ولا تنازعوا فتفشلوا
راكان المغربي
ولا تنازعوا فتفشلوا
الخطبة الأولى
أما بعد:
داءٌ خطيرٌ، وشرٌ مستطيرٌ.
يَدُبُّ في الأسرِ فيهدمُها، وينخرُ في المجتمعاتِ فيُخَلْخِلُها، ويستشرِي في الأممِ فيُذْهِبُ ريحَها.
جاءتْ نصوصُ القرآنِ بالتحذيرِ من شرِّه، وتكررت الإنذاراتُ النبويّةُ للترهيبِ من عاقبتِه.
إنه داءُ التنازعِ!
ذلكم الداءُ الذي لا يكِلُّ إبليسُ ولا يملُّ من إيقاعِ الناسِ به، لأنه يعلمُ شدّةَ فتكِه بهم، وسهولةَ جذبِ الناسِ إليه.
حين أقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم قواعدَ التوحيدِ، وأرسى بناءَ العقيدةِ الصافيةِ، قال لأصحابِه في حَجّةِ الوداع: (إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ).
قد ييأسُ الشيطانُ من إيقاعِ المسلمِ في الكفرِ، ولكنَّه لا ييأسُ إطلاقاً من إثارةِ الأضغانِ، ونفخِ الأحقادِ، والتحريشِ بينه وبين العبادِ.
إنه في كلِّ يومٍ يشرفُ بنفسِه على عملياتِ التفريقِ، ومهامِّ التحريشِ التي يكلّفُ بها جنودَه. يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ).
إن اللعينَ يعرفُ أنَّ هذا الداءَ فتاكٌ، يفتكُ بدينِ المرءِ شيئاً فشيئاً من حيث لا يشعرُ المبتلى به. فتجدُه حينَ يمتلئُ قلبُه بالغلِّ على إخوانِه؛ يقعُ في الغيبةِ، ويوغلُ في النميمةِ، ويعتادُ السبابَ واللعنَ، ويُشغلُ همَّه بالتفكيرِ في التشفي والانتقام، ويسعى يومَه في إشعالِ حرائقِ الضغينةِ والأحقادِ، فيتركُ بذلك كثيراً من الطاعاتِ، ويقتحمُ كثيراً من أبوابِ المحرمات. ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (دَبَّ إليكم داءُ الأممِ قبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ، والبغضاءُ هي الحالقةُ، أما إني لا أقول: تحلِقُ الشَّعرَ، ولكن تحلِقُ الدِّينَ).
هذا على مستوى الفردِ. وأما حين يحِلُّ التنازعُ في الأمةِ فهيهاتَ هيهاتَ أن تقومَ لها قائمةٌ، وستكونُ في مهبِّ الريحِ مهما كَثُرَ عددُها، وانتشرت جماعاتُها في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها. ومصداقُ ذلك قولُ اللهِ سبحانه: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). قال السعديُّ -رحمه الله-: "{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تنحلُّ عزائمُكم، وتفرَّقُ قوتُكم، ويُرفعُ ما وُعدتم به من النصرِ". ومصداقُه أيضاً في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا).
ولذا كان من الواجبِ إدراكُ خطورةِ هذا الداءِ، ومعرفةُ أسبابِه ومظاهرِه، والعلمُ بعلاجِه ودوائِه.
فمن أسبابِ التنازعِ: العصبيةُ المقيتةُ لجنسٍ أو عرقٍ أو جماعةٍ، فجنسُه هو الأعلى، وعرقُه هو الأنقى، وجماعتُه هي الأصوب، وأما ما سواه فهو في الدونِ كائناً من كان.
لقد ثارتْ مثل هذه العصبياتِ في مجتمع الصحابة، وبذرت بذورَ التنازعِ والخلافِ، فكيف تعامل النبيُّ صلى الله عليه وسلم معها؟
عن جابرٍ -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا في غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ -أي ضربَه في دبرِه بيدِه أو رجلِه-، فَقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلْأَنْصَارِ، وقالَ المُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ... فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما بَالُ دَعْوَى أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟!)، وفي رواية: (دَعُوهَا فإنَّهَا مُنْتِنَةٌ).
لقد علّمَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذه العصبياتِ من أمرِ الجاهليةِ التي ولى زمنُها، وغسلَ الإسلامُ خطاياها، فما بالكم ترجعون وتتّسخون بنَتَنِها؟
ويؤسفنا أننا لا زلنا نسمعُ من بعضِ المسلمينَ هذا التداعي، الذي يتمُّ على المبدأ الجاهليِّ الشهيرِ: "أنا وأخي على ابنِ عمي، وأنا وابنُ عمي على الغريب". والمسلمُ ليس عنده هذا المبدأ، بل يقفُ مع الحقِّ ويدورُ معه حيثُ دار. فإن كان الحقُّ مع ابنِ العم يقفُ معه على أخيه، وإن كان الحقُّ مع الغريبِ يقفُ معه على ابنِ عمِّه. كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا)، فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: (تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ). هذا هو المبدأُ الإسلاميُّ الصحيحُ، الذي يقيمُ الحقَّ والعدلَ، ويبددُّ راياتِ الجاهليةِ ونزاعاتِها.
ومن أسبابِ التنازع: إساءةُ الظنِّ بالمسلمين، واتهامُهم بالباطلِ، وتتبعُ زلاتِهم وعثراتِهم، ونبزِهم بالألقابِ السيئةِ. ويظهرُ ذلك بشكل جليٍّ في مواقع التواصلِ الاجتماعيِّ التي اتخذَ فيها كلُّ فردٍ منبراً، فسخرَ البعضُ منابرهم للطعنِ واللمزِ، والسبابِ والشتمِ، وإذكاءِ الخلافِ بين المسلمين شعوباً وأفراداً.
فمن كان له مثلَ هذه المنابرِ، فليحذر ْكلَّ الحذرِ أن يكونَ من جندِ الشيطانِ، بأن يحرّشَ بين المسلمين ويفرّقَهم. وإن رأى منكراً أو خطأً فليتكلمْ بالحسنى، وليتحدثْ بروحِ الناصحِ الأمينِ، الذي يحبُّ الخيرَ لمن ينصحُه، لا بروحِ الحاقدِ الذي يريدُ التشفِّي من خصمِه. قال سبحانه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا).
ومن أسباب التنازع معاشر المسلمين: اتباعُ الهوى، والجريُ وراء المصلحةِ الشخصيةِ المجردةِ، دونَ اعتبارِ الحقِّ. فالمهمُّ هو أن ينالَ حظَّه من المالِ أو الجاهِ أو الشرفِ، ومن أجلِ الحصولِ على ذلك لا يجد غضاضةً في أن يقيمَ الخصوماتِ، ويُنشئَ العداواتِ، ويقاطعَ الأهلَ والأصحابَ.
والمؤمنُ لا يحركُه الهوى، ولا تقودُه المصلحةُ الذاتيةُ، فتجده إذا بدرت بوادر النزاع بينه وبين إخوانه، يرد النزاع إلى اللهِ ورسولِه، فيقفُ عند حدودِ اللهِ ولو كانت خلافَ مصلحتِه الدنيويةِ. الذي يحرِّكُه هو الشرعُ، والذي يقودُه هو كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
وتجدُ المؤمنَ أيضاً يتنازلُ عن كثيرٍ من حقوقِه من أجلِ تحصيلِ المصلحةِ الأعظمِ التي تتمثل في تآلفِ القلوبِ، وجمعِ الكلمةِ، ووحدةِ الصفِ.
فيعفو عمن أخطأَ في حقِّه، ويُحسنُ إلى من أساءَ إليه، ويدفعُ العداوةَ الشيطانيةِ بالحميميةِ الإيمانيةِ، يطبقُ ما أمره اللهُ سبحانه إذ قال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). ويتمثلُ المؤمنُ أخلاقَ الكبارِ كما تمثلت في سيدِهم نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي جاء في وصفه أنه: "ليسَ بفَظٍّ ولَا غَلِيظٍ، ولَا صَخَّابٍ في الأسْوَاقِ، ولَا يَدْفَعُ بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولَكِنْ يَعْفُو ويَغْفِرُ".
ومن أسباب التنازع -عباد الله-: الخروجُ عن جماعةِ المسلمين، والمشاقةُ لمنهجِهم، واتباعُ غير سبيلِهم. فيشقُّ الصفَّ باتباعِ مناهجَ مخالفةٍ، وانتحالِ أفكارٍ باطلةٍ، وابتداعِ بدعٍ ضالةٍ محدثةٍ لم يعرفْها أهلُ الرعيلِ الأولِ الذين نزل عليهم الوحي. قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا متوعدا: (عليكُم بالجماعَةِ، وإيَّاكُم والفُرقةُ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وهوَ معَ الاثنينِ أبعَدُ، مَن أرادَ بَحبوحةَ الجنَّةِ فلَيلزمُ الجماعةَ).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: " الَّذينَ كانوا على ما كان عليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه همُ الجَماعةُ الَّذينَ اجتَمَعوا على شَريعَتِه، وهمُ الَّذينَ امتَثلوا ما وصَّى اللَّهُ به: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)؛ فهم لم يَتَفَرَّقوا، بَل كانوا جَماعةً واحِدةً".
فالاجتماعُ والتآلفُ بين المؤمنين إنما يكون بالتمسكِ بحبلِ الله وشريعتِه، والفُرقةُ كلُّ الفرقةِ تكون بالتخلي عن حبلِ اللهِ والتمسك بحبالٍ تضادُّ شريعتَه ووحيَه. قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد:
معاشر المسلمين
عباد الله
لقد قعدتْ شياطينُ الجنِّ والإنسِ بأطرقِنا، تبثُّ أسبابَ التنازعِ، وتوقعُنا في حبائلِ الفُرقةِ، تبتغي بذلك إحكامَ الوهنِ والضعفِ في أمتِنا وأسرِنا وأفرادِنا.
شيطانُ الجنِّ أخبرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أنه لن ييأسَ من التحريشِ بين المصلين، وشياطينُ الإنسِ عرَفْنا قاعدتَهم التي تمكنوا بها على بلدانِ المسلمينِ، قاعدةُ "فَرِّق تَسُدْ".
فالحذرَ الحذرَ من اتباعِ سبلِهم، والانجرارِ خلفَ أباطيلِهم، والإنصاتِ لهم هنا وهناك.
لتتسعْ صدورُكم، ولتهدأْ نفوسُكم، ولتَطِبْ كلماتُكم. امتثلُوا ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقوله لأصحابِه قبل الصلاة: (لا تختلِفوا، فتختلِفَ قلوبُكُم) (سَوُّوا صُفوفَكم، ولِينوا في أيدي إخْوانِكم، وسُدُّوا الخَللَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَدخُلُ فيما بيْنَكم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا..
اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
المرفقات
1732790366_ولا تنازعوا فتفشلوا.docx
1732790366_ولا تنازعوا فتفشلوا.pdf