«لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»         5 /2 / 1446هـ

د عبدالعزيز التويجري
1446/02/04 - 2024/08/08 15:00PM

الخطبة الأولى : «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»              5/2/1446ه

الحمد لله على ما أولى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، لا إله إلا هو العلي الأعلى، وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.  أما بعد:

قال أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ t: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ r فِي المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r: «قَدْ أَجَبْتُكَ». فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ» فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّr: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قال: وعَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال نعم ، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ ،ثم قال وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ». أخرجه البخاري ومسلم.

لا أحد أعلى من النبي صلى الله عليه وسلم نسبًا ولا حسبًا ، ولا أرفع منه جاهًا ومنصبا، ولا أحد أكرم منه خُلقًا وعلما .. ومع هذا إذا جلس مع أصحابه لا يُعرف أيهم هو ، ليس عليه لباس يُشهِره أو حُجّابُ على بابه .. لايغضب إذا نودي باسمه ولم يلقب بألقاب ترفعه ، بل رد على من بجّله وقال له أنت سيدنا واعظمنا طولا ، قال قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ..

النفوس الكبار لا تحتاج إلى مسميات تُعَرِفُها ، أو ألقابُ تَرْفعُها .. لا يضرها مظاهرها إذا ارتفعت قيمتُها الدينيةِ والخُلقية ، ولاينخفض معدلها في ميزان السماء إذا لم يُبرقها لمعان الإعلام، أو تُشهرها وسائل اتصال ..

مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ لَهُ.

فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ هَذَا" أخرجه الْبُخَارِيُّ.

علو النفس وقيمتها حينما تسموا عن الترهات، سموُ تأنف معه النفس أن تلج موارد الصخب والاختلاط ، من أجل مشرب أو منظر ، قيمة النفس تأبى أن تهُينها بملاحقة متابعةِ فريقٍ تغضب لخسارته، أو تهجر وتطلق لهزيمته ، أو تؤخر الصلاة من أجله ،  قيمةُ النفسِ تترفع أن تُذلها من أجل لعاعة من الدنيا ، أو تطُلعٍ لما في أيدِ الآخرين.

      لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْحَيَاةِ بِذِلَّةٍ   ***     بَلْ اسْقِنِي بِالْعِزِّ كَأْسَ الْحَنْظَلِ

 السمو حيما تتعلق بنور السماء، وترتدي طهر الحياء ..

عزة النفس حين تكرمها بالترفع عن مقاطع سخافات المهرجين ، ويوميات الفارغين ..

    أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ  **  وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا

وثاني محاور حوار ضمام الأزدي ..

قالَ ضِمامُ لِلنَّبِيِّ r : إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ» ..

دورةٌ عمليةٌ تطبيقيةٌ مثالية في تنزيل الناسِ منازلهم، واحتواء طبائعهم، وخفضِ الجناح لسائلهم، فلم يتجاهل المربي العظيم والمعلم الكبير عليه الصلاة والسلام سؤال ضمام لأنه أغلظ في سؤاله ولم يلقبه بمنصبه ومقامه .

الدورات التدريبية في التعامل، والكلام المنمق والتشدق في المقال لغوٌ إذا لم يجسد في الحياة  «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».

ولاخير في منصب أو شهادةٍ أو مال أو جاهٍ يورث صاحبه الترفع عن الناس ..

 واحلمْ وإنْ سفهَ الجليسُ، وقلْ لهُ    **    حُسْنَ المَقَالِ إذَا أتَاكَ بِهجْرِهِ

  وَأحَبُّ إخْوَانـي إليّ أبَشَّهُـــــم        **      بصديقهِ في سرهِ أو جهرهِ

  لا خيرَ في برِّ الفتى ما لمْ يكنْ       **    أصفى مشارب بِرهِ في بِشْرهِ

والأقربون أكرمُ من تعامل بحُسنٍ وإن جفوا

    إِذَا أَكَلُوا لَحْمِي وَفرْتُ لُحُوْمَهُمْ    **   وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا

    لَهُمْ جُلَّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِي غِنًى   **   وَإِنْ قَلَّ مَالِي لَا أُكَلِّفُهُم رَفْدَا

الأخلاق الكبار وسماحة النفس ومعرفة قيمتها لَا تَأْتِي فَجْأَةً، وَلَا تُدْرَكُ جُمْلَةً، بَلْ هِيَ أَخْلَاقِيَّاتٌ وَتَرْبِيَةٌ تُبْذَرُ فِي النفوس، حَتَّى تشب معها وتتطبع بها . قال النبي r لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: " إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ " أخرجه مسلم.

أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه إن ربي رحيم ودود

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: .. الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.  أَمَّا بَعْدُ:

مسك الختام  في قول ضِمَامُ : «آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي" أصبح ضمام داعية وموجه مربي من دورةٍ ومدرسةٍ لم تتجاوز بضعَ دقائق ، تعلم منها خمس أحكام  تحمل مباني الإسلام العظام ..

فخرج وهو يردد : والله لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»

 المسألة ليست طول تعليم وارتقاء في مناصب، أوحمل شهادات واجتياز مقابلات، حتى يكون معلمًا وداعية ومربيا.. السر: «لَئِنْ صَدَقَ»، ما جزاء هذا الصدق ؟ «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»، الصدق في التعليم والتوجيه والدعوه .. لايُعَلِم ويدعوا لينال رتبة، إنما يُعلِم لينال الجنة .

الصدق في أخذ الأحكام والعمل بها كما جائت لاكما تهوى النفس..

صدقُ في إقامة الصلاة «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» صدق في أداء الزكاة  ..طيبة بها النفس "تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ»

صدقٌ في الصيام «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»

صدقٌ في الحج «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»

صدق في الدعاء والالتجاء «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»

صدقٌ في الحديث والأعذار : قال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه في قصته يوم تخلفه عن غزوة تبوك: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا، مَا بَقِيتُ».

صدقٌ في المعاملات والبيوع  «فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا» وعند الترمذي «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ».

الملخص والخاتمة «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»

وفي ختام الدنيا «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ  صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.

اللهم ارزقنا الصدق والاخلاص في أقوالنا وأعمالنا ..

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..

 اللهم آمنا في دورنا واصلح ولاة أمورنا..

المرفقات

1723119615_«لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ».docx

1723119615_«لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ».pdf

المشاهدات 370 | التعليقات 0