عناصر الخطبة
1/ شدة الموت 2/ وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة 3/ أهمية الصلاة وفضلها 4/ وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخدم والعمال 5/ وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنساءاهداف الخطبة
اقتباس
الصلاةُ هي الصلةُ التي تصلُ العبدُ بربهِ، وهي الوشيجةُ التي تربِطُهُ بخالِقِه، إذا حافظَ عليها المسلمُ زَكَتْ نفسُهُ، ونقتْ سريرتُهُ، وأشرقتْ علانيتُهُ، وزادَ بهاؤُهُ ونورُ وجهِهِ، وأحبَّهُ اللهُ -سبحانَه-، وأحبَّهُ الناسُ. الصلاةُ...
الخطبة الأولى:
أما بعدُ:
أيها الأحبةُ في الله: فإنَّ لحظاتِ الموتِ لحظاتٌ حاسمةٌ، لحظاتٌ مريرةٌ وقاسيةٌ، يفرُّ المرءُ من هذهِ اللحظاتِ فراراً، ولكنهُ معبرٌ لا بدَّ منهُ، وخاتمةٌ لهذهِ الدنيا لا يملكُ كائنٌ مَنْ كانَ أنْ يدفعَهاَ، إذا جاءَ الموتُ على المرءِ، وحلَّتْ على أنفاسِهِ كربتُهُ، وأنشبتِ المنيةُ أظفارَهاَ ومخالبَهاَ، هنالكَ تخبو كلُّ المطالعِ، وتفسدُ كلُّ المطامعِ، وتزدادُ الكربةُ، ويشتدُ الألمُ، وتبدأُ السكراتُ، هنالكَ لا يفكرُ المرءُ بشيءٍ من عَرَضِ الدنيا، ولا من مباهِي الحياةِ، لو وضعْتَ القصورَ والملايينَ عندَ قدمِ المغشيِّ عليهِ من الموتِ لرفسَهاَ، ولأشاحَ بوجهِهِ عنها.
فسبحانَ اللهِ! أهذا الإنسانُ هو الإنسانُ الذي تسمعُ لهاثَهُ، ويصُمُّ أذنيكَ دفّ نَعْليهِ في طلبِ الدنيا والسعيَ وراءَ سرابِهاَ؟ أهذا الإنسانُ هو ذلكَ الإنسانُ الذي ينهشُ في حُرمتِها وحِلِّها ليجمعَ هذا الحطامَ؟ أهذا الإنسانُ هو الإنسانُ الذي تأتيه الفتاوى عن الربا والغشِّ والظلمِ والابتزازِ، وأكلِ مالِ الآخرينَ، فيضربُ عنها صفحاً لأجلِ أنْ يكدِّسَ هذا الهشيمَ؟
نعم هو ذلك الإنسانُ، ولكنَّهُ حلَّ بهِ ما لا يسوغُ معهُ مطمعٌ، ولا يصفو لهُ مرتعٌ، حلَّ به مشتتُ الأوصالِ، وقاطعُ الآمالِ، ومهلكُ الأجيالِ، في هذهِ اللحظاتِ الحاسمةِ التي تدورُ بها الأعينُ وتزيغُ بها الأبصارُ، وتخبوا بها الأنفاسُ، يقولُ نبيُّ الهدى وإمامُ الرحمةِ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ -صلى اللهُ عليهَ وسلمَ- وهو على حِجْرِ عائشةَ الطاهرةِ -رضي اللهُ عنها- يودِّعُ الدنيا بأزكى نفَسٍ حملتْهُ السماءُ، وأطهرِ جسدٍ حملتهُ الأرضُ: "الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانُكم".
ويقول: "استوصوا بالنساءِ خيراً".
في هذه اللحظاتِ الأخيرةِ من حياةِ النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- نقفُ لنرى ما هيَ وصيتُهُ الأخيرةُ التى خرجتْ من بينِ جبالِ الكربةِ وأمواجِ السكراتِ؟ لنسمعَ ماذا قالَ المبعوثُ رحمةً للعالمينَ في الدقائقِ الأخيرةِ من حياتِهِ، سيدُ الخلقِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمُ- لمْ يوصِ على مُلْكٍ ولا على ميراثٍ إلا على ميراثِ الدينِ وميراثِ الرحمةِ والعدلِ والوفاءِ، لم يوصِ على درهمٍ ولا على دينارٍ، ولا على أرصدةٍ ولا على عماراتٍ، إنما وصى على الصلاةِ وما ملكتِ الأيمانُ وعلى النساءِ، وصَّى على الصلاةِ؛ لأنَّ نجاةَ المرءِ من النارِ بسببِ كمالِها وجمالِها، قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "أولُ ما يحاسبُ عليه العبدُ يومَ القيامةِ الصلاةُ فإنْ صلحتْ صلحَ سائرُ عملهِ، وإنْ فسدتْ فسدَ سائرُ عملهِ" أوصى بهذهِ الشعيرةِ العظيمةِ التى تحفظُ للمرءِ دينَهُ وتنهاهُ عن الفحشاءِ والمنكرِ، وتُنجيهِ من عذابِ النارِ.
الصلاةُ -أيها المسلمونَ- هي الصلةُ التي تصلُ العبدُ بربهِ، وهي الوشيجةُ التي تربِطُهُ بخالِقِه، إذا حافظَ عليها المسلمُ زَكَتْ نفسُهُ، ونقتْ سريرتُهُ، وأشرقتْ علانيتُهُ، وزادَ بهاؤُهُ ونورُ وجهِهِ، وأحبَّهُ اللهُ -سبحانَه-، وأحبَّهُ الناسُ.
الصلاةُ وأداؤُها في المسجدِ معَ الجماعةِ عصمةٌ للمرءِ من الزيغِ والضلالِ والكفرِ والنفاقِ، هي السدُّ المنيعُ، والضلعُ الضليعُ، هي التى أمرَ اللهُ بها حتى في ساعاتِ الخوفِ والقتالِ، رجالاً وركباناً، هي التي فُرضَتْ من بين شعائرِ الدينِ في السماءِ، وعُلِّمتْ في السماءِ، هي التي فُرضَ حُكمُهَا على سائرِ الأديانِ الربانيةِ السابقةِ.
الصلاةُ تغسلُ أدرانَ القلبِ، وتزيلُ همومَ النفسِ، وتشرحُ الصدرَ، وتجلو كدرَ الفؤادِ، هي الدواءُ، وقد ثبتَ علمياً أنَّ أداءَها بركوعِها وسجودِها وبأوقاتِها يقي الإنسانَ من كثيرٍ من العللِ والأدواءِ، ويحفظُ مقيمَها من الأمراضِ، وكفى بها أنها أولُ عملٍ يُحاسَبُ عليهِ العبدُ يومَ القيامةِ، هي تأشيرةُ الدخولِ لمحاسبةِ سائرِ العملِ.
ولذلكَ -أيُّها الأحبةُ المسلمونَ-: هذه الفريضةُ فريضةُ الصلاةِ إنْ صلحَتْ صلحَ سائرُ العملِ، وإن فسدتْ فسدَ سائرُ العملِ، ولذلكَ على المسلمِ أنْ يقيمَ ركوعَها وسجودَها ويتمَّها كما أمرَ اللهُ بها، وكما فعَلَها النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- إذْ قالَ: "صلوا كما رأيتموني أُصلي" فلْنحافظْ على سلامتِها لكي لا تفسدَ، لكي لا تفسدَ هذهِ العبادةُ العظيمةُ؛ لأنني رأيتُ أناساً -هداهُم اللهُ- يُصلُّونَ وكأنهم يلعبونَ ويعبثونَ، سرعةٌ عجيبةٌ، لا يُتمونَ ركوعَها ولا سجودَها، بل تتعجبُ وتقولُ: كيفَ قرأ هذا المصلي الفاتحةَ؟ وكيفَ سبَّحَ؟ وكيفَ ذكرَ اللهَ؟ لأنَّ المقصودَ في الصلاةِ ليسَ الحركاتِ فقط ولكنْ ما يقالُ في كلِّ ركنٍ وواجبٍ منها من الأذكارِ، وأضربْ لكمْ مثلاً وللهِ المثلُ الأعلى، لو أنَّ أحدَكُم اشترى غذاءً وأخذَ هذا الغذاءَ وهو في كرتونهِ محفوظٌ إلى بيتِهِ، فلماَّ وصَلَ إلى بيتِهِ وجدَ هذا الكرتونَ فارغاً أو ناقصاً أو فاسداً هل يقبلُ بهِ أم يعيدُهُ لمنِ ابتاعهُ منهُ، فإنْ كُناَّ نفعلُ ذلكَ في حقِّ غذاءٍ فكيفَ نقدِّمُ صلاتَنَا لربِّ العزةِ والجلالِ خاليةً من روحِها ومن ذكرِها ومن تسبيحِها، جوفاءَ لا شيءَ فيها، حتى قيامَها وركوعَها وسجودَها فيهِ خللٌ عظيمٌ؟
ولا يُعذرُ أحدٌ بجهلٍ مع توفُّرِ وسائلِ العلمِ، وعلى المسلمِ أنْ يسألَ فيما أشكلَ عليهِ، فهذهِ الصلاةُ إنْ فسدتْ فسدَ سائرُ العملِ، وفسادُ الشيءِ لا يأتي معَ عدمِهِ، فسادُ الشيءِ يأتي بوجودِهِ ولكنْ إذا لم تتمُّ العنايةُ بهِ فسدَ.
فيا من لكَ من الأعمالِ الخيِّرَةِ الجليلةِ التي ترجو بها ثوابَ اللهِ: إياكَ أنْ تَفسُدَ صلاتُك فيفسدَ سائرُ عملِك، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان: 23].
أيها المسلمون: هذهِ الوصيةُ العظيمةُ الصلاةُ هي التي أوصى بها النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في آخرِ أنفاسِهِ، كان يقولُ: "الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكم" يكررُها عليه الصلاةُ والسلامُ حتى ثقلَ بها لسانُهُ.
وأما الوصيةُ الثانيةُ، فهي: "ما ملكت أيمانُكم" ملكُ اليمينِ، وهمُ الموالي والإماءُ والعبيدُ، فإنَّهم همُ الذين كانوا يعملونَ في خدمةِ أسيادِهم، وتكونُ اليدُ من فوقِهم، ورُبَّما ظلمَهُم من كانَ يسودُهُم، وقسا عليهم في العملِ، وأغلظَ عليهم في المعاملةِ، فخصَّهُم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بهذه الوصيةِ؛ لأنهم ضعفةٌ مغلوبونَ على أمرِهِم.
ولمَّا لم يكنْ في زمنِناَ هذا أرقاَّءَ ولا عبيدَ ولا إماءَ، فإنَّ للعمالِ والخدمِ في هذا الزمانِ حكمَ الوصيةِ، فأصلُ وصيةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في البُعدِ عن ظُلمِ مُلكِ اليمينِ، فلنحذرْ من ظلمِ هؤلاءِ الخدمِ والعمالِ بتحميلِهم ما لا يطيقونَ من عملٍ، أو ظلمِهِم ببخسِ حقوقِهِم، وأكلِ أموالِهِم بحُكمِ أنهمْ ضعفةً محتاجينَ، يقولُ اللهُ -تعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكُم محرماً فلا تظالموا".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المسلمون: فاتقوا الله القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أيها الناسُ: وأما الوصيةُ الثالثةُ، فهي: وصيتُهُ صلى الله عليه وسلمَ بالنساءِ، قال: "استوصوا بالنساءِ خيراً" فهذهِ المرأةُ الضعيفةُ التي خُلقتْ من ضلعٍ أعوجٍ، طالما أنَّ لها خلقةً خاصةً فهي بحاجةٍ إلى رعايةٍ خاصةٍ، منذُ صغَرِها وإذا كبُرتْ، فالأولادُ يتطلعونَ إلى الحياةِ مباشرةً، ويشقونَ طريقَهم إلى الحياةِ والمستقبلِ شيئاً فشيئاً مباشرةً قد يحتاجونَ لمساندةٍ منكَ -أيها الوليُّ- مساندةِ دعمٍ وتوجيهٍ.
أما الأنثى فهي تتطلعُ إلى الدنيا من خلالِ نافذتِك -أيها الولي- فسواءً كانت أُمًّا أو زوجةً أو بنتاً، فأنت البوابةُ التي تنظرُ من خلالِها للدنيا، فالمرأةُ بحاجةٍ للعطفِ والحنانِ والرفقِ والإحسانِ، وبعضُ النساءِ لا تجدُ من وليِّها إلا الزجرَ والعنفَ والغلظةَ والقسوةَ.
فالوليُّ يجبُ عليهِ أنْ يرعى مصالِحَها ويرشِدُها ويسعى في الخيرِ لها ويكرِمُها، ويحسسُها بقيمتِها الأسريةِ والاجتماعيةِ، وأنها ليستْ كأثاثِ البيتِمُهانةً مكسورةَ الجناحِ، مثلومةَ الجانبِ، إنْ رأى منها صلاحاً وخيراً شجَّعها وساندَها، وإنْ وجدَ غيرَ ذلكَ من نشوزٍ وخروجٍ عن طاعةِ الوليِّ ناصَحَها وعالجَها بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، والمشاكلُ لا تُحلُّ بالتأجيجِ والتصعيدِ، فالنارُ لا تخبو بالحطبِ، إنما تموتُ بالماءِ.
المرأةُ ضعيفةٌ مسكينةٌ، الكلامُ حسنُهُ وسيئُهُ يلعبُ بها يمنةً ويسرةً، فكونوا عوناً لها.
وصلوا وسلموا على خير البرية محمد بن عبد الله...
التعليقات