عناصر الخطبة
1/عظم نعم الله على عباده 2/الأمن من أعظم النعم وأهمها 3/من أسباب زوال نعمة الأمن 4/من الأمم التي نزع الله منها الأمن 5/الفتيا وارتباطها بتحقيق الأمناقتباس
نِعمةُ الأَمنِ لا تُدْرَكُ بِقُوَّةِ سُلْطان، ولا تُسْتَجْلَبُ بِجُيُوشٍ ولا أَعْوَان, نِعمةُ الأَمنِ هِبَةٌ مِنْ اللهِ يَبْسُطُها في ساحةِ مَنْ شاءَ، يَنْزِعها ِمنْ ساحةِ مَنْ شاء, فَتَرى أُمَّةً من الأُممِ ليسَ لها قوةٌ ولا مَنَعَةٌ ولا عَتاد، تَرْفُلُ في نِعْمةِ الأَمنِ هانئة, وَتَرى أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تَمْلِكُ من السلاحِ أَفْتَكَه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون: سائِلٌ يَنْشدُ السلامةَ دَوماً: نَحْنُ في عَيْشٍ كَرِيْمٍ مُغْدَقِ؛ في مأَمَنٍ، في مَسْكَنٍ، في مأكَلٍ، في مَشربِ, لا نشتكي هماً ولا خوفاً ولا أليمَ مُصابِ, في نِعمةٍ نَتَقَلَّبُ, قدَ مَدَّنا بِعَطائِه، خَيْراتُهُ مِدْرارةٌ، آلاؤُهُ قَد أُسْبِغَت, جَلَّ الكريمُ المُنْعِمُ؛ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)[النحل: 53].
لا يُدرِكُ الإنسانُ للنِّعَمِ احتواءً، ولا يَقْدِرُ لتَعداَدِها إِحْصَاءً, تحدى اللهُ القومَ أَنْ يَعُدُّوا نِعَمَهُ، فكيفَ لو تَحَدَّاهُم أَنْ يَشْكُرُوْها؟! (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 34], عاقِلٌ مُغْتَبِطٌ بِنِعْمَةِ رَبِه, يأَملُ بقاءَها ويُحاذِرُ زَوَالَها، يرجو نَمَاءَها ويخشى انْكِفاءَها, يَنْشدُ السلامةَ دَوماً: كَيْفَ نحفظُ النِعمةَ فِينا؟ كيفَ نَحْمِي النَّعِيْمَ أَنْ يَرْحَل؟ كيفَ نَسْتَدْفِعُ العُقوبةَ عَنا؟ كيفَ نأَمَنُ البلاءَ أَن يَنزِلا؟ مُتَسَائلٌ عَقَلَ المواعِظَ وادَّكَر، فَمَضَى يَحُثُّ السَّيْرَ في دَرْبِ الأَمان، مُسْتَمْسِكٌ بالواقياتِ، متزودٌ بالباقيات الصالحات، لا يَرْتَضِيْ سَبَباً تَحْوْلُ بِهِ النِعَم.
ولئِنْ تَنَوَّعَت نِعمُ الجليلِ وفاضَت, فَنِعْمَتُهُ بالأَمنِ يَعلو مقامُها, نِعْمَةُ الأَمنِ تَرْسو فَوْقَهَا جُلُّ النِعَم, فلا يَطِيْبُ نعيمٌ على ساحةٍ نُزِعَ مِنها الأمان, بَل لا يَتَحَققُ للعبدِ كمالُ عبودِيَتِهِ للهِ في أَرضٍ شاعَ فيها الخوف؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)[النساء: 97], كُنا مُسْتَضْعَفِينَ بَيْنَ قومٍ جبارِينَ نَخْشىَ سَطْوَتَهُم ونخافُ نِقْمَتَهُم، فَلَمْ نُقِمْ لأَجْلِهِم دِيننا؛ (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)[النساء: 97].
الأَمنُ هُوَ طُمَأنينةٌ النَّفسِ وسكينَتُها بحصولِ مَرْغُوْبٍ لا يخالِطُهُ مَرْهوب, وبحلولِ مَرْغُوْبٍ لا يُخْشى زوالُه, والأَمنُ بِساطٌ يُنْشَرُ ويُضْفَى لِيَشْمَلَ كافةَ جوانِبَ الحياةِ ونواحِيها؛ أَمنٌ في الدِّيارِ, وأَمنٌ في الأُسَر، وأَمنٌ في المكاسِبِ, وأَمنٌ في طلبِ المعاش، أَمنٌ في السَّفَرِ, وأَمنٌ في الحَضَر, أَمنٌ مِن كُلِّ آفةٍ يُخشى اجتياحُها, وأَمنٌ مِن كُلِّ وباءٍ يُخشى انتشارُه, أَمن مِن عدوٍ بعيدٍ يتربَّص, وأَمنٌ من عدوٍ قريبٍ يتآمَر.
نِعْمَةُ الأمنٍ جليلةٌ فلا يَهْتَني بلذيذِ النومِ خائِف؛ (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3، 4], وتَذكيرُ الناسِ بِنِعْمَةِ الأمنِ الحاضِرَة التي يَتَقَلَّبُوْنَ فيها، والتَّحْذيرُ مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِها، والتَّنْفِيرُ مِنْ أَسْبَابِ رَحِيْلِها, ليسَ قتلاً لِمُتْعَةِ المسروريْن، ولا تَكْدِيْراً لصفوِ الهانِئِيْنَ، ولا تَشَاؤُماً مَمْقُوْتاً، ولا إشاعةً للسيءِ من الظُّنُوْن؛ ولكنَّهُ تَذْكِيْرٌ بِمَا يَحْفَظُ النِّعْمَةَ ويَزِيْدُها، ويَبْسُطُ الطُّمَأَنِيْنَة ويُبْقِيْها، ولا يكونُ ذلك إلا ممنْ لَه ضَمِيْرٍ مُتَيَقِّظٌ فَطِنْ, وقلبٍ مُتَبَصِّرٌ واعٍ, أَدْرَكَ سُنَنَ اللهِ في عبادِه فدعا إلى إبْصارِها.
عاشَ قَومُ ثَمودٍ في مكانٍ فسيحٍ مِنَ الأَرض, في حياةٍ هانئةٍ وعيشٍ رَغِيد، قَدْ أُوسِعَتْ أرْزاقُهُم، وتَنوَّعَت خيراتُهم, في ديارهم آمنينَ مُتْرَفِيْنَ فَارِهِيْن, فلَم يَكُوْنُوا للهِ مِنَ الشَّاكِرِين؛ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[إبراهيم: 28], صَيَّرُوا حَيَاةَ النِّعَمِ طُغْيَاناً، وقَلَبُوا شُكْرَ اللهِ جُحُوداً, سَلَكوا طريقاً يُوْدِي إلى نَسْفِ النِعَمِ وَحُلُوْلِ النِّقَم.
فقامَ فيهم نبيُ اللهِ صالحٌ -عليه السلام- يَعِظُهُم ويُذَكِرُهُم ويُحذِّرُهُم ويُنْذِرُهُم: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)[الشعراء: 146 - 150]؛ أَتَظُنُّونَ أَنْ سَتُتْرَكونَ في مكانِكُمْ هذا هانئينَ آمنين, لا تَتَبَدًّلُ عنكُم النعَمُ ولا تتحولْ، وقد أصْرَرْتُم على معصيةِ الله وأقَمْتُم على مُخَالَفَةِ أمْرِه؟! أَتَظُنُّونَ أَنَّ ذلك الخيرَ لكم سَيَدُوم؟! كَلا؛ فذاك في حُكْمِ اللهِ وحِكْمَتِه أَبَداً لا يكون, (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)؛ أصْلِحوا شأَنَكُم، وصَحِّحوا طَرِيقَكُم، واتقوا رَبَكُم، وأَطِيْعُوْنِ فيما نَصَحْتُ لَكُم؛ فإِنَّه لا بقاءَ للنِّعْمَةِ مَع الكُفران، ولا زوالَ لها مع الشُكرٍ والإيمان.
فَلَمْ يَرْعَوْا لرسولِ اللهِ سَمْعاً، ولَم يقبلوا مِنْهُ نُصحاً، ولم يزالوا في طريقِ الغوايةِ مُسْتَكْبِرِيْن، قال اللهُ: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 78، 79].
إنَّ نعمةَ الأَمنِ مِنْ أجَلِّ النِعَمِ وأكرَمِها, عاقِلٌ مَنْ استشْعَرَ جَلِيلَ العيشِ فيها، جاهِلٌ مَن استَخَفَّ بها فَلَمْ يُوُفِها حَقَها, نِعمةُ الأَمنِ لا تُدْرَكُ بِقُوَّةِ سُلْطان، ولا تُسْتَجْلَبُ بِجُيُوشٍ ولا أَعْوَان, نِعمةُ الأَمنِ هِبَةٌ مِنْ اللهِ يَبْسُطُها في ساحةِ مَنْ شاءَ، يَنْزِعها ِمنْ ساحةِ مَنْ شاء, فَتَرى أُمَّةً من الأُممِ ليسَ لها قوةٌ ولا مَنَعَةٌ ولا عَتاد، تَرْفُلُ في نِعْمةِ الأَمنِ هانئة, وَتَرى أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تَمْلِكُ من السلاحِ أَفْتَكَه، ومِن الجيوشِ أَبْطَشَها، نَزَعَ اللهُ مْنها بِساطَ الأَمن, فَهيَ في شقاءِ الخوفِ تَتَأَلَّم؛ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)[الحشر: 2], (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
ما شَكَرَ اللهَ آمِنٌ ظَنَّ أَنَّ نِعْمَةَ الأَمنِ التي يَتَقَلَبُ فيها, حَلَّت بِساحَتِهِ لفضيلةٍ استحقها على رَبِّهِ، أَو لمكانةٍ تَبَوَأَها، أو لِفَضِيلةٍ وَرِثَها، أو لقُوَّةٍ أَو سَطْوَةٍ أو غِنىً تَرَبَّعَ عليه, ذاك غُرورٌ أَهلَكَ اللهُ بِه قارونَ، إذ مَلَّكَهُ اللهُ كنوزاً مِنَ المالِ فَتَعَاظَمَ في نَفسُه، فأَنكرَ مِنَّةَ اللهِ بِهِ عليه؛ (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78], قال اللهُ: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)[القصص: 81].
لا يتحققُ الأَمنُ المُطْلَقُ، ولا يتحقق الأَمنُ في الدارين إلا لِمُؤمنٍ حقق الإيمان واستقامَ عليه، وإِن طافَتْ المخاوِفُ بالمؤمنِ يوماً، ورُجِمَ بأقسى الأَراجِيف, واجهها بقلبٍ آمِنٍ مُؤمنٍ بالله، معتمدٍ على الحي الذي لا يموت؛ (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب: 22], (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه النبي الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.
أما بعدِ فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: حِفْظَ الأَمنِ لَهُ أُسُسٌ وأَعمِدَةٌ وأَركان, فَمَنْ استهانَ بالأُسُسِ هَوَى بُنيانُه, ومَن أَخَلَّ بالأعمدةِ تلاشى أَمانُه, حِفظِ الأَمنِ لَهُ أسبابٌ ووسائلُ ومُقومات, فَمَنْ هَدى الناسَ إلى غيرِ سَبِيْلِهَا ضَلَّ وأضَلَّ, وَمَنْ هَدَاهُم إِلى غَيْرِ طَرِيْقِها, افْتَاتَ على اللهِ وافْتَرَى, مِيْزَانُ الأَمن قائمٌ على تحقيقِ الإيمان, فَمَنْ أفتى الناسَ بغيرِ عِلْمٍ هَلَكَ وأَهْلَك, مَنْ أفتى العبادَ بِما لَمْ يوافِقِ كتابَ اللهِ وسُنَّةِ رسُولِه أَخَلَّ بالأَمنِ وأفسَد, مَن زَيَّنَ للعبادِ دُروبَ الهوى، ودعاهم إلى الفِرْقَةِ والتشتتِ والتَحَزُّبِ والاختلافِ؛ أضْعَفَ صلابةَ الأمةِ وزعزعَ كيانَها، وأَوهَنَ أَمْنها، وشَرَخَ بُنْيانَها.
الفُتيا إرشادُ العِبادِ إلى شَرِيْعَةِ وأحكامِ الله, فإِن قالَ بِالفُتيا مَفْتونٌ فَتَن, وإِن تَجَرأَ عليها جاهِلٌ أَعْمَى، وإِنْ امْتَهَنها صاحِبُ هوىً أَضَلّْ, الفُتيا سببٌ لبقاءِ الأَمنِ قائماً إَن استقامَت, وسببٌ لحلولِ الخوفِ والخرابِ إِن انحرَفَت, ولا تقودُ الفتوى إلى دربِ الأمانِ, إلا أَنْ يتولى زمامها من يخشى اللهَ ويتقيه، ويهتدي بهدي الكتابِ والسنةِ, لا إلى ما تُمليه النفسُ وتشتهيه؛ (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص: 26].
الفُتيا, مِيثاقُ اللهِ إلى العُلماءِ, وهيَ أَمانَةٌ يُحمى بِها الدينُ، ويُحْفَظُ بِها الأَمنُ، ويُسْتبانُ بها السبيل, عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا"(متفق عليه), فَتوى بِغَيْرِ عِلْمٍ تُحدثُ في الناسِ الضلالة, وفتوى بركونٍ إلى الهوى, تَنْزِعُ مِن الأًمةِ صَمَّامَ أَمانْ.
عباد الله: مَنْ حَقَّقَ الإيمانِ حُقِّقَ لَه الأَمن, مَنْ لِزِمَ الشُكرَ حَلَّتْ لَه الزِّيادَة, مَن استعانَ بالنِعَمِ على الطاعةِ أدْركَ سعادةَ الدارين, هذا كتابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِنا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55].
اللهم اجعلنا مؤمنين آَمنين, هادينَ مهديين، بالكتاب والسنةِ على بصيرةٍ مستمسكين, وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
التعليقات