دعوة إلى التفاؤل والعمل
عبدالرحمن محمد صالح الحمد
يقول الله-تعالى-: ﴿وَما هذِهِ الحَياةُ الدُّنيا إِلّا لَهوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ لَو كانوا يَعلَمونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤] الحياة الدنيا ميدان فسيح وفضاء واسع للخير والشر، وللمسرات والأحزان، وللسرّاء والضرّاء، وللتقلب من حال إلى حال فإن دوام الحال من المحال:
ثمانية تجري على الناس كلهم
سرورٌ وهمٌّ واجتماعٌ وفرقة
ولابد للإنسان يلقى الثمانية
ويسرٌ وعسرٌ ثم سقم وعافية
وأحسن من ذلك قول الحق-تبارك وتعالى-: ﴿لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ﴾ [البلد: ٤]
أيها المسلمون:
التفاؤل وهو توقع الخير سبب في حصول الخير. التفاؤل يدفع الإنسان نحو العطاء. التفاؤل يدفع الإنسان لتجاوز المحن خير الخلق رسول الله ﷺ كان يعجبه الفأل.
المتفائل لا يبني من البلاء والمصيبة سجنًا يحبس فيه نفسه لكنه يتطلع للفرج، المتفائل من أسعد الناس فهو يرى الحياةَ جميلة:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما
يقال لشيء كان إلا تحققا
ومن الحِكَم الدارجة: تفاءلوا بالخير تجدوه. قال الشيخ بن باز رحمه الله
عن هذا اللفظ: لا أعلم له أصلًا في الأحاديث الثابتة ولكن معناه صحيح.
ومعنى إحسان الظن بالله: اعتقاد الإنسان أنَّ ربّه جواد كريم، وأنه غفور رحيم، وأن فضله عظيم، وفرجه قريب مع التوبة والاجتهاد في العمل الصالح.
المسلم يحسن ظنّه بربّه فإحسان الظن بالله عبادة من العبادات روى الإمام مسلم أن رسول الله ﷺ قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، وروى الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله ﷺ قال: (إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله)، وروى ابن حبان أن رسول الله ﷺ قال: (إن الله جلَّ وعلا يقول: " أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيرًا فله وإن ظن شرًّا فله ").
مِنْ أعظم صور التفاؤل وإحسان الظن بالله أن يتوقع الإنسان الشفاءَ عند المرض، والنجاحَ عند الفشل، والفرجَ عند الكرب، والنصرَ عند الهزيمة، والمغفرةَ عند المعصية مع التوبة والإنابة.
يراع الفتى للخطب يبدو صدوره
ألم تر أن الليل لما تراكمت
فلا تصحبن اليأس إن كنت عاقلًا
فيأسى وفي عقباه يأتي سروره
دجاه بدا وجه الصباح ونوره
لبيبًا فإن الدهر شتّى أموره
أيها المسلم الكريم: أحسن ظنك بربك، وأمّل الخير منه واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واصبر على ما أصابك:
اصبر على القدر المحتوم وارضَ
فما صفا لأمرئ عيش يسرّ به
وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
إلا سيتبع يومًا صفوه كدر
لقد طَرَحَ إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل عليهما السلام ليذبحه بأمر الله-تعالى-، واستل سكينه الحادة وإسماعيل يقول: ﴿يا أَبَتِ افعَل ما تُؤمَرُ سَتَجِدُني إِن شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرينَ﴾ [الصافات: ١٠٢]
، فما الذي حدث؟ لقد نجح إبراهيم في ذلك الامتحان العظيم نجاحًا باهرًا، وسلم إسماعيل من الذبح، وكان من نسله أشرف الخلق محمد ﷺ ولم يكن إبراهيم وإسماعيل يعلمان أن كبشًا سيكون عندهما بعد لحظة من زمن ليذبحَه إبراهيمُ فدًا لابنه إسماعيل.
ولمّا كان نبي الله موسى عليه السلام عائدًا من مدين إلى مصر ومعه أهله والجو بارد وهو يسير بالليل فاتجه إلى نار يرى ضوءها ظنًّا منه أنها نارُ أناسٍ مسافرين ولم يفكر وهو يسمع أنفاسه المتعبة أنه يتجه ليسمع كلامَ ربِّ العالمين يكلّفه بالرسالة ويختاره، ولما دعا نوح عليه السلام ربّه قائلًا كما أخبر الله عنه: ﴿أَنّي مَغلوبٌ فَانتَصِر﴾ [القمر: ١٠]، لم يخطر بباله أن الله سيغرق البشرية من أجله، وأنه لن يبقى على وجه الأرض سوى نوح وعدد قليل كانوا معه في السفينة وهم المؤمنون به قال-تعالى-: ﴿وَما آمَنَ مَعَهُ إِلّا قَليلٌ﴾ [هود: ٤٠].
ولمّا منَّ الله على نبيِّه يوسف عليه السلام بالخروج من السجن لم يرسل صاعقة تكسر باب السجن بل قدّر الله رؤيا تتسلل في هدوء الليل إلى الملك وهو نائم فكانت هذه الرؤيا سببًا في خروجه.
ولما أطبقت على نبيِّ الله يونس عليه السلام الظلمات الثلاث: ظلمةُ الليل، وظلمةُ البحر، وظلمةُ بطن الحوت، وَحّدَ ربّه، ونزّهه عمّا لا يليق به، واعتذر منه فناداه: ﴿لا إِلهَ إِلّا أَنتَ سُبحانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧]
، وليست هذه النجاة خاصة بيونس عليه السلام بل هي عامة لجميع المؤمنين قال-تعالى-: ﴿وَكَذلِكَ نُنجِي المُؤمِنينَ﴾ [الأنبياء: ٨٨]، أي: نخلّصهم من الشدائد.
أيها المسلم الكريم:
إياك أن تشغل نفسك بكيفية نهاية الباطل المنتفش فذلك مردّه إلى الله-تعالى-الذي لا تخفى عليه خافية وهو-سبحانه-أغير على دينه منّا ولكن أشغل بالك بكيف تدعو إلى الخير، وكيف تكون من أهله، وكيف تدافع عن الحق، وماذا عملت لما بعد موتك، وهل تزودت من نفسك لنفسك، ومن حياتك لموتك، ومن شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك:
إذا هبّــت رياحـك فاغتنمـها
ولا تغفل عن الإحسان فيها
فعقبى كــلِّ خافقة سكـــــون
فلا تدري السكون متى يكون
خطب أبو بكر الصديق ﭬ الصحابةَ ﭫ فكان مما قال لهم: تفكروا عباد الله فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد نُسُوا ونُسِي ذكرُهم فهم اليوم كلا شيء.... إلى أن قال: وأين مَنْ تعرفون مِنْ أصحابكم وإخوانكم؟ وقد وردوا على ما قدّموا.
أيها المسلمون: منهجُ إحسان الظن بالله ليس حدثًا عابرًا يمرّ ويمضي ولا يعود بل هو منهج متكرر ليضخ الفأل في القلوب وليشحن النفوس بطاقة من الأمل الجميل،
قال سبحانه: ﴿وَمَا النَّصرُ إِلّا مِن عِندِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ١٠]
لقد فرّ موسى عليه السلام بأتباعه المؤمنين هربًا من بطش فرعون الذي هدّدهم قائلًا: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبناءَهُم وَنَستَحيي نِساءَهُم وَإِنّا فَوقَهُم قاهِرونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧]
، فها هو يلاحقهم بكامل قوته وعتاده جازمٌ بحسم الصراع لصالحه فموازين القوى بين الفريقين لا تقبل المقارنة: ﴿فَأَرسَلَ فِرعَونُ فِي المَدائِنِ حاشِرينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرذِمَةٌ قَليلونَ وَإِنَّهُم لَنا لَغائِظونَ وَإِنّا لَجَميعٌ حاذِرونَ﴾ [الشعراء: ٥٣-٥٦] ، لقد صاح أتباع موسى لمّا كان البحر أمامهم وفرعونُ وجنوده من خلفهم صاحوا قائلين: ﴿إِنّا لَمُدرَكونَ﴾ [الشعراء: ٦١]
، وأما موسى عليه السلام فكان التفاؤلُ ينير دربه وحسنُ الظن بالله يملأ قلبه فها هو يقول لهم: ﴿قالَ كَلّا إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهدينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] ، إنه واثق من فرج ربه مع أنه لا يدري ما الذي سيحدث؟؟؟
قال ذلك ثقةً بالله تعالى فيجيء الأمر مباشرة: ﴿فَأَوحَينا إِلى موسى أَنِ اضرِب بِعَصاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣] ، إنه منظر عجيب لم يحدث قبل ذلك أبدًا ولم يخطر على بال أحد منظرٌ يغرس في النفوس أن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه يقول للشيء كن فيكون.
ويأتي يومُ عاشوراء ليلفت نظر المسلمين إلى تلك المعاني وأن الكفار مهما استبدوا وتجبروا فإن الله تعالى لهم بالمرصاد.
يوم عاشوراء حدث عظيم جدير بأن يُشكر الله عز وجل عليه ومِنْ شكر الله صيامُ ذلك اليوم ولقد صامه موسى وصامه نبينا محمد ﷺ ولفت أنظارَ المسلمين إلى فضله وصيامه ففي صحيح مسلم يقول النبي ﷺ: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله).
أيها المسلمون:
فمن قصة نبي الله موسى عليه السلام ونجاته وإهلاك فرعون وقومه يتعلم المسلمون دروسًا مفيدة فمنها: أن قَدَرَ الله نافذ لا محالة فقد ذبح فرعونُ آلاف الأطفال كي لا يأتيه موسى عليه السلام وعندما جاء ربّاه فرعون في قصره ونال أعلى درجات التكريم.
ويتعلم المسلمون من القصة أن القلوب بيد الله-تعالى-لا بأيدي الناس فعندما حَرَمَ فرعونُ موسى من قلب أمّه رقّق الله عليه قلبَ زوجةِ فرعون؛ لقد أراد فرعونُ أن يحرمه من أمّه فأعطاه الله مع أمّه أمًّا أخرى.
ومن الدروس المفيدة من القصة: أن أي إنسان لا يستطيع أن ينزع الإيمان من القلوب مهما أوتي هذا الإنسان من قوة ففي القصر الذي يقول فرعون فيه: ﴿أَنا رَبُّكُمُ الأَعلى﴾ [النازعات: ٢٤] ، ويقول: ﴿ما عَلِمتُ لَكُم مِن إِلهٍ غَيري﴾ [القصص: ٣٨]، كانت زوجته آسيةُ في الغرفة المجاورة تقول: سبحان ربي الأعلى.
ومن الدروس: أن الله إذا أراد نصرَ عبادهِ نصرهم بشيء قد لا يُهتم به فقد نصر الله موسى وقومَه بالعصا التي لا تصلح إلا للاتكاء عليها وضرب الشجر لتسقط أوراقُها لتأكلها الغنم أمره الله أن يضرب بها البحر فإذا هو طرق يابسة عددها اثنا عشر طريقًا بعدد أسباط بني إسرائيل.
ومن الدروس: حكمة الله البالغة فقد أهلك الله فرعون بما كان يفتخر به قال-تعالى-حكاية عن فرعون وفخره بالماء: ﴿وَهذِهِ الأَنهارُ تَجري مِن تَحتي﴾ [الزخرف: ٥١]، وفي النهاية أغرقه الله بالماء.
المرفقات
1723043742_دعوة إلى التفاؤل والعمل.docx