قِصَّةُ (عَاشُورَاءَ) حَدِيثِ الْفُتُون 7 مُحَرَّم 1444هـ
محمد بن مبارك الشرافي
الْحَمْدُ للهِ نَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعين ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَتَدَبَّرُوا قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِيهَا عِبَرٌ وَفَوَائِدُ نَافِعَةٌ ، وَتَبْدَأُ الْقِصَّةَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَجُلُسَاءَهُ تَذَاكَرُوا مَا كَانَ اللهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ ؟ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالاً مَعَهُمْ الشفَار، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ، وَالصِّغَارَ يُذْبَحُونَ، قَالُوا: يُوْشِكُ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُوا لِلْأَعْمَالِ التِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَر، وَدَعُوا عَامًا فَلا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا.
فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الذِي لا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَان فَوَلَدَتْهُ عَلانِيَةً آمِنَةً. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحَزَنُ مِمَّا يُرَادُ بِهِ، فَأَوْحَى اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ لا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تُلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، فَفَعَلْتَ وَلَكِنَّ التَّابُوتَ انْفَلَتَ وَذَهَبَ مَعَ الْمَاءِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ عِنْدَ فُرْضَةِ مُسْتَقَى جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ, فَأَخَذْنَ التَّابُوتَ لَهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا يَتَلْأْلأُ وَجْهُهُ كَالْقَمَرِ، فَأَلْقَيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةٌ عَظِيمَةٌ.
فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ، أَقْبَلُوا لِيَذْبَحُوهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ: اتْرُكُوهُ حَتَّى آتَيَ فِرْعَوْنَ فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهُ . فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ : قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكَ، فَأَمَّا لِي فَلا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهاَ، إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا لَبَنٌ لِتَخْتَارَ لَهُ مُرْضِعَةً، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةً مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلَ عَلَى ثَدْيِهَا حَتَّى أَشْفَقَتْ امْرَأَةُ فِرْعَونَ أَنْ يَمُوتَ جُوعًا، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ، فَلَمْ يُقْبِلْ، وَأَصْبَحَتْ أُمِّ مُوسَى وَالِهًا، فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَقَالَتْ : أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، رَجَاءَ مَنْفَعَةِ الْمَلِكْ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ فَجَاءَتْ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا مَصَّ ثَدْيَهَا حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا، وَانْطَلَقُوا لِامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَنْ قَدْ وَجَدْنَا لابْنِكَ مُرْضِعَةً. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا وَقَالَتْ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ فَأَذْهَبُ بِهِ إِلَى بَيْتِي، وَإِلَّا فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي، فَرَضِيَتْ وَرَجَعَتْ أُمِّ مُوسَى بِوَلَدِهَا إِلَى بَيْتِهَا، وَأَنْبَتَهُ اللهُ نَبَاتًا حَسَنًا وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ لَمَّا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمْ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمَا يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ، فَغَضِبَ مُوسَى وَوَكَزَ الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ وَقَالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْأَخْبَارَ، فَبَيْنَمَا الْقِبْطُ يَطُوفُونَ يَبْحَثُونَ عَنِ الْقَاتِلِ وَلا يَجِدُونَ ثَبَتًا، إِذَا بِمُوسَى مِنَ الْغَدِ قَدْ رَأَى ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ رَجُلًا آخَرَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ, فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ، فَغَضِبَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، وَقَالَ مُوسَى لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمَ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى وَهُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ فَخَافَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُ هو، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيُّ, فَخَافَ الإسْرِائيِلِيُّ وَقَالَ: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ! فَسَمِعَ الْقِبْطِيُّ فَانْطَلَقَ إِلَى فِرْعَونَ أَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ، فَأَرْسَلَ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَر طَرِيقًا وسَبَقَهُمْ لِمُوسَى وَأَخْبَرَهُ,
فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ، وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَها وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ حَابِسَتَيْنِ غَنَمَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا مُعْتَزِلَتَيْنِ لا تَسْقِيَان؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قُوَّةً نُزَاحِمُ الْقَوْمَ، إِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ. فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ انْصَرَفَ فَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، وَانْصَرَفَتِ الْفَتَاتَانِ بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا، فَاسْتَنْكَرَ سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا، فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ، فَلَمَّا كَلَّمُهُ قَالَ: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ، فَقَالَ لَهَا : مَا يُدْرِيكُ مَا قُوَّتُهُ وَمَا أَمَانَتَهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتَهُ، فَلِمَا رَأَيْتَ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ, فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةً طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ, ثُمَّ قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّريِقَ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُو أَمِين.
فَقَالَ لَهُ: هَلْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ, وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُدَّةَ، سَارَ بِأَهْلِهِ لَيْلًا فَرَأَى نَارًا, فَقَصَدَهَا فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا وَجَدَهَا تَأَجَّجُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ مِنَ الْعَوْسَجِ، فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا، فَخَاطَبَهُ تَعَالَى قَائِلًا {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، ثُمَّ قَالَ مُؤَانِسًا لَهُ: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى, قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى, قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ, أَيْ: قَدْ صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً لَهَا ضَخَامَةٌ هَائِلَةٌ، فَلَمَّا عَايَنَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يَتَلَفَّتْ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ، فَلَمَّا رَجَعَ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُمْسِكَهَا، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ عَصَا ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِدْخَالِ يَدِهِ فِي جَيْبِهِ ثُمَّ نَزْعِهَا فَإِذَا هِيَ تَتَلَأْلَأُ كَالْقَمَرِ بَيَاضًا مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلا بَهَق. فَشَكَا إِلَى اللهِ تَعَالَى مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْقَتِيلِ وَعَقْدَةِ لُسَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عَقْدَةً تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ، يَكُونُ لَهُ رِدْءًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانَهُ. فَآتَاهُ اللهُ سُؤْلَهُ، وَحَلِّ عُقْدَةٍ مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَأَمْرَهُ أَنْ يَلْقَى مُوسَى وَيَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ ... أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُمُ اقْتَدَى.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ انْطَلَقَا إلى فِرْعَوْنَ فَقَالا: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ, قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَخْبَرَهُ بِالذِي قَصَّ اللهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: فَمَا تُرِيدَان؟ قَالا: نُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَتُرْسِلَ مَعِيَ بَنِى إِسْرَائِيلَ؟ فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ لِمُوسَى: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ, فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى، فَقَالُوا: هَذَانِ سَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، وَقَالُوا: اجْمَعِ السَّحَرَةَ فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا. فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ عَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: فَمَا أَجْرُنَا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي، وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ، فَتَوَاعَدُوا يَوْمَ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرُ النَّاسُ ضُحَى، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاء.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ هَذَا الْأَمْرَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، فَقَالَ السَّحَرَةُ: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، فَرَأَى مُوسَى سِحْرَهُمْ وَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَلَمَّا أَلْقَاهَا صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا وَجَعَلَتِ تَلْتَهِمُ الْعِصِيَّ والْحِبَالَ، حَتَّى مَا أَبْقَتْ عَصًا وَلا حِبْلًا إلا ابْتَلَعَتْهَا، فَقَالَ السَّحَرَةُ: هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، آمَنَّا بِاللهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَتُوبُ إِلَى اللهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ, فَكَسَرَ اللهُ ظَهْرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ، وَظَهَرَ الْحَقُّ، وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ. ثُمَّ أَمَرَ اللهُ مُوسَى بَعْدَ حِينٍ بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فِرَارًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ بِهِمْ لِيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ مَضَوْا، تَبِعَهُمْ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوْحَى اللهُ إِلَى الْبَحْرِ: إِذَا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى يَجُوزَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لِمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، وَأَمَرَهُ اللهُ وَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ حِينَ أَمَرَهُ رَبُّهُ، فَلَمَّا أَنْ جَازَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ، وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، أَمَرَ اللهُ الْبَحْرَ فَعَادَ وَالْتَقَى عَلَيْهِمْ وَأَغْرَقَهُمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَصَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْيَوْمَ شُكْرَاً للهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ، وَجَدَ اليَهُودَ فِيهَا يَصُومُونَ العَاشِرَ مِنْ مُحَرَّمٍ فَسَأَلَهُم عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَأَخْبَرُوه، فَقَالَ (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ)، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟ فَقَالَ (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هَذَا العَامِ هُوَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ, وَالأَفْضَلُ أَنْ تَصُومَ يَومَ الْأَحَدِ لِئَلَّا تُفْرِدَهَ, مَعَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي إِفْرَادِهِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا، اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلمينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعَدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينَ، اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ، وَالحَشْرَ مَعَ الأَتْقِيَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينْ.
المرفقات
1659451173_قِصَّةُ (عَاشُورَاءَ) حَدِيثِ الْفُتُون 7 مُحَرَّم 1444هـ.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق