شعبان كالتَّقْدُمَةِ بين يَدَيْ رمضان

محمد بن عبدالله التميمي
1445/08/04 - 2024/02/14 20:55PM

الخطبة الأولى

الحمد لله خالقِ الدُّجى والصباح، ومسبِّبِ الهدى والصلاح، عزَّ فارتفع، وفرَّق وجمع، وَوَصَلَ وقَطَع { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} أحمدُه سبحانه وأستعينُه وأتوكلُ عليه، وأسألُه التوفيقَ لعملٍ يُقَرِّبُ إليه، وأَشْهَدُ بِوَحدَانِيَّتِه راجِيًا بذلك الفلاح، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه الـمُقَدَّمُ، ورسولُهُ الـمُعَظَّمُ، وخَليلُهُ الـمُكَرَّمُ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وجانبوا الهوى، فبالتقوى يُتَوَقَّى ما مِنْهُ يُخشَى، ومَن وَافَقَ الهوى هوى إلى مَحَلِّ الإضاعة، فكان مُزْجَى البِضَاعَة، وفي مواسمِ الطاعاتِ يُدْرِكُ الـمُحْسِنُونَ بتوفيقِ ربِّهِمْ زيادةَ رأسِ مالِهم، بصالح أعمالِهم، لما به بعدَ رحمةِ اللهِ نجاتُهم، أمَّا الذين لأنفسهم ظالمون  فتَقْطَعُهُمْ سَوْفَ التي هي مَوئِلُ التَّلَف، وبِها تُقْطَعُ الآمالُ، وتنقطع الآجال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

عباد الله.. حقيقٌ بالمرء أن يَفْطِمَ النفسَ ويُلَهِّيها لتكونَ لما يريد من الخير منقادة، فإذا بلغ رمضان، كان بيده بعد توفيق الله الزِّمام، فليس الفِطامُ يَحْصُلُ إلا مع مَرِّ الأيام، فكذلك فِطامُ النفسِ عن المعاصي والآثام، فإنَّ ميزانَ العدلِ يومُ القيامة إذْ تَبِيْنُ فيه الذَّرَّة، فيُجزَى العبدُ على الكلمةِ والنَّظْرة، فيا من زَادُه من الخيرِ طفيف، احذر فميزان العدل لا يَحِيْف.

والتمرينُ قبلَ شهرِ رَمَضَانَ لا يَقْتَصِرُ على الكَفِّ عن المآكلِ والمشارب، ذلك أنَّ للصومِ حقائق، باجتنابِ البَوَائق، وسدِّ كلِّ خَلَلٍ من الطرائق، بالكفِّ عن كُلِّ مُنكَر، من مسموع ومُبْصَر، ومُتَلَفَّظٍ به ابتداءً، ولو لرده اعتداءً، قال صلى الله عليه وسلم: " إذا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّهُ أحَدٌ أوْ قاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ" أخرجه البخاريُّ ومُسلِم.

عباد الله..  شعبانُ كالتَّقْدُمَةِ بين يَدَيْ رَمَضَان، وقد شُرع فيه ما يَحصُلُ به التأهبُ والاستعدادُ وترويضُ النفس على طاعة الله، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حتّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيامَ شَهْرٍ إلّا رَمَضانَ، وما رَأَيْتُهُ أكْثَرَ صِيامًا منه في شَعْبانَ"، وفي لفظ لمسلم عنها: "كانَ يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ، كانَ يَصُومُ شَعْبانَ إلّا قَلِيلًا".

وإنه يا عباد الله لـمَّا اكْتَنَفَ شهرَ شعبان شهران عظيمان: شهرُ رجب الحرام، وشهرُ الصيام، اشتَغَلَ الناسُ بهما عنه، فصار مغفولًا عنه ، كما روى الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ، لم ارك تَصومُ شَهْرًا منَ الشُّهورِ ما تصومُ من شعبانَ؟! قالَ: "ذلِكَ شَهْرٌ يَغفُلُ النّاسُ عنهُ بينَ رجبٍ ورمضانَ، وَهوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عمَلي وأَنا صائمٌ".

فيُستَحَبُّ عمارةُ أوقات غفلة الناس بالطاعة، وذلك محبوبٌ لله عز وجل، وفي ذلك من الفوائد: أن العمل بها أخفى، وذلك بالإخلاص أحرى.

ومن ذلك: أنه أشق على النفس، لِقِلَّةِ الـمُعِين، فيَعْظُمُ حَالتَئِذٍ ثوابُ العاملين.

عباد الله.. والمؤمنُ عن نفسه مسؤول، وعلى عمله محاسَب، فحريٌّ به أن يُجَنِّبَها العَطَبَ، ويستدرك زَمَنَ الـمُهلة، كان عونُ بنُ عبدِالله رحمه الله يقول: "وَيْحِي! كيف أغفل عن نفسي، ومَلَكُ الموتِ ليس بغافل عني؟! وَيْحِي! كيف أَتَّكِلُ على طول الأمل، والأجلُ يطلبني؟!"، وكان محمدُ بنُ النضرِ الحارثي رحمه الله يقول: "تذَكَّرْ أنَّكَ لن يُغْفَلَ عنك، فبادِرْ إلى العملِ الصالح، قبلَ أنْ يُحَال بينك وبينه".

فاليَقَظةَ اليَقَظة.. فإنها  - كما يقول ابنُ القيم رحمه الله تعالى -: أولُ مفاتيح الخير؛ فإنَّ الغافلَ عن الاستعداد للقاءِ ربه والتزودِ لمعادِه بمنزلة النائم، بل أسوأُ منه حالاً؛ إذ العاقلُ يعلم وعدَ الله ووعيدَه، وما تتقاضاه أوامرُ الرب تعالى ونواهيه وأحكامُه من الحقوق، لكن يحجِبُه عن حقيقة الإدراك، ويُقعِدُه عن الاستدراك: سِنَةُ القلب، وهي: غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات، فاشتد إخلاده وركوده، وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات، ومخالطة أهل البطالات، ورضي بالتشبُّه بأهل إضاعة الأوقات .

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل أعمالنا مبلِّغةً إيانا رضوانَك وجنتَك، وأستغفر الله فاستغفروه.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله وَلِيُّ المؤمنين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإنَّ المسلمَ في شهرِ شعبانَ يُعنى، بما به شهر رمضان يُسمَّى؛ فكما أنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ القرآن، فقد روي عن السلفِ تلقيبُ شهرِ شعبانَ بشهرِ القُرَّاء، قال سلمةُ بنُ كهيل رحمه الله: "كان يقال: شهرُ شعبان شهرُ القراء"، وكان حبيبُ بنُ أبي ثابت إذا دخل شعبانُ قال: "هذا شهر القراء". وكان عَمْرُو بنُ قَيسٍ المُلائي إذا دخل شعبانُ أغلقَ حانوته -أي: دُكَّانه- وتفرغ لقراءة القرآن"؛ وذلك –عبادَ الله- لِيَحْصُلَ التأهُّبُ لِتَلَقِّي رمضان، وتَرْتَاضَ النفوسُ بذلك على طاعة الرحمن وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: " تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ".

فجِدُّوا عباد الله في العمل لِمَا يُقَرِّبُكم إلى الله، كَمْ مؤمِّلٍ إدراكَ شهرٍ ما أدركَه، فَجَأه الموتُ بغتة فأهلكَه، كم ناظرٍ إلى صومه بِعَيْنِ الأَمَل، طَمَسَهَا بالمماتِ كَفُّ الأَجَل .

وصلُّوا وسلِّموا كثيرا في هذا اليومِ سيدِ الأيام، على سيدِ الأنام، كما أمركم الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.

المرفقات

1707933312_شعبان كالتقدمة بين يدي رمضان.docx

1707933313_شعبان كالتقدمة بين يدي رمضان.pdf

المشاهدات 794 | التعليقات 0