قصةُ عاشوراء

محمد بن عبدالله التميمي
1445/01/02 - 2023/07/20 11:24AM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله، نحمدُه على نعمائه ونستعينُه على طاعاته، ونستنصرُه على أعدائه، نؤمنُ به حقًا، ونتوكلُ عليه صدقًا، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّكم في ممرِّ الليلِ والنهار؛ في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظَة، والموتُ يأتي بغتة؛ فمَن زرع خيرًا فيُوشِكُ أن يَحصُد رغبةً، ومَن زرع شرًّا فيوشكُ أن يَحصُد ندامةً، ولكلِّ زارعٍ ما زرع؛ لا يسبقُ بطيءٌ بحظِّه، ولا يُدرِك حريصٌ ما لم يُقدَّر له؛ مَن أُعطي خيرًا فالله أعطاهُ، ومَن وُقي شرًّا فالله وقاهُ، ومَن اتقى الله حفظه ورعاه.

عباد الله.. لقد قص الله عز وجلَّ خبرَ موسى عليه السلام مع فرعون في مواضعَ مِن كتابه حتى غَدَتْ هذه القصةُ أعظمَ قصصِ القرآن، وقد لَقِيَ نبيُّ اللهِ موسى عليه السلام صنوفَ الأذى والتشريد، وبطشَ العدوِّ العنيد، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} طغوا وبغوا وعاثوا في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} {وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ* قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فأمر اللهُ جلَّ جلالُه وعلا سلطانُه نبيَّه موسى عليه السلام ومَن معه أنْ يَخرجوا إلى جهة بحرِ القَلْزَم وهو البحر الأحمر {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ *  فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، ذلك أنَّ البحرَ أمامَهم، وفرعونُ وقومُه خلفَهم، فقالوا هذا القول، {قَالَ} موسى عليه السلام لِعظيمِ يقينِه بوعد الله -عز و جل- أنه ناصره {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}، تأملوا رعاكم الله، هذا الماءُ السيَّال جعله الله عز وجلَّ بقدرته كالجبال، وهذه الأرض التي ارتفع عنها الماء، أرضٌ وَحَلٌ زَلَق، جعلها الله يَبَسًا، فيمضون لا يخافون {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} فتَبِعَهم فرعونُ وجنودُه، فلما تكامل خروجُ موسى ومَن معه من البحر، فحصلَت لهم التَنْجية، وكان قد تَكَامَلَ في الطرف الآخر من البحر دخولُ فرعونِ وقومِه، ونبيُّ اللهِ موسى عليه السلام يراهم خلفَهم يريدون اللَّحاقَ بهم، والبحرُ لا زالَ بعدُ ساكنًا غيرَ مضطرب، أمَرَ اللهُ موسى عليه السلام أنْ يَتركَ البحرَ كذلك، وَوَعْدُ اللهِ ناجز وقَدَرُه نافذ {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} فعاد البحرُ كما كان، فغَرِقَ فرعونُ وجنودُ الطُغيان، على مرأى مِن موسى ومَن معه، فكان ذلك أقرَّ لعيونهم وأشفى لصدورهم.

عباد الله.. إنها آيةٌ عظيمة، وعبرةٌ جليلة، في تَنجيةِ الله عزَّ وجلَّ نبيَّه موسى ومَن معه أجمعين، وإغراقِ الآخَرين، وما أعظمَ قدرةَ الله، فهذا البحرُ الذي كان توهَّم المطارَدُون أوَّلَ الأمر أنه حاجزُهم فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} كان لهم فيه فجوةٌ وطريقٌ منه يَعبُرون، وكان لعدوِّ الله فرعونَ وجنودِه هلاكُهم فهم مُغْرَقُونَ، وفرعونُ الذي افتخر بالماء أغرقه الله بالماء. وهذه سنةُ الله في أنْ يُنْجِيَ رُسُلَه وأتباعَهم المؤمنين {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} فالإيمانُ هو سببُ النجاةِ من الشدائد فتمسَّكوا به {كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}.

عبادَ الله.. هذا اليومُ الذي نجَّى اللهُ فيه موسى وقومَه، وأهلك فرعونَ وجنوده هو يوم عاشوراء، يومٌ عظيم صالح، كما وصفه رسول اللهُ ﷺ، صامَه موسى -عليه السلام- شكرًا لله -عزَّ وجل-، وهذا شأن عباد الله في شكر نِعَمِ الله، بعملُهم بطاعة اللَّه، واستعانتهم بِنِعَمِه على محابّه وما يرضاه. قال الله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾، وقال النبيّ ﷺ لما قيل له: أتفعل هذا وقد غَفَرَ اللَّهُ لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟»، فحقيقةُ الشكرِ هو الثناءُ على المنعم، ومحبّتُه، والعملُ بطاعته، لا مجردُ لفظِ الشكرِ باللسان، وتعطيلِ الجوارحِ والجَنان.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله عظيمِ الإحسان، واسعِ الفضلِ والجودِ والامتنان، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الديان، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه القائمُ بِالشُكرِ طاعةً للرحمن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وتَمسكوا بما يُنْجِيْكُم عند الله، ونفسٌ تُنجيها خيرٌ من حسرةٍ تُلفيها، وشرُّ المعذرة حينَ يَحضُرُ الموت، وشرُّ الندامةِ ندامةُ يوم القيامة، وشرُّ الضلالةِ الضلالةُ بعد الهدى، وخيرُ الزادِ التقوى.

عباد الله، لما قدم النبي ﷺ المدينةَ، رأى اليهودَ يصومون يوم عاشوراء، العاشرَ من شهر الله المحرم، فقال: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وكان صيامُه في أول الإسلام على سبيل التحتم والإلزام، فصَامَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ»، وحثَّ النبيُّ ﷺ أصحابَه على صيامه قيامًا بالشكر، وابتغاءً للأجر ومغفرةً للوِزْر، ففي الصحيح أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»، ثم إنَّ النبيَّ ﷺ في آخر حياته عزم أنه إن بَقِيَ إلى عامٍ قابِل لَيَصُومَنَّ التاسع -أي: مع العاشر-، وقد كانت وفاتُه ﷺ قبلَ أن يُدْركَ ذلك، والحكمةُ مخالفةُ اليهود، فهذه الدرجة الأولى في أفضلية الصوم أن يكون صيامٌ للتاسعِ مع العاشر، فإنْ لم يَكُنْ فصيامُ الحادي عشر مع العاشر وتحصُلُ بذلك المخالفة، وليس هناك بأسٌ في الاقتصار على صومِ العاشرِ وحدَه، ومَن صامَ الثلاثةَ الأيام فقد رغَّبَ النبيُّ ﷺ في صيام ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر وأنَّ ذلك بثواب صيامِ الدهر، مع ما لِصومِ شهرِ محرَّمَ مِن الفضيلة، ففي الصحيح أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ».

المرفقات

1689841433_قصة عاشوراء.docx

1689841433_قصة عاشوراء.pdf

المشاهدات 1098 | التعليقات 0