عناصر الخطبة
1/ عرضٌ وتلخيصٌ لما جاء في الخطبة السابقة 2/ مجاهدة النفس لاستشعار مكانة الصلاة في حياتنا 3/ بعض الأخطاء الشائعة للمصلين قبل إقامة الصلاةاهداف الخطبة
اقتباس
وهنا ينبغي مجاهدة النفس على استشعار مكانة الصلاة في حياة كل واحد منا، أين هي الصلاة من حياتك؟! كيف هو اهتمامك بها؟! ما قدر إتقانك لها؟! ما مدى رجائك قبلها وأثناءها وبعدها في أن ترفع درجاتك عند ربك؟!
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تحدثنا -أيها الإخوة- فيما مضى عن بعض الأخطاء والملاحظات التي يقع فيها المصلون من خروجهم من بيوتهم إلى المسجد وحتى إقامة الصلاة، تحدَّثنا عن التأخر وما يفوت المصلي من الأجر العظيم إذا أدمن التأخر عن الجماعة، وتطرقنا للنية وسهولتها والحذر من الوسواس الذي يعقد حياة الإنسان ويبطل عليه العبادة.
وتحدثنا عن أهمية التزين للمسجد من حيث الهيئة والرائحة، ثم تكلمنا عن الأذكار والسنن التي يهملها الكثيرون، دعاء المشي إلى المسجد، وآداب الدخول والخروج، وأخيرًا كان الحديث عن وجوب متابعة الإمام بالداخل في المسجد، ومسألة ترك الالتحاق بالجماعة عند التشهد واستحداث جماعة ثانية، واستعرضنا الأدلة حينها، ونكمل اليوم -إن شاء الله تعالى-.
معاشر المصلين: من الأخطاء أن يتوجه المسلم إلى المسجد بجسده دون قلبه، أي إن الصلاة في نظره مجرد فريضة تؤدَّى، فكأنما هي عقبة في طريقه ولا بد أن يؤديها وينتهي منها حتى يتفرغ لأموره المهمة.
ومن الأخطاء لمن جاء مبكرًا التململ الشديد قبل الإقامة، والاشتغال بالجوال، وكثرة الالتفات يمينًا وشمالاً قبل الصلاة وبعد انتهائها، وكثرة الحركة أثناء الصلاة، وترك التسبيح مطلقًا بعد سلام الإمام والقفز المباشر للخروج من المسجد بسرعة بلا ضرورة.
وهنا ينبغي مجاهدة النفس على استشعار مكانة الصلاة في حياة كل واحد منا، أين هي الصلاة من حياتك؟! كيف هو اهتمامك بها؟! ما قدر إتقانك لها؟! ما مدى رجائك قبلها وأثناءها وبعدها في أن ترفع درجاتك عند ربك؟!
إن الصلاة -ما لم يكن في قلبك شوق لها وليس هم وثقل، ما لم تكن الصلاة في حياتك راحة للبال، وتنفيسًا لهموم القلب، وطمأنينة وسعادة- فلن تُقبِل عليها بجميع قلبك، ستُقبِل بجسدك، نعم! لكنّ قلبك أو جزءًا منه سيبقى خارج المسجد.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما يروّح قلبه من تعب الدنيا ومن إدارة الدولة لا يجد أحسن ترويحًا ولا متنفسًا ولا طمأنينة ولا سعادة من الدخول في الصلاة: "يا بلال: أرِحنا بها"، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "حُبب إليَّ مِن دنياكم النساء والطيب، وجُعِلَتْ قُرة عيني في الصلاة"، حيث تستقر النفس وتهدأ في الصلاة، وتطمئن وتسعد في الصلاة، اللهم ربنا اجعل الصلاة قرّة لعيوننا.
ومن الأخطاء التي تتكرر من المتأخرين السعي الشديد -بل الركض أحيانًا- كي يدرك الركعة، وأصبح الصغار يفعلون ذلك تأسيًا بالكبار، فحوَّلوها إلى مسابقة ولعب، وتسمع وقع الأقدام المزعج الذي يفسد وقار الصلاة وسكينتها.
صحّ في مسلم وفي سنن الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فلا تأتوها وأنتم تسعون" بيان صريح يجب على المسلم الالتزام به، وإذا كان يجري إلى الصلاة من أجل الأجر فليعلم أن الأجر الأعظم في عدم الإسراع ولو فاتته الركعة، فعدم الإسراع هو السنة، ولو أنه احتسب عند الله -تعالى- التزامه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: "لا تأتوها وأنتم تسعون"، "وعليكم السكينة" لكان خيرًا وأقوم.
وهذا يوصلنا إلى مسألة لها علاقة، وهي أن بعض المتأخرين إذا دخلوا المسجد بسرعة ورأوا الإمام راكعًا فإنهم من شدة حرصهم على الركعة لا ينظرون إلى أطراف الصف الأخير يمينًا وشمالاً هل هو مكتمل أم ناقص، وإنما مباشرة ينشئون صفًّا جديدًا حتى يلحقوا بالركعة، وحتى لو نظروا أحيانًا ورأوه ناقصًا أنشؤوا صفًّا جديدًا قبل أن يكتمل الصف الذي أمامهم خوفًا من أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، وهذا خطأ.
فمع أن صلاتهم صحيحة حتى ولو صلوا وفي الصف فرجة، إلا أنهم أساؤوا وخالفوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن إكمال الصف واجب، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر قائلاً: "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-". أخرجه أبو داود، وهو صحيح.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟!"، فقلنا: يا رسول الله: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! قال: "يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف"، يتمون الصفوف الأول، هكذا هو هدي الملائكة.
فالراجح من أقوال أهل العلم وجوب تسوية ورص الصفوف وسد الفرج، أما المنفرد فلا صلاة له خلف الصف، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي بن شيبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يصلي خلف الصف... فلما انصرف قال له النبي: "استقبل صلاتك -يعني: أعد صلاتك-؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف".
ولو علم هؤلاء المستعجلون كم يفوتهم من الفضل لما تركوا إكمال الصف، في صحيح الجامع من حديث عائشة -رضي الله عنها-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ"، "ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة"، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الترغيب: "مَن سد فرجة رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتًا في الجنة".
معاشر الإخوة: من الأخطاء الشائعة إصرار بعض المصلين على عدم "إقفال" الجوال، أو على الأقل عدم جعله على الصامت، أما إن كان ناسيًا فلا حرج أن يتحرك أثناء الصلاة في حدود ما يمكنه من وضع جواله على الصامت، لا حرج، ولا يقول: لا تجوز الحركة في الصلاة، لا، فيتركه يصيح بأصوات وأجراس تزعج الإمام والمصلين وتقطع هدوء الصلاة، لا، بل يتحرك ويدخل يده في جيبه ويجعله على الصامت.
وأما إن كان معاندًا وأصرّ على عدم إقفال الجوال فتركه فله أن يتحمل وزر تشويشه على الإمام والمصلين، فضلاً عن قلة الذوق واللامبالاة بمشاعر المصلين. أسأل الله -تعالى- أن يهدي الجميع.
ومن الأخطاءِ: الصلاةُ في ثياب رقيقة شفافة تصف لون البشرة، فيما يجب ستره من أعضاء الجسد؛ يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "حكم من صلى في ثياب رقيقة تصف لون الجسم تحت السراويل القصيرة التي لا تتجاوز منتصف الفخذ، حكمه حكم من صلّى من غير ثوب سوى السراويل القصيرة؛ لأن الثياب الشفافة التي تصف البشرة غير ساترة ووجودها كعدمها، وبناءً على ذلك فإن صلاته غير صحيحة على أصح قولي العلماء". قال: "وذلك لأنه يجب على المصلي من الرجال أن يستر ما بين السرة والركبة".
ومن الأخطاء -كذلك- الصلاة في ثوب أو قميص لذي روح حتى لو كان صغيرًا في السن، في صحيح مسلم، عن أبي الهياج الأسدي، قال لي علي بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سوَّيْته، ولا صورة إلا طمستها".
بل صحّ في البخاري ومسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة"، أما استثناؤه -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إلا رقمًا في ثوب"، فالمقصود الصورة المهينة التي تكون في البُسُط ونحوها، فيداس البساط ويمتهن كالوسائد وما يُتكأ عليه، أما القميص فالصورة تكون في أعلى الصدر، وفي ذلك نوع تقدير وإبراز وإظهار لا امتهان.
وفي سؤال عن الصلاة في ذلك قالت اللجنة الدائمة: "لا يجوز له أن يصلي في ملابس فيها صور ذات أرواح، من إنسان أو طيور أو أنعام أو غيرها من ذوات الأرواح، ولا يجوز للمسلم لبسها حتى في غير الصلاة، وتصح صلاة من صلّى في ثوب فيه صور مع الإثم في حق من علم الحكم الشرعي".
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "إذا كان جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فإن صلاته صحيحة مع الإثم على أصح قولي العلماء -رحمهم الله-"، ومن العلماء من يقول: "صلاته تبطل لأنه صلى في ثوب محرم عليه".
ومن الأخطاء الشائعة للمتأخرين: ترك السجود وانتظار الإمام حتى يقوم فيدخل معه، يأتي ويدخل فيرى المصلين ساجدين فينتظر واقفًا حتى يقوموا فيلتحق بهم! وهذا فيه خللان: كسل واستهانة، ففي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة"؛ فالحديث فيه أمر صريح بالسجود لا الانتظار حتى يقوم الإمام، ومن يدري؛ لعله أن يكتب له بتلك السجدة بالذات خالص المغفرة من الله -عز وجل-!
فأسأل الله -تعالى- أن يفقهنا في ديننا، وأن يقبل منا صالح الأعمال، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن الأخطاء رفع الصوت بقراءة القرآن أثناء انتظار الإقامة في المسجد بحيث يشوِّش على المصلين والذاكرين وهو من الجهل، عن فروة بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بمَ يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن".
ومن أخطاء الملتحق بالجماعة حين الركوع: التكبير بنية تكبيرة الانتقال لا تكبيرة الإحرام، والذي يفعل ذلك لا يكون داخلاً في الصلاة أصلاً؛ ولذلك ينبغي تصحيح النية بحيث يكون التكبير بنية تكبيرة الإحرام.
ومن الأخطاء: ترك صلاة ركعتين قبل القعود في المسجد، سواء في يوم الجمعة أو أي يوم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة قال: "دخلت المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس بين ظهراني الناس فجلست، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟!"، قال: فقلت: يا رسول الله: رأيتك جالسًا والناس جلوس، فقال: "فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين".
ومن الأخطاء: التعامل مع المصلين بخشونة وممانعة، في صحيح الترغيب من حديث ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول وهو يسوي الصفوف: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم"، ومعنى: "لينوا بأيدي إخوانكم"، يعني: إذا كان الصف غير مرصوص وأراد الإنسان أن يسد الخلل فعلى المصلي أن يلين بيدي أخيه ولا يعاند.
ومن الأخطاء حين الوقوف استعدادًا لتكبيرة الإحرام: تكرار دعاء ليس له أصل سوى التقليد، وهو دعاء: "اللهم أحسن وقوفنا بين يديك"، قال أهل العلم: "دعاء العبد بنحو: اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، جائز من حيث كونه دعاءً لا يخالف الشرع، لكن تخصيص الدعاء به وقت إقامة الصلاة لا دليل عليه، وعلى هذا فإن كان يدعو بهذا الدعاء على نية التعبد في الوقت المذكور فيخشى على من فعل ذلك الوقوع في البدعة". وليس هناك دعاء مأثور في ذلك الموقف. أسأل الله -تعالى- أن يفقهنا في ديننا.
معاشر الإخوة: كانت هذه بعض التوجيهات التي أردت أن نتواصى بها جميعًا قبل أن ندخل في الصلاة، نفعني الله وإياكم بها، وزادني وإياكم فقهًا ودراية بالسنة؛ إنه سميع قريب مجيب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
التعليقات