خواتيمُ العفوِ والاستغفارِ
راكان المغربي
الخطبة الأولى:
أما بعد:
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)
ها هي تنقضي وتَتَصَرَّم، وها هو الشهرُ المباركُ يلفِظُ أنفاسَه الأخيرة، ويستعدُّ للرحيل، وما أصعبَ لحظاتِ الفراق!
مشوارٌ طويلٌ قطعه المسلمون في الصيامِ والقيامِ، وتلاوةِ القرآنِ والإطعامِ، والمسارعةِ والمسابقةِ في الخيرات.
وفي خواتيمِ الشهرِ يتقلبُ المؤمنُ بين حالين:
الحالُ الأولُ يشاهد فيه فضلَ الله عليه حين وفقَه وهداه، فيفرحُ بفضلِ الله وما منَّ عليه من التوفيق للطاعةِ، ويُعْقِبُ هذا الفرحَ بالشكرِ للهِ الكريمِ.
ويتجلى هذا الحالُ عند المؤمنِ حين تغربُ شمسِ آخرِ يومٍ من رمضان، فتكتملُ عدّتُه، ويُتِمُّ اللهُ على العبدِ نعمتَه بإتمامِ الصالحات، فيلهجُ لسانُ المؤمنِ بالتكبيرِ، ويعمُرُ قلبَه بالشكرِ والامتنانِ للرب المنّان، قال سبحانه: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ولذا شُرِعَ التكبيرُ من بدءِ ليلةِ العيد.
فإذا أقبلت ليلةُ العيدِ، فلا تُشغِلَنَّكم تجهيزاتُ العيدِ عن ذكرِ اللهِ تعالى، ومشاهدةِ نعمتِه، والصدحِ بالتكبيرِ، وإعلانِه في بيوتِكم ومساجدِكم وأسواقِكم وشوارعِكم.
وأما الحالُ الثاني في خواتيمِ شهرِ رمضان، والذي يتجلى خصوصاً في هذه العشرِ الأواخرِ المباركة، فهو حالُ الانكسارِ الذي يلازمُ المؤمنَ في عبوديتِه لربِّه، والذي يطردُ عنه العجبَ بالعملِ والمنَّ على اللهِ به. فالمؤمنُ مهما سارعَ إلى البرِّ، وسابقَ في الخيراتِ، فإنه ينظرُ إلى نفسِه بعينِ النقصِ، ويخشى من عدمِ قَبولِ العملِ، بسببِ ما خالطه من شوائبَ ودَخَنٍ.
ولذلك حين سألت عائشةُ رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم: " يا رَسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ عَلِمتُ أيَّ ليلةٍ لَيلةُ القدْرِ ما أقولُ فِيها؟ قال: (قُولي: اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ، تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي).
قال ابنُ رجب: "وإنما أُمرَ بسؤالِ العفوِ في ليلةِ القدرِ، بعد الاجتهادِ في الأعمالِ فيها، وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمالِ، ثم لا يرون لأنفسِهم عملاً صالحاً، ولا حالاً، ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤالِ العفوِ كحالِ المذنبِ المقصر. قال يَحْيَى بنُ مُعاذ: ليس بعارفٍ من لم يكنْ غايةُ أملِه من اللهِ العفو".
وهذا الحالُ لا يقتصرُ على رمضانَ، بل هو في سائرِ الطاعات، ولذا شُرعَ الاستغفارُ عَقِبَ كثيرٍ من الطاعات. قال ابن القيم: " وأربابُ العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفارًا عَقِيبَ الطَّاعات، لشهودهم تقصيرَهم فيها، وتركَ القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه.
وقد أمر اللهُ تعالى وفدَه وحُجّاجَ بيته بأن يستغفروه عَقِيبَ إفاضتهم من عرفاتٍ، وهو أجلُّ المواقف وأفضلُها، فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199].
وقال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]. قال الحسن - رضي الله عنه -: مَدُّوا الصّلاةَ إلى السَّحر، ثمّ جلسوا يستغفرون الله عزّ وجلّ.
وفي "الصّحيح" أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلَّم استغفر ثلاثًا، ثمّ قال: "اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام"
وأمره الله سبحانه بالاستغفارِ بعد أداء الرِّسالة، والقيامِ بما عليه من أعبائها، وقضاءِ فرض الحجِّ والجهاد، واقترابِ أجله، فقال في آخر ما أنزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر]. ومن هاهنا فَهِم عمر وابن عبّاسٍ - رضي الله عنهم - أنَّ هذا أجلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلَمَه به، فأمَره أن يستغفره عَقِيبَ أداءِ ما عليه، فكان إعلامَه بأنّك قد أدّيتَ ما عليك، ولم يبق عليك شيءٌ، فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمةَ الصّلاة والحجِّ وقيام اللّيل، وخاتمةَ الوضوء أيضًا إذ يقول بعد فراغه "اللهمَّ اجعلني من التَّوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين".
فهذا شأنُ مَن عرَف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبوديّة وشرائطها، لا جهلُ أصحاب الدَّعاوى وشطحاتُهم.
وقال بعضُ العارفين: متى رضيتَ نفسَك وعملَك لله، فاعلم أنّه غيرُ راضٍ به. ومَن عرَفَ أنَّ نفسَه مأوى كلِّ عيبٍ وسوء، وعملَه عُرْضةُ كلِّ آفةٍ ونقصٍ، كيف يرضى لله نفسَه وعملَه؟". انتهى كلامه رحمه الله
هذا هو حالُ المؤمن في ختامِ عملِه الصالحِ، يتواضعِ لربِّه، ويتهمُ نفسَه، ويقول بلسانِ الحالِ والمقالِ: سبحانك ما عبدتك حق عبادتك، ولا قدرتك حق قدرك.
حين حضرت الوفاةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، بعدَ حياةٍ مليئةٍ بالنصبِ في عبادةِ الله، والبذلِ في الدعوةِ إليه، والتضحيةِ والجهادِ في سبيله، تحكي لنا عائشة رضي الله عنها خاتمة مواقف حياته: " أنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهو مُسْنِدٌ إلى صَدْرِهَا وَأَصْغَتْ إلَيْهِ وَهو يقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بالرَّفِيقِ". فإذا كانت حياةُ خيرِ الخلقِ، وخليلِ الرحمنِ، خُتِمتْ بالاستغفار، فكيف يكون حالُنا نحنُ أصحابُ التقصيرِ والنقصِ والخللِ.
يقول السعدي رحمه الله مبينا حالي المؤمنِ بعد الطاعات: " فالاستغفارُ للخللِ الواقعِ من العبدِ في أداءِ عبادتِه وتقصيرِه فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيقِ لهذه العبادةِ العظيمةِ والمنَّةِ الجسيمةِ، وهكذا ينبغي للعبدِ كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكرَه على التوفيقِ، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومنَّ بها على ربِّه، وجَعَلَتْ له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيقٌ بالمقتِ وردِّ العملِ كما أنَّ الأولَ حقيقٌ بالقَبولِ والتوفيقِ لأعمال أُخَرْ".
يا ربُّ عبدُك قد أتا … كَ وقد أساءَ وقد هفا
يَكْفِيهِ منكَ حياؤُه … من سوءِ ما قدْ أَسْلَفَا
وقد استجَارَ بذَيْلِ عفوِ … كَ من عقابك مُلْحِفَا
ربِّ اعْفُ وعَافِهِ … فَلَأَنْتَ أولَى من عَفَا.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
معاشر الصائمين:
ليلتُكُمُ القادمةُ هي أرجى اللَّيالي لأَنْ تكونَ ليلةَ القدر، فهي ليلةُ السابعِ والعشرين، والتي كان يُقْسِمُ أبيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه على أنَّها هي ليلةُ القدر.
هذه الليلة!
قد تكونُ بالنسبةِ لك هي ليلةُ العمر، ليس فقط على ما ستحصّلُه من الحسناتِ المضاعفات، وإنما لما قد تُحْدِثُه فيكَ من تحوُّلِ الحال، وحسنِ الإقبال، وقربِ الكريم المنان؛ فيا تُرى هل ستكون العشرُ الأواخر، وتلك الليلةُ، هي نقطةُ التحول، وتعديلِ المسار؟!
نعم يمكنُ ذلك بإذن الله، وذلك لمن أقبلَ فيها فتابَ من ذنوبه، وتحرّرَ من قيوده، وأقبلَ على ربه، وسارعَ فيما بقيَ من شهرِه.
إخواني في الله: السباقُ في آخرِ مراحلِه، وختامِ لحظاتِه؛ فسارعوا وسابقوا، وجِدُّوا واجتهدوا، وعند الصباح يحمدُ القومُ السُّرى.
وفي الختام اعلموا يا عباد الله أنه "قَد شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ هَذَا الشَّهرِ زَكَاةُ الفِطرِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ لَهُ فَضلٌ عَن قَوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ لَيلَةَ العِيدِ، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ : "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ زَكَاةَ الفِطرِ مِن رَمَضَانَ، صَاعًا مِن تَمر، أَو صَاعًا مِن شَعِيرٍ، عَلَى العَبدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَن تُؤَدَّى قَبلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلى الصَّلاةِ".
وَالأَفضَلُ إِخرَاجُهَا قَبلَ الصَّلاةِ مِن يَومِ العِيدِ، وَلا يَجُوزُ تَأخِيرُهَا إِلى مَا بَعدَ الصَّلاةِ، وَمَن أَخَّرَها بِغَيرِ عُذرٍ فَهُوَ آثِمٌ، وَيَجِبُ عَلَيهِ إِخرَاجُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ، فَمَن أَدَّاهَا قَبلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ".
وَيَجُوزُ أَن تُخرَجَ قَبلَ العِيدِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ، وَفي البُخَارِيِّ: كَانَ ابنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- يُعطِيهَا لِلَّذِينَ يَقبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعطَونَ قَبلَ الفِطرِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ.
وَمِمَّا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا صَلاةُ العِيدِ، شعيرةً عظيمةً من شعائر المسلمين، وقد أُمرنا بأن نخرجَ إليها جميعاً رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، ففي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "أُمِرْنَا أَن نُخرِجَ الحُيَّضَ يَومَ العِيدَينِ وَذَوَاتِ الخُدُورِ، فَيَشهَدْنَ جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ وَدَعوَتَهُم، وَتَعتَزِلُ الحُيَّضُ عَن مُصَلاَّهُنَّ".
وَمِمَّا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا َالتَّكبِيرُ مِن غُرُوبِ الشَّمسِ لَيلَةَ العِيدِ حَتَّى انقِضَاءِ صلاة العيد تطبيقًا لأمر الله وشكرًا لنعمته، كما قال -سبحانه-: (وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)[البقرة:185].
اللهم وفقنا بتوفيقك، ومن علينا بكرمك، وزدنا من فضلك العظيم
اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، واكتب لنا فيها أوفر الحظ والنصيب.
اللهم اجعلنا فيها وفي رمضان من الفائزين المقبولين. ولا تجعلنا من المحرومين المخذولين.
المرفقات
1712498135_خواتيم العفو والاستغفار.docx