ذِكْرُ الموت
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الْحَمد لله الَّذِي أذلّ بِالـمـَوتِ رِقَابَ الجَبَابِرَة، وَكَسَرَ بِصَدْمَتِهِ ظُهُورَ الأكاسرة، وَقَصَرَ بِبَغْتَتِهِ آمالَ القَيَاصِرَة، وصَيَّرَهم فِي ظلمات الحافرة، مُرْتَهَنِيْنَ بها إِلَى وَقْفَةِ الساهرة، فَسُبْحَانَ مَن تَفرَّدَ بِالعِزَّةِ والكبرياء، وتوحَّدَ بالدَيْمُوْمَةِ والبَقَاء، وطَوَّقَ عِبَادَهُ بِطَوْقِ الفَنَاء، وَجَعَلَ الـمَوْتَ مُخَلِّصًا لأوليائه السُّعَدَاء، وهُلْكًا لأعدائه الأشقياء، أشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَةً خالصةً من الشُّبْهَة والارتياب، توحيدًا للعَزِيز الغفور التواب، ملكِ الْمُلُوكِ وَرَبِّ الأرباب. وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبدُه وَرَسُولُه الدَّاعِي إِلَى أنهج سَبِيل وأوضح طَرِيق، فرشَدَ أقوامٌ بهداية التوفيق، صلى الله عَلَيْهِ صَلَاةً تَزيدُ شَرَفًا، وتُوْرِدُ مَوْرِدًا عَذْبًا، وعَلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين، أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، واعلموا أَنَّ الـمُؤمنَ بَين مخافتين، بَين أجلٍ قد مضى لَا يدْرِي مَا الله صانع فِيهِ، وَأجلٍ بَقِي لَا يدْرِي مَا الله قَاض فِيهِ، فليتزود العَبْد من نَفسه لنَفسِهِ، وَمن دُنْيَاهُ لآخرته، فَإِن الدُّنْيَا خلقت لكم، وخُلِقْتُمْ أَنْتُم للآخرة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
عبادَ الله.. إنَّهُ الْحَادِثُ الهادمُ للذات، والأقطعُ للراحات، والأجلبُ للكَرِيْهَات، وَإِنَّ أَمْرًا يُقَطِّعُ أَوْصَالَك، وَيُفَرِّقُ أعضاءَك، ويُفَتِّتُ أَعضادَك، ويَهُدُّ أركانَك، لَـهُوَ الْأَمرُ الْعَظِيم، والخَطْبُ الجَسِيْم، فمَا ظَنك رَحِمك الله بنازلٍ يَنْزِلُ بِكَ فَيُذْهِبُ رَوْنَقَكَ وبهاءَك، ويُغيِّرُ منظرَك ورُواءَك، ويَمحو صُورَةَ جمالك، وَيَمْنَعُ من اجتماعك واتصالك، ويَرُدُّكَ بَعْدَ النِّعْمَةَ والنَّضْرَةِ والسَطْوَةِ وَالقُدْرَةِ والنخوةِ والعزةِ إِلَى حَالَةٍ يُبَادر فِيهَا أحبُّ النَّاسِ لَك، وأرحمُهم بك، وأعطفُهم عَلَيْك، فيَقْذِفُكَ فِي حُفْرَة من الأَرْض قريبَة أنحاؤها، مظْلمَة أرجاؤها، مُحكَمٌ عَلَيْك حَجَرُهَا.
إنه الموت -عبادَ الله- بها أُذكِّرُ نفسي وإياكم قبل حلول الرمس، أن نتوب من ذنوب اليوم والأمس، ونحاسب النفس، ونعمل ونسأل الفردوس، فَإِن الْمَوْت أَمرٌ كُبَّار، لمن أَنْجَدَ وأغار، وكأسٌ تُدارُ فِيمَن أَقَامَ أَو سَار، وَبَابٌ تسوقك إِلَيْهِ الأقدار، وَيُخْرَجُ بك إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار.
لقد أَمَرَ النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِذكر الْمَوْت وَأعَاد القَوْل فِيهِ تهويلا لأَمره وتعظيما لشأنه، فقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَكْثرُوا ذكر هَادِم اللَّذَّات الْمَوْت»، إنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِ الْمَوْت تَرْدَعُ عَن الْمعاصِي، وتُلَيِّنُ الْقلبَ القَاسِي، وتُهَوِّنُ الـمَصائِب، وَإِنَّ مَن لمْ يَخَفْهُ فِي هَذِه الدَّار رُبمَا تمناه فِي الآخِرَة فَلَا يؤتاه، وَسَأَلَ فِيهِ وَلَا يعطاه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ -فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ- فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا. أخرجه مسلم.
إنَّ الْمَوْتَ -عبادَ الله- وَإِن كَانَ مُصِيبَةً عُظْمَى ورَزِيَّةً كُبْرَى، فأعظمُ مِنْهُ: الْغَفْلَةُ عَنهُ، والإعراضُ عَن ذكره، وَقلةُ التفكر فِيهِ، وَتركُ الْعَمَلِ لَهُ. قَالَ مطرفُ بنُ عبدِاللهِ: «إِنَّ هَذَا الْمَوْتَ قَدْ نَغَّصَ عَلَى أَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ، فَاطْلُبُوا نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ»، وَهَذَا كَلَام مُخْتَصر وجيز، وَقد أبلغ فِي الموعظة؛ فَإِن مَنْ ذَكَرَ الْمَوْت حَقِيقَةً نَغَّصَ عَلَيْهِ لذتَه الْحَاضِرَة، وَمَنَعَهُ مِن تَمَنِّيْهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وزَهَّدَه فِيمَا كَانَ مِنْهَا يُؤَمِّل.
عباد الله.. إنَّ النَّاسَ فِي ذِكْرِ الْمَوْت على صنوف:
فَمنهمْ المنهمكُ فِي لذاتِه، المثابرُ على شهواته، المضيعُ فِيهَا مَا لا يَرْجِعُ مِن أوقاته، لَا يَخْطُرُ الْمَوْتُ لَهُ على بَال، وَلَا يُحدِّثُ نَفسَه بِزَوَال، قد اطَّرَحَ أُخْراه، وأَكَبَّ على دُنْيَاهُ، وَاتخذ إلهه هَوَاهُ، فأصمه ذَلِك وأعماه، وأهلكه وأرداه.
فَإِنْ ذُكِرَ لَهُ الْمَوْتُ نَفَرَ وشَرَد، وَإِنْ وُعِظَ أَنِفَ وَبَعُد، وَكَأَنَّهُ لم يسمع قَولَ الله عز وَجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقولَه سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}.
وَكَذَلِكَ مَن كَانَ قلبُه مُتَعَلقًا بالدنيا وهمُّه فِيهَا، وَنَظرُه مصروفًا إِلَيْهَا، إِنْ ذُكِرَ لَهُ الْمَوْتُ تَصَامَمَ عَن ذِكْرِه، يَخَافُ أَنْ يَقْطَعَهُ الموتُ عَن بُلُوغِ أَمَلٍ يُحَدِّثُ بِهِ نَفسَه، ويَخْدَعُ بِهِ حِسَّه، حَتَّى إِذا وَقعت رايتُه، وَقَامَت قِيَامَتُه، وهجمت عَلَيْهِ مَنِيَّتُه، وأحاطت بِهِ خَطِيْئَتُه، فانْكَشَفَ لَهُ الغَطَاءُ، وتَبَدَّتْ لَهُ مَوَارِدُ الشَّقَاء، فنعوذ بِاللَّه من سوء الْقَضَاء، ودَرَكِ الشَّقَاء.
وَرجلٌ آخر -وَقَلِيل مَا هم- مَنْ أُزِيْلَ مِنْ عَيْنِه قَذَاهَا، وكُشِفَ عَن بصيرته عَمَاها، وَعُرضت عَلَيْهِ الْحَقِيقَةُ فرآها، وَأبْصر نَفْسَهُ وهواها، فَزَجَرَهَا ونَهَاهَا، وأَبْغَضَهَا وَقَلَاهَا، فلبَّى الْمُنَادِي، وَأجَاب الدَّاعِي، وشَمَّرَ لِتَلافي مَا فَاتَ، وَالنَّظَرِ فِيمَا هُوَ آتٍ، وتَأَهَّبَ لِهُجُوْمَ الْمَمَات وحُلُولِ الشَّتَات.
وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يخَاف أَنْ يَقطعَهُ الموتُ عَن الاستعدادِ ليَوْم المَعَاد، والاكتسابِ ليَوْمِ الْحِسَاب، وَيَكْرَهُ أَنْ تُطْوَى صحيفَةُ عَمَلِه قبل بُلُوغ أَمَلِه، وَأَنْ يُبَادَرَ بِأَجَلِه قبل إصْلَاح خَلَلِه، وتَدَارُكِ زَلَــلِـه، في المسند أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قال: «لَا تَمَنَّوْا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ، وَيَرْزُقَهُ اللهُ الْإِنَابَةَ».
نَسْأَلُ اللهَ جميلَ الخَاتِمَة، وَحُسْنَ الْعَاقِبَة، ومَرَدًّا غيرَ مُخْزٍ وَلَا فَاضِح -برحمته لَا رب سواهُ-.
اعْلَم -عبدَ الله- رَحِمك الله أَنَّ مِمَّا يُعينِكَ على الفِكْرَةِ فِي المَوْت، ويُفرغك لَهُ، وَيُكثِرُ اشتغالك بِهِ، تَذَكُّرُ مَن مَضَى مِن إخوانك وخِلَّانك، وَأَصْحَابك وأَقْرَانِك، الَّذين مضوا قبلك وتَقدَّمُوا أَمَامَك، كَانُوا يحرصون حِرْصَكَ ويَسْعَوْنَ سَعْيَك، قَصَّت الْمَنُونُ أَعْنَاقَهم، وقَلَعَتْ أَعْرَاقَهم، وفجعت فيهم أَهْليهمْ وأحباءَهم، فَأَصْبحُوا آيَةً للمُتَوَّسِّمِين، وعبرةً للمعتبرين.
فاللهم لا تجعلنا بهذه الدنيا مغترين، ولا عن للموت غافلين، وأحسن منقلبنا ومثوانا عند يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا أجمعين، وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والميّتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحيِّ فلا يموت، أحمده سبحانه ذي الجبروت والملكوت، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً عليها أحيا وأموت، وأشهد أن محمدًا النبيُّ المرسَلُ، والعبدُ فلا يُعبد؛ إِذْ العبدُ يموت، ويَنسى الشيء وعليه يفوت، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، وقد اتَّقى عبدٌ ربَّه، نصح نَفسه، وَغلب شَهْوَته، وَقدَّمَ تَوْبَته، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُور عَنهُ، وأملُه خَادعٌ لَه، والشيطانُ مُوكَّلٌ بِهِ، يُـمَنِّيْهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا، ويُزَيِّنُ لَه الْمعْصِيَةَ ليَرْكبَهَا، حَتَّى تَهجِمَ عَلَيْهِ مَنِيَّتُه أغفلَ مَا يكونُ عَنْهَا، فيالها من حسرةٍ على ذِي غَفلَةٍ أَنْ يكونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّة، فحَسِّنُوا أَعمالَكُم، وَقصرُوا آمالَكم، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَوْتَ مَعْقُودٌ بنواصيكم، وَأَنَّ الدُّنْيَا تُطوى مِن وَرَائِكُم.
جعلنَا الله وَإِيَّاكُم مِمَّن لَا تُبْطِرُه نِعْمَة، وَلَا تُقَصِّرُ بِهِ عَن الطَّاعَة مَعْصِيّة، وَلَا تَحِلُّ بِهِ بعد الْمَوْت حسرة، إِنَّه سميع الدُّعَاء، فعال لما يَشَاء.
· * أكثر الخطبة من كتاب: العاقبة في ذكر الموت، لعبد الحق الأشبيلي
المرفقات
1698220898_ذِكْرُ الموت.docx
1698220898_ذِكْرُ الموت.pdf