وَقْفِي وصَدَقَتي: قناة بركات جارية بعد موتي
الأستاذ الدكتور عدنان خطاطبة
وَقْفِي وصَدَقَتي: قناة بركات جارية بعد موتي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الرحمن:
الله اسمه الرحمن واسمه الرحيم. الله اسمه الحكيم واسمه الخبير. الله واسع الرحمة. واسع الفضل. واسع الإحسان. فكل ما يشرعه لعباده وكل ما يهدي عباده إليه، وكل ما يدل عباده عليه، فيه الرحمة والحكمة والصواب والإحسان لعباده المطيعين له، الآخذين بتشريعاته وهداه.
ومن عظيم فضل الله على عباده المؤمنين. أنه دلّهم على هدي، وشرَع لهم من الخير ما لا يوجد في أي دين آخر ولا فلسفة ولا مذهب. وما لا يستطيع أحد في الوجود أن يعطيك إياه إلا الله الكريم. فقد شرع للمؤمنين به شرعا عجيبا. إذ دلهم على طريق إذا هم سلكوها يعيش المؤمن في الدنيا أضعاف عمره. ويعمل فيها المؤمن أضعاف أضعاف عمله. فما هو ذالك الشرع؟ وما هي تلك الطريق؟ وما هي هذه الهداية والعطية الربانية؟ إنه الوقف يا عباد الله. إنها الصدقة الجارية يا عباد الله. إنها قناة البركات والخيرات التي لا تتوقف بعد موتك. إنها عين جارية بالأجر وخصبة بالحسنات سواء أكنت جالسا في بيتك أو راقدا في قبرك.
عباد الله: لنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبشّر أمّته بالخير ويدلّهم على أمر عجيب لو تفطّن له الناس. ففي الحديث الحسن في سنن ابن ماجة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا نَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ).
نعم، يا أيها المؤمن، من العمل الصالح الذي يكون وقفا لك، وأجره مستمر لك، وحسناته متدفقة عليك، هو العلم النافع الذي تنشره في الناس، وتعلمه للمسلمين، هو الكتاب الذي تؤلفه وتتركه من بعد موتك في مكتبات المسلمين ينتفعون منه، وهو الكتاب الذي تجعله وقفا في مسجد أو مكتبة أو مؤسسة.هو المصحف الذي تركته لمن خلفك يقرأون به، هو القرآن الذي علمته للناس.
نعم أيها المؤمن، من العمل الصالح الدائم بركاته عليك بعد موتك، ولدك الذي ربيّته، ابنك الصالح، ابنتك الصالحة، هؤلاء نعمة سابغة، يدوم عطاؤها لك حتى بعد موتك، فتنتفع بهم نفعا كبيرا.
نعم، أيها المؤمن، من العمل الصالح الذي يبقى عطاؤه لك، قناة جارية تملأ سجلاتك بالحسنات، ذلك المسجد الذي قمت بأعماره، أو ساهمت بشيء في بنائه، هو تلك المدرسة او المعهد الديني او الجمعية الخيرية أو دور القرآن التي ساعدت في إقامتها وقدمت شيئا من مالك في عمارتها وتشغيلها. هو تلك الصدقة المائية الجارية التي جعلتها للناس في سبيل الله، يشربون منها، سواء حفرتها في الأرض، أو وضعتها فوق الأرض، او في الطريق، أو في المسجد، أو في مؤسسة أيتام. روى الطبراني، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أتى النبي رجل فقال: ما عملٌ إن عملت به دخلت الجنة؟ قال: (أنت ببلد يجلب به الماء؟)، قال: نعم، قال: (فاشتر سقاء جديدا، ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنك لن تخرقها حتى تبلغ بها الجنة).
نعم، يا أيها المؤمن، من الوقف والبركات الدائم أجرها بعد موتك، هو كل صدقة تنفقها من مالك ينتفع بها الناس من بعدك. فإن الله لا يضيع أجرك، بل يديمه ما دام النفع والأثر باق من وراء جهدك في حياتك.
عباد الله: وفي مزيد من التفصيل والتنويع بضرب الأمثلة على الصدقة الجارية والوقف الدائم البركة، يقول رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الحسن: (سَبْعَةٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ). ومعنى كَرى نهرا: أي: حفره.
تأمل معي، يا عبدالله، حتى الشجرة التي تزرعها، وينتفع الناس بها، وتبقى بعد موتك، يستمر أثرها الطيب ياتيك رغدا إلى قبرك، من الحسنات والجر الجميل. فالله، الله، في فقه هذا الدين، والعمل بما دله علينا الحبيب صلى الله عليه وسلم. فمن لا يستطيه بناء مسجد او مدرسة، فعليه بزراعة الأشجار، تكن له صدقة جارية بعد موته، مادام ظلها ونفعها. ففي الصحيح.( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ). (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةً، وَلاَ يَرْزَؤُهُ(أَيْ يَنْقُصهُ وَيَأْخُذ مِنْهُ) أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ). (إِلا كَانَ لَهُ صَدَقَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة). قال النووي: "فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث فَضِيلَة الْغَرْس، وَفَضِيلَة الزَّرْع، وَأَنَّ أَجْر فَاعِلِي ذَلِكَ مُسْتَمِرّ مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَيْضًا أَنَّ الثَّوَاب وَالْأَجْر فِي الْآخِرَة مُخْتَصّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَان يُثَاب عَلَى مَا سُرِقَ مِنْ مَاله أَوْ أَتْلَفَتْهُ دَابَّة أَوْ طَائِر وَنَحْوهمَا".
يا عباد الله. الوقف والصدقة الجارية معناه على أرض الواقع أنك عشت مئات السنين، معناه أنك عملت صالحا لعشرات السنين. معناه: أنك قمت بتكرار العمل الصالح مرات ومرات، ولفترات كثيرة، معناه: أن قمت بعشرات بل بمئات الأعمال الصالحات.
يا عباد الله. الوقف والصدقة الجارية معناه على أرض الواقع تكاثر الأجر وتوالد الحسنات واستمرارية الانتفاع بعملك هذا. مع توقفك عن العمل نفسه. مع مغادرتك للأرض.
قال بعض أهل العلم: الوقف شرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفاً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
أيها المؤمنون والمؤمنات. لنقف من نماذج من تلك القنوات التي لا تتوقف بركاتها.
لقد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة الوقف وعظم الصدقات الجارية فعملوا على وقف جزءٍ من أموالهم، وحبس أشياء من دورهم وعقارهم.
فها هو أبو بكر رضي الله عنه يوقف رباعاً له(دار أو محلة) في مكة على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وذوي الرحم القريب والبعيد.
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقف وقفا حبيبا للنفس. فكما في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنْ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ، وَفِي القُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ. وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا" أي جامع له.
عباد الله: ولعظم هذا الحديث وما فيه من فوائد جمّة، أنقل لكم كلام الأئمة الكبار في شرح هذا الحديث وإيراد فوائده، فمن ذلك: قال النووي: "أَمَّا قَوْلُهُ هُوَ أَنْفَسُ فَمَعْنَاهُ أَجْوَدُ وَالنَّفِيسُ الْجَيِّدُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَوَائِبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَاتِ. وَفِيهِ أَنَّ الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما يتبع فيه شرط الواقف. وفيه صحة شروط الواقف. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْوَقْفِ وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِب.ُّ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِيهِ مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ فِي الْأُمُورِ وَطُرُقِ الْخَيْرِ". وقال ابن حجر في فوائد قصة عمر هذه في الوقف والصدقة الجارية: "وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مِنْ خَصَائِصِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَيْ وَقْفَ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارِ قَالَ وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَحَقِيقَةُ الْوَقْفِ شَرْعًا وُرُودُ صِيغَةٍ تَقْطَعُ تَصَرُّفَ الْوَاقِفِ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَتُثْبِتُ صَرْفَ مَنْفَعَتِهِ فِي جِهَةِ خَيْر.ٍ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ الْوَاقِفَ يَلِي النَّظَرَ عَلَى وَقْفِهِ إِذَا لَمْ يُسْنِدْهُ لِغَيْرِهِ. وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ فِي طُرُقِ الْخَيْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً وَأَنَّ الْمُشِيرَ يُشِيرُ بِأَحْسَنَ مَا يَظْهَرُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ لِرَغْبَتِهِ فِي امْتِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وَفِيهِ فَضْلُ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَصِحَّةُ شُرُوطِ. وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا لَهُ أَصْلٌ يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا لَا يَدُومُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالطَّعَام.ِ وَفِيهِ أَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ عُمَرَ شَرَطَ لِمَنْ وَلِيَ وَقْفَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ إِنْ كَانَ هُوَ النَّاظِرَ أَوْ غَيْرُهُ فَدَلَّ عَنْ صِحَّةِ الشَّرْطِ".
عباد الله:
ومن نماذج الوقف، وقصص الصدقات الجارية التي وقعت من بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء في الصحيح قمن حديث أنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {(َنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَخٍ (مَعْنَاهُ تَعْظِيم الْأَمْر وَتَفْخِيمه) ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ)، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ". وفيه دليل على أَنَّ الصَّدَقَة عَلَى الْأَقَارِب أَفْضَل مِنْ الْأَجَانِب إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ. وقال ابن حجر في فوائد قصة الوقف هذه: "وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ مِنَ الْأَقَارِبِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَفِيهِ جَوَازُ إِضَافَةِ حُبِّ الْمَالِ إِلَى الرَّجُلِ الْفَاضِلِ الْعَالِمِ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ اتِّخَاذُ الْحَوَائِطِ وَالْبَسَاتِينِ وَدُخُولُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ فِيهَا وَالِاسْتِظْلَالُ بِظِلِّهَا وَالْأَكْلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَالرَّاحَةُ وَالتَّنَزُّهُ فِيهَا وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ إِذَا قَصَدَ بِهِ إِجْمَامَ النَّفْسِ مِنْ تَعَبِ الْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطِهَا لِلطَّاعَةِ. وَفِيهِ كَسْبُ الْعَقَارِ وَإِبَاحَةُ الشُّرْبِ مِنْ دَارِ الصَّدِيقِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا إِذَا عَلِمَ طِيبَ نَفْسِهِ. وَفِيهِ إِبَاحَةُ اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ. وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْغَنِيِّ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِذَا حَصَلَ لَهُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ وَالْوَقْفِ . الْآيَةَ تَضَمَّنَتِ الْحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَحْبُوبِ فَتَرَقَّى هُوَ إِلَى إِنْفَاقِ أَحَبِّ الْمَحْبُوبِ فَصَوَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْيَهُ وَشَكَرَ عَنْ رَبِّهِ فِعْلَهُ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهَا أَهْلَهُ وَكَنَّى عَنْ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَخْ".
يقول جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلاّ وَقف. وقال الشافعي رحمه الله: وأكثر دور مكة وقف.
أيها المسلمون:
حضارتنا الإسلامية زاخرة بآلاف الأمثلة على الوقف. ولكنه قلّ في عصرنا. وخذ نموجا واحدا من تاريخ أمتك الإسلامية العلظيمة، فقد كان "للمسلمين في أيام الدولة العثمانية أوقافاً عظيمة ومتعددة، كان هناك وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن إلى سن الزواج. وكان هناك أوقاف تقوم بصرف مرتبات للعائلات الفقيرة غير الأكل، لأن الأكل المجاني كانت له أوقاف خيالية مثل وقف المطاعم الخيرية، أحدها كان يقدم أكلاً مجانياً لعدد يبلغ عشرين ألف شخص يومياً مجاناً، وكان مثل هذا في كل الولايات التابعة للدولة العثمانية. كان المطعم الخيري في جامع السليمانية تبلغ ميزانيته ما يعادل عشرة ملايين دولار تقريباً".
أقول قولي هذا واستغفر الله
الخطبة الثانية:
أخي المؤمن أختي المؤمنة:
يخطئ بعضنا الفهم حينما يحصر الوقف أو الصدقة الجارية ببناء المساجد فقط. بل تتسع لشتمل على كل وجوه البر والخير وخدمة الدعوة ونشر كلمة الإسلام. من مساهمة في بناء مراكز تحفيظ القرآن الكريم وتعليم السنة النبوية، ومن دعم دور أيتام والفقراء، وبناء الأمكنة السكنية للمسنين والمحتاجين. ومن وقف الكتب والكتيبات وشرائها وتوزيعها وتأليفها. ومن نشر المصاحف في مشارق الأرض ومغاربها.ومن وقف كل وسائل دعم الإسلام من مواقع انترنت وفضائيات، وفي كل تكنولوجيا حديثة تتخذ وسيلة لخدمة المة بالخير.
أخي المؤمن أختي المؤمنة:
بادر بعمل وقف خاص لك صغر أم كبر. قلّ أك كثر. مالا كان أو مادة. فربك كريم سبحانه. ولا تنس أقاربك وأحبابك الأموات. فخص والديك. وخص زوجتك أو خصّي زوجك، وخصوا أولادكم وأحبابكم بالصدقات الجارية. ومن أحسن لعباد الله، أحسن الله إليه. والله يبارك ويضاعف.
أخي المؤمن أختي المؤمنة:
اعمل لنفسك بنفسك. وانقذ نفسك بنفسك. فلن تجد أحدا حريصا على الخير لك مثلك أنت. لا تتكل على من بعدك، لا تقل سوف يفعلون ويعملون لي بعد موتي. فمواقف الناس بعد موتك لا يعلم بها أحد إلا الله. وغالبا ما تكون مواقف على استحياء ولا تطول، وخاصة في زماننا هذا، إلا من رحم ربك.
أخي المؤمن أختي المؤمنة:
أخي المؤمن أختي المؤمنة.اعمل لنفسك وقفا، اجعل لنفسك صدقة جارية ولو بكتاب رياض الصالحين، ولو بشوال من الاسمنت تضعه في بناء لله تعالى. ولو توقف مخزنا أو شقة أو مزرعة أو باصا. فبعض المسلمين مقتدر وعنده الكثير. فكن ذكيا وانفع نفسك. قبل هلاك نفسك.
أيها الإنسان:
سترحل ويبقى مالك. وسترحل ويذهب مالك. فماذا أنت فاعل: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ)(الأنعام:94)، وفي الحديث الصحيح يقول ابن آدم: (مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه للناس).
عباد الله:
تذكروا ثم تذكروا ثم تأملوا معي حديث أبي هريرة كما في صحيح مسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ). فهنيئا لمن اعتبر، فاجرى الخير قبل أن يرحل، وأوقف قبل أن يقبض، وتصدق قبل أن يفنى.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.
المرفقات
1647092918_وقفي وصدقتي قناة بركاتي جارية بعد موتي.docx