ضبط الإنفاق في سبيل الله تعالى، بمناسبة تعميم الوزارة

ضَبْطُ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى
24/5/1434

الحَمْدُ للهِ الجَوَادِ الكَرِيمِ، البَرِّ الرَّحِيمِ؛ جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِبِرِّهِ، وَبَرَّهُمْ بِجُودِهِ وَكَرَمِهِ، فَسَقَاهُمْ وَأَطْعَمَهُمْ، وَكَسَاهُمْ وَحَمَلَهُمْ، وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَاهُمْ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، فَالخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالرِّزْقُ رِزْقُهُ، وَالمَالُ مَالُهُ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْهُ الجَدُّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ عِبَادَهُ بِالإِنْفَاقِ، وَوَعَدَهُمْ بِالأَجْرِ وَالخَلَفِ، فَأَعْطَى مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطَى مُمْسِكًا تَلَفًا؛ [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] {سبأ:39}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ، وَأَعْطَى أَوْدِيةَ الإِبِلِ وَالغَنَمِ، وَحَثَا المَالَ حَثْوًا، وَلَمْ يَعُدّهُ عَدًّا، فَكَانَ يَمْلَأُ ثَيَابِهَمْ بِالمَالِ، وَتَزَاحَمُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُعْطِي حَتَّى اضْطَرُّوهُ لِسمُرَةٍ فَخُطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلاَ كَذُوبًا، وَلاَ جَبَانًا»، وجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ"، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ تَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِهِ، وَاقْتَدُوا بِهِ فِي إِنْفَاقِهِ، فَعَلَى يَدَيْهِ تَرَبَّوْا، وَمِنْ مَعِينِ وَحْيِهِ تَلَقَّوْا، فَكَانُوا لِينَ القُلُوبِ، أَسْخِيَاءَ النُّفُوسِ، يَجُودُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ فِي أَعْمَالِكُمْ، وَجُودُوا لَهُ بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ؛ فَإِنَّهُ يُدَّخَرُ لَكُمْ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْكُمْ؛ [وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] {البقرة:272}.
أَيُّهَا النَّاسُ: مَا انْتَفَعَ عَبْدٌ بِمَالٍ أَكْثَرَ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِمَالٍ قَدَّمَهُ للهِ تَعَالَى، مُخْلِصًا فِيمَا قَدَّمَ، مُوَافِقًا ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً فِيمَنْ قُدِّمَ لَهُ، فَذَاكَ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، وَأَمَّا مَا يُبْقِيهِ وَيُنَمِّيهِ فَلِوَارِثِهِ وَلاَ يَبْقَى لَهُ مِنْهٌ شَيْءٌ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَأَوْجُهُ الإِنْفَاقِ كَثِيرَةٌ، وَمَجَالاَتُ الخَيْرِ عَدِيدَةٌ، وَلَوْ قِيلِ: إِنَّهُ لَا حَصْرَ لِمَجَالاَتِ الإِنْفَاقِ كَمَا أَنَّهُ لَا حَصْرَ لِوُجُوهِ الخَيْرِ لَكَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا؛ وَلِذَا يَتَفَاضَلُ الإِنْفَاقُ بِتَفَاضُلِ مَحَلِّهِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ، فَلَيْسَ إِنْقَاذُ مَعْصُومٍ مِنْ مَوْتِهِ جُوعًا كَتَسْدِيدِ دَيْنِ مُعْسِرٍ، وَلَيْسَ الإِنْفَاقُ عَلَى رَفْعِ رَايَةِ الإِسْلاَمِ، وَإِزَالَةِ حُكْمِ الطَّاغُوتِ كَالإِنْفَاقِ عَلَى مَا دُونَهُ.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُدْرِكَ تَفَاوُتَ الإِنْفَاقِ فَلْيَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَرُبَّمَا أَنْفَقَ أَحْدُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهِ، وَأَضْعَافِهِ وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ لِوَقْتٍ كَوَقْتِ أَبِي بَكْرٍ، لَقَدْ مَوَّلَ أَبُو بَكْرٍ هِجْرَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - بِبَعِيرَيْنِ مُجَهَّزَيْنِ وَدَلِيلٍ، فَكَانَ هَذَا الإِنْفَاقُ أَعْظَمَ إِنْفَاقٍ فِي الإِسْلاَمِ؛ لِأَنَّ الهِجْرَةَ تَمَّتْ بِهِ، وَبُنِيَتْ دَوْلَةُ الإِسْلاَمِ، وَشُرِعَ الجِهَادُ، فَكَانَتِ الهِجْرَةُ سَبَبَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَى الهِجْرَةِ أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ، فَمَنْ يُدْرِكُ فَضْلَهُ، بَلْهَ يَسْبِقُهُ.
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الجِهَادَ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ أَثَرِهِ فِي عِزَّةِ الأُمَّةِ، وَانْتِشَارِ الإِسْلاَمِ، وَإِذْلاَلِ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَرَفْعِ الظُّلْمِ، وَبَسْطِ العَدْلِ، وَنَشْرِ الحَقِّ. وَالنَّفَقَةُ عَلَى أَفْضَلِ الأَعْمَالِ هِيَ أَفْضَلُ النَّفَقَاتِ فِي الجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ العَمَلِ تَأْتِي عَلَى الإِنْفَاقِ فِيهِ بِالفَضْلِ.
وَالمُلاَحَظُ فِي آيِ القُرْآنِ الكَرِيمِ الإِشَادَةُ بِإِنْفَاقِ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الجِهَادِ، بَلْ قُدِّمَ الجِهَادُ بِالمَالِ عَلَى الجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَسْعِ آيَاتٍ، مُقَابِلَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ قُدِّمَ فِيهَا الجِهَادُ بِالنَّفْسِ عَلَى الجِهَادِ بِالمَالِ، وَقَدْ تَنَوَّعَ الأُسْلُوبُ القُرْآنِيُّ فِي عَرْضِ تَقْدِيمِ الجِهَادِ بِالمَالِ عَلَى الجِهَادِ بِالنَّفْسِ؛ فَتَارَةً يِأْتِي بِالأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ: [انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيل اللهِ] {التوبة:41}، وَتَارَةً يَأْتِي فِي سِيَاقِ بَيَانِ فَضْلِ المُجَاهِدِينَ: /font][font=traditional arabic]فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً[/font][font=traditional arabic {النساء:95}، وَتَارَةً فِي ذَمِّ القَاعِدِينَ: [فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللهِ] {التوبة:81}.
وَسَبَبُ تَقْدِيمِ الجِهَادِ بِالمَالِ عَلَى الجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي هَذِهِ الآيَاتِ مَعَ أَنَّ الجِهَادَ بِالنَّفْسِ أَفْضَلُ مِنَ الجِهَادِ بِالمَالِ فِي الجُمْلَةِ هُوَ أَنَّهُ لَا جِهَادَ بِالنَّفْسِ إِلاَّ وَهُوَ مَقْرُونٌ بِالجِهَادِ بِالمَالِ؛ فَإِنَّ الغَازِي يَحْتَاجُ إِلَى جَهَازٍ، وَالحَرْبُ تَحْتَاجُ إِلَى عَتَادٍ، وَالجُنْدُ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَؤُونَةٍ وَسِلاَحٍ وَطَعَامٍ، فَكَانَ المَالُ سَابِقًا فِي المَعْرَكَةِ وَالتَّجْهِيزِ لَهَا؛ وَلِئَلاَّ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الجِهَادِ بِالنَّفْسِ سَقَطَ عَنْهُ الجِهَادُ بِالمَالِ؛ وَلِأَنَّ المَالَ مَحْبُوبٌ لَدَى النُّفُوسِ فَبَذْلُهُ للهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ.
وَكَمَا عَذَرَ اللهُ تَعَالَى مَنْ بِهِ عِلَّةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الجِهَادِ بِالنَّفْسِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَذَرَ أَيْضًا فَاقِدَ المَالِ؛ /font][font=traditional arabic]لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [/font][font=traditional arabic]* [/font][font=traditional arabic]وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[/font][font=traditional arabic {التوبة:92}.
أُولَئِكَ جَمْعٌ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ يُسَمَّوْنَ البَكَّائِينَ، جَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، احْمِلْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: "وَاللهِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فَتَوَلَّوْا وَلَهُمْ بُكَاءٌ، وَعَزَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا عَنِ الجِهَادِ، وَلاَ يَجِدُوا نَفَقَةً وَلاَ مَحْمَلاً، فَلَمَّا رَأَى اللهُ تَعَالَى حِرْصَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ أَنْزَلَ عُذْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ.
وَمِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ إِذَا دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِنْفَاقِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ قَصَدُوا السُّوقَ فَاشْتَغَلُوا حَمَّالِينَ، وَأَنْفَقُوا مَا كَسَبُوا وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً لِتَنْفِيذِ أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا.
وَأَمَّا الأَغْنِيَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ أَنْفَقُوا النَّفَقَاتِ العَظِيمَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى؛ فَأَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ، وَأَنْفَقَ عُمَرُ نِصْفَهُ.
وَجَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ:«مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
قَالَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَازِنَيْنِ مِنْ خُزَّانِ اللهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ يُنْفِقَانِ فِي طَاعَتِهِ، وَكَانَتْ مُعَامَلَتُهُمْ للهِ تَعَالَى بِقُلُوِبِهِمَا.
وَكَانَ النِّسَاءُ يُنَافِسْنَ الرِّجَالَ فِي الإِنْفَاقِ، فَدَعَاهُنَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِلْإِنْفَاقِ فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالخُرْصُ: حِلْيَةُ الأُذُنِ، وَالسِّخَابُ: قِلاَدَةُ الرَّقَبَةِ.
لَقَدْ كَانَ التَّنَافُسُ عَلَى الإِنْفَاقِ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا؛ لِعِلْمِهِمْ بِفَضْلِ الإِنْفَاقِ، وَأَنَّ أَعْلَاهُ مَا كَانَ فِي الجِهَادِ وَالرِّبَاطِ، وَحِمَايَةِ الثُّغُورِ، وَبَثِّ دَعْوَةِ الإِسْلاَمِ، وَحَرِيٌّ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَهُمْ، وَأَنْ يَنْهَجَ نَهْجَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ سَخِيًّا بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الجِهَادَ بِالمَالِ صِنْوُ الجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي آيَاتِ الجِهَادِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15}.
بَارَكَ اللهُ وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...


الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن اهتدى بهداهم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاتَّجِرُوا مَعَهُ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَبْدَانِكُمْ؛ فَإِنَّ التِّجَارَةَ مَعَ اللهِ تَعَالَى رَابِحَةٌ وَمُضَاعَفَةٌ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَثَمَرَاتِهَا بَاقِيَةٌ لَا تَنْتَهِي، فَلَا تُدَانِيهَا تِجَارَةٌ مَعَ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى مَهْمَا كَانَتْ أَرْبَاحُهَا؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {الصَّف:10-13}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَدْ رُزِئَ المُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِأَعْدَاءٍ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلَا ذِمَّةً، يَسْتَبِيحُونَ سَفْكَ دِمَائِهِمْ كَأَنَّهُمْ يُرِيقُونَ مَاءً كَدِرًا، فَلاَ تَتَحَرَّكُ مَشَاعِرُهُمْ، وَلاَ تَتَرَدَّدُ قُلُوبُهُمْ، وَلاَ تُحْجِمُ عَنِ القَتْلِ وَالذَّبْحِ أَيْدِيهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ اليَهُودِ أَمْ مِنَ النَّصَارَى أَمْ مِنَ البُوذِيِّينَ أَمْ مِنَ الهِنْدُوسِ، أَمْ مِنَ الفِرَقِ البَاطِنِيَّةِ الَّتِي تَتَقَرَّبُ لِأَفْكَارِهَا الوَثَنِيَّةِ بِاسْتِبَاحَةِ حَرِيمِ المُسْلِمِينَ وَأَطْفَالِهِمْ قَبْلَ رِجَالِهِمْ، فِي نِظَامٍ دَوْلِيٍّ طَاغُوتِيٍّ آثِمٍ، لَا يَرْفَعُ ظُلْمًا، وَلَا يُقِيمُ عَدْلاً، وَلاَ يَنْصُرُ مَقْهُورًا، وَلاَ يُغِيثُ مَلْهُوفًا، وَلا يُؤْوِي مُشَرَّدًا، وَلاَ يَفُكُّ أَسِيرًا، وَلاَ يُطْعِمُ جَائِعًا، وَلاَ يُؤَمِّنُ خَائِفًا، وَلاَ تُحَرِّكُهُ إِلاَّ مَصَالِحُ القُوَى المُسْتَكْبِرَةِ الَّتِي نَشَرَتِ الكُفْرَ وَالظُّلْمَ فِي أَرْجَاءِ الأَرْضِ.
وَأَكْثَرُ المُشَرَّدِينَ مِنْ جَرَّاءِ الحُرُوبِ الجَائِرَةِ هُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَكْثَرُ اللَّاجِئِينَ فِي الأَرْضِ، وَهُمْ أَكْثَرُ المَنْكُوبِينَ، وَأَكْثَرُ المُعَذَّبِينَ، وَأَكْثَرُ المَأْسُورِينَ، وَدِمَاؤُهُمْ هِيَ أَكْثَرُ الدِّمَاءِ سَفْكًا عَلَى البَسِيطَةِ.
وَكُلَّمَا ازْدَادَتْ أَزَمَاتُ المُسْلِمِينَ ازْدَادَ عَدَدُ المُشَرَّدِينَ وَاللَّاجِئِينَ وَالمَنْكُوبِينَ فَعَظُمَتِ المَسْئُولِيَّةُ عَلَى بَاقِي المُسْلِمِينَ فِي إِغَاثَتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ، وَتَخْفِيفِ مُعَانَاتِهِمْ، وَالوُقُوفِ مَعَهُمْ فِي مُصَابِهِمْ، وَفِي سُورْيَا شِدَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَمَصَائِبُ عَظِيمَةٌ، وَسَفْكٌ لِلدِّمَاءِ غَزِيرٌ أُفْنِيَتْ فِيهِ أُسَرٌ وَعَشَائِرُ، وَهُدِمَتْ بَلْدَاتٌ بِأَكْمَلِهَا، وَدُمِّرَتْ مُدُنٌ، وَشُرِّدَ المَلاَيِينُ عَلَى أَيْدِي أَخْبَثِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى مُعْتَقَدًا وَفِكْرًا؛ فَمُعْتَقَدُهُمْ بَاطِنِيٌّ مُمْتَدٌّ لِلْمَجُوسِيَّةِ، وَفِكْرُهُمْ بَعْثِيٌّ إِلْحَادِيٌّ، فَاجْتَمَعَتْ أَحْقَدُ نِحْلَةٍ فِي أَحَطِّ فِكْرٍ فَكَانَ مِنْ آثَارِهَا مَا نَرَاهُ مِنْ مُصَابِ إِخْوَانِنَا فِي الشَّامِ! فَامْتَدَّتْ أَيْدِي العَوْنِ لَهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، وَضَرَبُوا أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي الإِنْفَاقِ مِمَّا يُذَكِّرُنَا بِعَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ فَمِنَ البَاذِلِينَ مَنْ بَاعَ بَيْتَهُ، أَوْ سَيَّارَتَهُ، وَمِنَ النِّسَاءَ مَنْ تَصَدَّقَتْ بِحُلِيِّهَا، وَمِنْهُنَّ عَرَائِسُ أَنْفَقْنَ مَهُورَهُنَّ، وَلَوْ خُلِّيَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الإِنْفَاقِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَرَأَيْنَا عَجَبًا عُجَابًا مِنْ إِقْبَالِ النَّاسِ عَلَى الخَيْرِ، فَلاَ يَزَالُ الخَيْرُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
بَيْدَ أَنَّ لِلْأَزَمَاتِ تُجَّارُهَا، كَمَا أَنَّ لِلْحُرُوبِ فُجَّارُهَا، وَكَمَا يُشْعِلُ مُصَدِّرُو الأَسْلِحَةِ الحُرُوبَ بَيْنَ الدُّوَلِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَغِلُّ تُجَّارُ الأَزَمَاتِ تَعَاطُفَ قُلُوبِ البَاذِلِينَ لِإِخْوَانِهِمُ المَنْكُوبِينَ، فَيَتَسَلَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ مَآرِبَ خَاصَّةٍ، أَوْ جَمْعِ ثَرَوَاتٍ طَائِلَةٍ، فَيَأْكُلُونَ حَقَّ الأَرْمَلَةِ وَحَقَّ اليَتِيمِ، وَحَقَّ المُقَاتِلِ وَحَقَّ الأَسِيرِ، وَحَقَّ اللَّاجِئِ وَحَقَّ الشَّرِيدِ، يَجْمَعُونَ المَالَ بِمُعَانَاتِهِمْ ثُمَّ لَا يُوَصِّلُونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَيْهِمْ، فَيُنْفِقُ المُنْفِقُ لِجِهَةٍ يُرِيدُهَا، فَيَصْرِفُونَ نَفَقَتَهُ فِي غَيْرِ جِهَتِهَا، فَبِأَيِّ حَقٍّ يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِهِ، وَبِأَيِّ وَجْهٍ يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ؟!
وَمَعَ تَوَافُرِ وَسَائِلِ الاتِّصَالِ الحَدِيثَةِ صَارَ مِنَ السُّهُولَةِ خِدَاعُ النَّاسِ وَاسْتِغْلاَلُ عَوَاطِفِهِمْ بِإِنْشَاءِ جَمْعِيَّاتٍ خَيْرِيَّةٍ وَهْمِيَّةٍ، وَنَشْرِ حِسَابَاتٍ بَنْكِيَّةٍ، ثُمَّ يَتَنَاقَلُهَا النَّاسُ وَلاَ يَدْرُونَ مَا حَقِيقَتَهَا، فَعَلَى البَاذِلِينَ مَسْؤُولِيَّةُ إِيصَالِ إِنْفَاقِهِمْ لِجِهَاتٍ مَأْمُونَةٍ مَوْثُوقَةٍ؛ لِتَصِلَ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَتُحَقِّقَ مَا أَرَادَهُ بَاذِلُوهَا.
بَلْ إِنَّ بَعْضَ أَرْبَابِ الفِرَقِ البَاطِنِيَّةِ يَسْتَغِلُّونَ تَعَاطُفَ النَّاسِ فِي مِثْلِ الأَزَمَاتِ وَالحُرُوبِ فَيَجْمَعُونَ أَمْوَالَ المُسْلِمِينَ لِذَبْحِ إِخْوَانِهِمْ فِي بِلاَدٍ أُخْرَى، وَلَهُمْ حِيَلٌ وَطُرُقٌ فِي ذَلِكَ يَجِبُ الانْتِبَاهُ لَهَا، وَالمُؤْمِنُ لَيْسَ بِالخَبِّ وَلاَ الخَبُّ يَخْدَعُهُ، وَالخَبُّ هُوَ الخَدَّاعُ.
أَلاَ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

ضبط الإنفاق في سبيل الله تعالى.doc

ضبط الإنفاق في سبيل الله تعالى.doc

ضَبْطُ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.doc

ضَبْطُ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.doc

المشاهدات 4407 | التعليقات 6

أحسن الله إليكم


الله يكتب أجرك على هذه الكلمات


جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


جزاكم الله خيراً صاحب الفضيلة
وأحسن الله إليكم
ونفع بكم وبعلمكم..


خطبة ماتعة موفقة وهنا خطبة أخرى متسقة مع ذلك التعميم :
الحث على إغاثة سوريا وتنبيه إلى الطرق الموثقة وتحذير من المجهولة والمشبوهة


شكر الله تعالى لكم أيها الإخوة الأكارم مروركم وتعليقكم على الخطبة، وأسأل الله تعالى أن يستجيب دعواتكم، وأن يجزل مثوبتكم..
وجزاك الله تعالى خيرا أخي عبد الله على التنبيه، وقاتل الله تعالى العجلة.. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه من أمثالكم..