمالية للهدر في بند الاستهلاك الإنفاقي في المملكة تقارب الـ٤٠ مليار و480 مليون ريال سنوياً".
حقاً -عباد الله- أرقامٌ مخيفةٌ ومفزعةٌ! إننا نخاف أن نُسْتلب هذه النعم قال -تعالى-: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)[القصص: 58]، وقال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
عباد الله: لقد أسبغ الله علينا نعمه ظاهرة وباطنه؛ آمننا من خوف، ورزقنا من الطيبات، فساق إلينا -سبحانه- الثمرات من كل مكان؛ (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57]، وأمرنا أن نأكل من الطيبات، وأن شكر تلك النعم ولا نكفرها، قال الله- عز وجل-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة: 172].
ولا شك أن من شكر نعمة الطعام احترامها، وعدم التبذير فيها، وعدم إلقائها، ورفعها عن مواضع الإهانة والقذارة، وحفظها عما يفسدها، قال المناوي:" حسن الجوار لنعم الله من تعظيمها، وتعظيمها من شكرها، والرمي بها من الاستخفاف بها، وذلك من الكفران، والكَفور ممقوت مسلوب؛ ولهذا قالوا: الشكر قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة، وقالوا: كفران النعم بوار، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم هاربها بكرم الجوار".
عباد الله: هدر النعمة والتبذير منبوذ في الشرع والعقل، ويكفي أن الله سمى المبذرين إخوان الشياطين، قال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26، 27]، ورَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوصينا فيقول: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا، مَا لم يُخالطْ إِسْرَافٌ وَلَا مَخِيلَةٌ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وحسنه الألباني)، وحثنا -صلى الله عليه وسلم- على إكرام النعمة فقال: "أكرموا الخبز"(رواه الحاكم وحسنه الألباني)، وإكرامُهُ أن لا يُوطأ، ولا يُمتهن، أو يُوضَع قرب المَزابل، أو يُنظر إليه بعينِ الاحتقار.
عباد الله: لقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً فريداً في حفظ النعمة، قال أنس -رضي الله عنه-: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان"، وأمرنا أن نسلت القصعة، قال: "فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"(رواه مسلم).
فما أحوجنا -عباد الله- أن نعتني بالنعمة، ونحذر من هدرها والتبذير بها في مناسبات وأفراحنا، في بيوتنا ومطاعمنا، محزنٌ جداً أن ترى كميات كبيرة من الأطعمة تهدر في الأعراس والأفراح، محزن جداً أن ترى كميات من الطعام نتركها في المطاعم قد تكفي العشرات، محزنٌ جداً أن ترى كميات من الطعام قرب حاوية النفيات!.
فلنتق الله -عباد الله- ولنحرص على حفظ النعمة وصيانتها، ونشكر الله على نعمه، ونحذر من كفرانها، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
اللهم أوزعنا شكر نعمتك يا حي يا قيوم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله مِلْءَ السَّمواتِ ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما شِئتَ مِن شيءٍ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لِما أعطَيتَ، ولا مُعطيَ لِما منَعتَ، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد:
عباد الله: تأملوا هذه القصة التي يرويها أبو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيقول: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟!"، قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا"، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيْنَ فُلَانٌ؟"، قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ"، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ"(رواه مسلم).
هذا رسول -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق على الله وخير البشر بعد الأنبياء والصديق والفاروق، لا يستطيعون النوم من الجوع، فيخرجون يطوفون في طرقات المدينة، فيسألهم رسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟"، قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا"، قارن ذلك بما نحن فيه من النعم، يحتار أحدنا بأي طعام يتغدى؟ وبأيه يتعشى؟.
وتأمل خاتمة القصة حينما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ".
فلنتق الله -عباد الله-، ولنحرص على حفظ النعم، ونحذر من هدرها، ومقصور ذلك:
أولاً: أن نقتصد في طعامنا في بيوتنا، ولنربي أسرنا أن نأخذ من الطعام حاجتنا، ونحذر من التبذير، ونقتصد في مشترياتنا فلا نشترى إلا قدر حاجاتنا.
ثانياً: أن نوزع ما زاد من الطعام في بيوتنا أو المطاعم على الفقراء والمحتاجين من العمال وغيرهم، ونحرص ألا نقدم إليهم إلا الطيب من الطعام.
ثالثاً: أن نتواصل مع جمعيات حفظ النعمة وخاصة في مناسبات الأفراح، فقد تمكنت الجمعية الخيرية للطعام (إطعام) عبر فرقها الميدانية من حفظ 2.4 مليون وجبة من الهدر، جمعتها من المطاعم والفنادق، وأسهمت بها في إطعام كثير من الأسر الفقيرة والعمال.
اللهم أسبغ علينا نعمك ظاهرة وباطنة، اللهمَّ إنا أنعوذ بكَ من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجأة نقمتك وجميع سخطك، اللهمَّ إنا نسألكَ النعيم المُقيم الذي لا يحولُ ولا يزول، اللهمَّ إنا نسألكَ عيشاً قاراً، ورزقاً داراً، وابناً باراً، وعملاً صالحاً متقبلاً.
التعليقات