عناصر الخطبة
1/ المزح سنة 2/ فوائد المزح ومخاطره 3/ انقسام المزح لمحمود ومذموم 4/ ضوابط وآداب المزح 5/ نماذج من مزح السلفاهداف الخطبة
اقتباس
لما كان المزاح سُنَّة مشروعة، وخُلُقاً يحبه كثيرٌ من الناس، وأداةً يستميل بها الداعية قلوب المدعوين، ومتنفساً ينفس الشخص به عن نفسه؛ صار لزاماً على صاحبه أن يتبصر بآدابه، ويلتزم بضوابطه، حتى يأتي به على وجهه، ويتحقق به مقصوده، ولا يكون ذلك سبباً لبغضه، أو استهجانه، أو النفور عنه.
الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها المسلمون، لما كان المزاح سُنَّة مشروعة، وخُلُقاً يحبه كثيرٌ من الناس، وأداةً يستميل بها الداعية قلوب المدعوين، ومتنفساً ينفس الشخص به عن نفسه؛ صار لزاماً على صاحبه أن يتبصر بآدابه ويلتزم بضوابطه، حتى يأتي به على وجهه، ويتحقق به مقصوده، ولا يكون ذلك سبباً لبغضه، أو استهجانه، أو النفور عنه.
المزاح مشروعٌ، دل على ذلك سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قالوا: يا رسول الله! إنك لتداعبنا!"، قال: "إني لا أقول إلا حقاً" رواه الترمذي. وكان -صلى الله عليه وسلم- يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول مرارا: "يا زوينب! يا زوينب!" رواه الضياء في المختارة.
وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟" رواه البخاري. "وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُدلِع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه. أي: يسرع إليه بعد أن أعجب به" رواه البغوي.
وعن أنس أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- الهدية من البادية، فيجهزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن زاهراً باديتُنا، ونحن حاضروه"، قال: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبه، وكان دميماً، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يشتري العبد؟"، فقال: "يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً"، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لكن عند الله لست بكاسد" أو قال: "لكن عند الله أنت غال" رواه البغوي.
فالمزح سنة. قيل لسفيان بن عيينة -رحمه الله-: المزاح هجنة؟ قال: "بل سنة"، ولكن الشأن فيمن يُحْسِنه ويضعه مواضعه. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "خالط الناسَ، ودينَك لا تَكْلِمَنَّه".
وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "إنه ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا بُغِيَ منه وُجِدَ رجلاً"، وقال ثابت بن عبيد: "كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، فإذا خرج كان رجلاً من الرجال"، وقال علي بن أبي طالب: "أجِمُّوا هذه القلوب، فإنها تَملّ كما تَملّ الأبدان"، وقال ربيعة الرأي: "المروءة ست خصال: ثلاثة في الحضر وثلاثة في السفر، ففي الحضر: تلاوة القرآن، وعمارة مساجد الله، واتخاذ القِرى في الله. والتي في السفر: بذل الزاد، وحسن الخلق، وكثرة المزاح في غير معصية"، وكان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك. وقال الخليل بن أحمد: "الناس في سجن ما لم يمزحوا".
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "المنهي عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمّات الدين، ويؤول كثيراً إلى قسوة القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب" انتهى.
أيها المسلمون: المزاح نوعان: محمود ومذموم: المحمود: وضابطه -كما قال ابن حبان-: "هو الذي لا يشوبه ما كره الله -عز وجل-، ولا يكون بإثم، ولا قطيعة رحم". والمذموم: وضابطه -كما قال ابن حبان أيضاً-: "الذي يثير العداوة، ويُذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويجرئ الدنيء عليه، ويحقد الشريف به".
ولكي يكون أكثر وضوحاً، فإننا نسرد بعض فوائد المزاح وبعض مخاطره. فمن فوائد المزاح أنه يسلي الهمّ، ويرقع الخَلَّة، ويحيي النفوس، ويميل قلوب الناس إليه. ومن مخاطره: إفساده المودة، وإيغار الصدور، وإثارة العداوة، وذهاب البهاء، وتجرئة الدنيء، وحقد الشريف، وإحياء الضغينة.
وهذا ما حدا مِسعَر بن كِدَام إلى أن ينصح ابنه كِداماً قائلاً:
إني نحلْتُك يا كِدَامُ نصيحتي *** فاسمع مقال أب عليك شفيقِ
أما المزاحة والمراء فدعهما *** خُلقان لا أرضاهما لصديقِ
إني بلوتهما فلم أحمدهما *** لمجاورٍ جاراً ولا لشقيقِ
وقال آخر:
وإياك من حلو المزاح ومرّه *** ومن أن يراك الناسُ فيه ممارايا
وإن مراء المرء يُخلِق وجهه *** وإن مزاح المرء يبدي التشانيا
دعاه مزاح أو مراء إلى التي *** بها صار مقليَّ الإخاء وقاليا
أيها المسلمون: للمزاح المحمود ضوابط:
أولاً: ألاَّ يكون إلا حقاً: كما سبق من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لا أقول إلا حقاً".
ثانياً: ألا يداوم المرء عليه: بحيث يكون صفة لازمة، لأن الجِد من سمات العاملين. وقضايا الإسلام أوفر جداً وأثقل هموماً من أن تدع عصبة من الدعاة تطيل الضحك، وتستجيز المزاح، وتتخذ لها من صاحب خير فيها محور تندُّر تروي قصصه وغرائبه. والابتسامة علامة المؤمن ولسنا ننكرها، والنكتة في ساعتها سائغة، والأريحية أصل في سلوكنا والألفة والبشاشة، ليس العبوس، والقهقهة الأُولى لك، والثانية نهبها لك أيضاً فإنَّا كرماء، ولكن الثالثة عليك وتشفع حسناتك لها عندنا، وأما الرابعة فيلزمها حد لا شفاعة فيه، وشعار الضحك للضحك باطل، والهزل الهزيل مرفوض في أوساط العمل الإسلامي، وإنما الداعية مفوض بالجد والتجديد.
ثالثاً: من ضوابط المزاح المحمود: ألاَّ يشتمل المزاح على مساوئ الأخلاق، ومعايب الكلام، مما ينكره الشرع، أو يمجه الطبع.
رابعاً: اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب.
وخلاصة الضوابط أن يُنظر لها من زاويتين: ذات المزح، وآثاره. فمتى كان أحدهما أو كلاهما حراماً فهو حرام، وإلا فلا.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك، وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله، والفكر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فإنه كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة، لتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا مانع منه مطلقاً، بل هو سنة مستحبة إذا كان بهذه الصفة، فاعتمِدْ ما نقلناه عن العلماء وحققناه، فإنه مما يعظُم الاحتياج إليه".
واعلم أنه يوجد ما يغني عن كثير من المزاح إذا أحسن المرء استخدامه، ألا وهو التباسط، وهذا مفيد لمن لم يعطه الله طابع المزح والمرح.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
أما بعد: أخي المسلم: اجعل لك هدفاً في مزاحك حتى يؤتي ثماره. واعلم أن المزاح كالملح في الطعام فاجعله قدراً، ولكن لا تنس أن بعض الناس لا يأكلون الطعام إذا كان فيه ملح.
قال الشاعر:
أفد طبعك المكدود بالجِدِّ راحة *** يُجمُّ وعلِّله بشيء من المزِحِ
ولكن إذا أعطيته المزْح فليكن *** بمقدار ما تُعطي الطعام من المِلْحِ
فبعض الناس لا يناسبه المزاح، كما نقل الذهبي في سِيَره عن خلف بن سالم قال: "كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فقال يزيد: من المتنحنح؟ فقيل له: أحمد بن حنبل. فضرب على جبينه وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد ها هنا حتى لا أمزح".
وبعض الناس قد يجره مزحك معه إلى إيذائك، كما قيل: "لا تمازح الغلمان فتهون عليهم أو يجترئوا عليك". وقيل: "لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا تمازح الوضيع فيجترئ عليك".
قال ابن حبان: "من مازح رجلاً من غير جنسه هان عليه واجترأ عليه، وإن كان المزاح حقاً؛ لأن كل شيء يجب ألا يسلك به غير مسلكه ولا يظهر إلا عند أهله. على أني أكره استعمال المزاح بحضرة العامة، كما أكره تركه عند حضور الأشكال".
فعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين: فطبقة من العامة يلبس لها لباس انقباض وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد، ويلبس لباس الأنس والملاطفة، كلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء. فحاول أن تدرس شخصية من أمامك: هل هو مناسب أم لا؟ ولعل هذا هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن يمازح كل أصحابه.
ولا تمزح مع شخص أول مرة حتى تعرفه، وإياك والتجريح في المزاح! ولا تتكلف المزح، واحذر الأريحية الزائدة مع البعض، وأشعِرْ من تمازحه أنك تحترمه، وهذا كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من يمازحه، وأحسِنِ التصرف مع من يخطئ معك في مزحه حسب ما يناسب المقام: من ردٍ مُفحم، أو تجاهل، أو تحديق النظر فيه، أو غير ذلك من الأساليب الناجعة.
وهذه أسئلة ينبغي مراعاتها عند المزاح: هل هذا الوقت مناسب؟ وهل هذا الشخص مناسب؟ وهل هذا الكلام أو الفعل مناسب؟ وهل هذا المكان مناسب؟.
أيها المسلمون: وهذه بعض النماذج من مزاح السلف: قال غالب القطَّان: "أتيت محمد بن سيرين، وكان مزَّاحاً، فسألته عن هشام بن حسان، فقال: تُوفي البارحة، أما شعرت؟ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! فضحك وقال: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا الموْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر:42]".
ودخل رجل على الشَّعبي ومعه في البيت امرأة، فقال: "أيكم الشعبي؟"، فقال الشعبي: "هذه". وسُئل الشعبي عن لحم الشيطان فقال: "نحن نرضى منه بالكفاف". قال: فما تقول في الذباب؟ قال: "إن اشتهيتَه فكله".
وسَأل رجلٌ الشعبي أيضاً: هل يجوز للمُحْرِم أن يحك بدنه؟ قال: "نعم"، قال: مقدار كم؟، قال: "حتى يبدو العظم".
وسُئل: عن الرجل يغتسل في البحر، إلى أين يتوجه؟ قال: "يتوجه إلى ثيابه حتى لا تسرق". ودخل يوماً الحَمَّام فوجد صديقاً له متجرداً فأغمض عينيه، فقال له صديقه: منذ متى عميت؟ فقال له الشعبي: "منذ أن هتك الله سترك".
اللهم...
التعليقات