فتنة اللسان

سليمان بن خالد الحربي
1445/07/27 - 2024/02/08 16:33PM

الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جَلَّ وَعلا- فقد قال تَباركَ وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].

إخوتي في الله: قد لا يتصور المرءُ أن هناك علاقةً وثيقةً بين الكلامِ وبين العمل، فمتى صلحَ المنطِق والقول صلحَ العملُ، تأملوا هذه العلاقة في آيةٍ تكشف هذا المعنى وتبينه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].

فتأمل قوله: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، فالأمرُ بالقولِ السديدِ، والنتيجةُ صلاحُ العملِ، فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فجعل صلاحَ العمل متوقفًا على سَداد القول.

قال النسفي في تفسيره: (والمعنى راقبوا اللهَ فى حفظ ألسنتِكم وتسديدِ قولكم، فإنكم إنْ فعلتُم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبُّل حسناتِكم والإِثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتِكم وتكفيرها)([1]).

 كم هي نتيجة عظيمة حينما تحافظ على لسانك، فلا يقول إلا خيرًا سديدًا، ثم ينتج عنه صلاحُ العمل، والتوفيق في قبوله، وهذا معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة  -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»([2]).

وهذا المعنى وهو أن صلاح العمل مشروطٌ بصلاح القول والسداد فيه متوافرٌ عند السلف، قال يونس بنُ عُبَيْدٍ: «ما رأيتُ أحدًا لسانُه منه على بَالٍ إلا رأيتُ ذلك صَلاحًا في سائرِ عملِه»([3]).

 وقال يحيى بن أبي كثير: «ما صلحَ منطقُ رجلٌ إلَّا عرفتُ ذلك في سائرِ عملِه، ولا فسدَ منطقُ رجلٌ قطُّ إلَّا عرفتُ ذلك في سائرِ عملِه»([4]).

 وقال المبارك بن فَضَالةَ، عن يونسَ بن عُبيدٍ: «لا تجدُ شيئًا مِنَ البرِّ واحدًا يتَّبعه البِرُّ كلُّه غيرَ اللسان، فإنَّك تَجِدُ الرجل يصومُ النهار، ويُفطر على حرام، ويقومُ الليل ويشهد بالزور بالنهار -وذكرَ أشياءَ نحو هذا- ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحقٍّ فَيُخالف ذلك عمله أبدًا»([5]).

 وقال الحسن: «اللسانُ أميرُ البدَنِ، فإذا جَنى على الأعضاءِ شيئًا جَنَتْ، وإذا عَفَّ عَفَّتْ»([6]).

 هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان أو ضبطَه بصلاح القول هو أصلُ الخيرِ كُلِّه، وأنَّ من ملكَ لسانَه، فقد ملكَ أمره وأحكمَه وأصلحَ عمله.

وقد جاء هذا صريحًا في مسند الإمام أحمد من حديث أنس، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»([7]).

بل تأملوا ما جاء في جامع الترمذي عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ مرفوعًا وموقوفًا: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فإنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فإنَّما نَحْنُ بِكَ، فإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»([8]).

فتأمل قوله: «الأعضاء كلها»، شمولٌ لجميعِ الأعضاء، «تكفر اللسان» أي: تذلُّ وتخضعُ له من قولهم كفر اليهودي إذا خَضَعَ وطأطأَ رأسَه وانحنى لتعظيم صاحبه.

قال ابنُ بُرَيْدَةَ: «رأيتُ ابنَ عبَّاسٍ آخِذًا بلسانِه وهو يقول: وَيْحَكَ، قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، أَوِ اسْكُتْ عَنْ سُوءٍ تَسْلم، وَإِلَّا فَاعْلم أنَّكَ سَتَنْدَمُ، قال: فقِيلَ له: يا ابنَ عبَّاسٍ، لم تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ -أُرَاهُ قَالَ- لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَشَدُّ حَنَقًا أَوْ غَيْظًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِهِ خَيْرًا، أَوْ أَمْلَى بِهِ خَيْرًا»([9]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

أيها المسلمون: إن فتنةَ القول داءٌ قاتلٌ مميتٌ، فكيف إذا كان المرء غارقًا في القول وإكثار التنظير، والذي يكون على حساب صلاح العمل، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح ابن حبان: «إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي الثَّرْثَارُونَ المتَفَيْهِقُونَ المتَشَدِّقُونَ»([10]).

ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ …»([11]) الحديث.

ومعنى قيل وقال: هو التوسُّع بالكلام وكثرته، ومن صفاته -صلى الله عليه وسلم- أنه يتكلم بما يحصلُ به البلاغُ.

 وجاء في الصحيحين في وصفه أنه: لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ([12])، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ قَصْدًا([13])، كما في صحيح مسلم.

 فبينما المتكلم منشغلٌ بحديثِه وجدالِه المبني على الظنون وعلى الهوى، إذا هو قد حُجِبَ عن العمل الصالح وقبوله ومغفرة الذنوب، قال الحَسَنُ البَصْرِيُّ واصفًا لهم: «هؤلاء قومٌ مَلُّوا العِبادَةَ، وخَفَّ عليهمُ القَوْلُ، وقَلَّ وَرَعُهُمْ فَتَكَلموا»([14]).

إن واقعَنا المعاصرَ امتلأَ بالحديثِ الباطلِ، فمرةً لمازًا ومرةً همازًا، ومرةً مُفتيًا بالباطل ومرةً مُفسِدًا بين الناس، ماشيًا بالفسادِ بين الإخوةِ والأقاربِ، أو بين الأمَّةِ وعلمائِها، أترى هذا يُصْلِحُ اللهُ له العملَ ويقبلُه منه، وينالُ مغفرةَ الذنوبِ، لا يجتمعانِ.

ومن المفارقاتِ العجيبة أن السلفَ كانوا يخافون من فتنةِ القول أكثرَ مما يخافون من فتنة الصمت والسكوت، بينما واقعُنا ليس فقط يعكسُها بل أحيانًا يعلم أن السكوتَ أنفعُ وأسلم، ولكنه لا يقدر على ذلك وكأنه يُؤَزُّ أَزًّا على القول غير السديد.

فدعوةٌ إلى ترشيدِ القول والكلام بما ينفع، جاء عند ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «البَيَانُ مِنَ اللهِ، والْعِيُّ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ الْبَيَانُ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّ الْبَيَانَ الْفَصْلُ فِي الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْعِيُّ قِلَّةَ الْكَلَامِ، وَلَكِنْ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ»([15]).



([1]) تفسير النسفي (3/317).
([2]) أخرجه البخاري (5/2240، رقم 5672)، ومسلم (1/68، رقم 47).
([3]) جامع العلوم والحكم (1/275).
([4]) حلية الأولياء (3/68).
([5]) صفوة الصفوة (2/180).
([6]) جامع العلوم والحكم (1/275).
([7]) أخرجه أحمد (3/198، رقم 13071).
([8]) أخرجه الترمذي (4/605، رقم 2407).
([9]) جامع العلوم والحكم (1/275).
([10]) أخرجه ابن حبان (2/231، رقم 482).
([11]) أخرجه البخاري (2/537، رقم 1407).
([12]) أخرجه البخاري (3/1307، رقم 3374)، ومسلم (4/2298، رقم 2493).
([13]) أخرجه مسلم (2/591، رقم 866).
([14]) حديث أبي الفضل الزهري (2/16، رقم 515).
([15]) أخرجه ابن حبان (13/113، رقم 5796).

المرفقات

1707399231_فتنة اللسان.docx

المشاهدات 896 | التعليقات 0