خطبة 24-7-1443 تأملات في سورة الشرح

محمد آل مداوي
1443/07/23 - 2022/02/24 10:33AM

الحمدُ لله، الحمدُ للهِ على ما قَدَّرَ مِنْ خَيرٍ ووَهَب، وأشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ بَشَّرَ المُؤمنينَ بالمغفِرةِ وتَفْرِيجِ الكُرَب، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا مُحمدًا عبدُه ورسولُه كانَ سبَّاقًا إلى فِعْلِ القُرَب، صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصَحْبِه الذينَ بلَغُوا أعلَى الرُّتَب، وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرا.. أما بعد: فأُوصِيكُم ونفسي بتقوَى الله، فاتَّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ وأَطيعُوه، وتَقرَّبوا إليهِ بشُكْرِ نِعَمِهِ ورَاقِبوه، فكَمْ نِعْمَةٍ آتَاكُم، وكَمْ فِتنَةٍ وَقَاكُم، وكَمْ عَدُوٍّ كَفَاكُم، فاشْكُروهُ عِبادَ اللهِ على ما أَوْلَاكُم.

أيُّها المسلمون: مِنْ نِعَمِ اللهِ العَظِيمَة، التي يَغْفَلُ عنها الغَافِلُون، ولا يُقدِّرُ قَدْرَها المَحْرُومُون؛ نِعْمَةُ القُرآن.. هو فَخْرُ المُسْلِمين، وعِزُّ المؤمنين، فيهِ خيرُ الدُّنيا والآخرة.. وسَوْفَ يَسْأَلُنا اللهُ عنهُ يومَ القيامة؛ هل قُمنا بحقِّهِ فانْتَفَعْنا، وهل اتَّبَعْنَا هَدْيَهُ فارْتَفَعْنا، أم هَجَرْنَاهُ ليكونَ حُجَّةً علينا، وكُفرًا بهذهِ النِّعمَة؟!، قالَ سبحانه: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)

ومِنْ سُوَرِهِ الكَرِيمَة: سُورَةٌ مكِّيَّةٌ عَظِيمَة، آياتُها ثمَانُ آيات، فيها عِبَرٌ وعِظَات، ودُروسٌ وبِشَارات.. فيها العِنايَةُ الإلهيَّة، والرِّعايةُ الربَّانيَّة: سورةُ الشَّرح.

يَقُوْلُ تَعَالى في مَطْلَعِهَا مُمْتَنًّا عَلَى رَسُوْلِهِ r: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ؛ أَيْ: أَلَمْ نُوَسِّعْ قَلْبَكَ بالإيمَانِ والنُّبُوَّة، والعِلْمِ والحِكْمَة.

وأعْظَمُ أسبَابِ شَرْحِ الصَّدْر: هُوَ اسْتِقْرَارُ الإيمَانِ في قَلْبِ الإنسَان: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)

كَمَا أنَّ ضِيقَ الصَّدْر؛ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الضَّلَالِ عَن الدِّين، والبُعْدِ عَنْ رَبِّ العَالَمِين، قالَ تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)

والمُؤمِنُ في انْشِرَاحٍ دَائم، سَوَاءٌ كانَ في نِعْمَةٍ أَمْ في ابْتِلاء؛ لأنَّ حَالَهُ لن يَخرُجَ عن أَحَدِ أمرَين: إمَّا شاكِرٌ، وإمَّا صابِرٌ.

ثُمَّ قالَ تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) ؛ أَيْ غَفَرْنَا ذَنْبَكَ الَّذِيْ أَثْقَلَ ظَهْرَك.. قالَ أَهْلُ الُّلغَة: أَنْقَضَ الحَمْلُ ظَهْرَ النَّاقَة؛ إذا سُمِعَ لَهُ صَرِيرٌ مِنْ شِدَّةِ الحَمْلِ وثِقْلِه، قالَ بَعضُهُم: وإنَّما وُضِعَتْ ذُنوبُ الأنبيَاءِ بهذا الثِّقْل مَعَ كَونِها مَغفُورة؛ لِشِدَّةِ اهتِمَامِهِم بها ونَدَمِهِمْ عليها.

وإذَا كَانَ وِزْرُ الرَّسُولِ r قَدْ أَثْقَلَ كَاهِلَه؛ فَكَيْفَ بأوْزَارِ غَيْرِه؛ فَالمُؤْمِنُ تُتْعِبُهُ الخَطَايا، وتُثْقِلُهُ الذُّنُوبُ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنهَا بالتَّوبَةِ والاِسْتِغفَار، والفِرَارِ إلى الوَاحِدِ القَهَّار.

(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) أَيْ: أَعْلَيْنَا قَدْرَكَ وَشَأْنَك، وجَعَلْنَا لَكَ الثَّنَاءَ الحَسَن، وصَارَ اسْمكَ شَهِيْرًا في المَشَارِقِ والمَغَارِب؛ فَلَا يُذْكَرُ اللهُ، إلَّا ذُكِرَ مَعَهُ رَسُوْلُهُr.

وتَمُرُّ القُرُوْن، وتَتَعَاقَبُ الأَجْيَال، وَمَلَايِينُ الشِّفَاهِ تَهْتِفُ بِاسْمِهِ الكَرِيم، مَعَ الصَّلَاةِ والتَّسْلِيْم، والحُبِّ العَظِيم! إنَّهَا مَرْتَبَةٌ لَمْ يَنَلْهَا أَحَدٌ مِنَ العَالَمِين! قال قَتَادَةَ: "رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ، ولَا مُتَشَهِّدٌ، ولَا صَاحِبُ صَلَاةٍ، إلَّا يُنَادِي بِهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه".

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) أَيْ إنَّ مَعَ الضِّيْقَةِ وَالشِّدَّةِ: سَعَةً وَغِنًى.

وهَذِهِ بِشَارَةٌ عَظِيْمَة، ووَعْدٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِين: فكُلُّ عُسْرٍ وَضِيْق؛ يَتْبَعُهُ يُسْرٌ وفَرَج، قالَ r: (وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ؛ خَيْرًا كَثِيرًا، وأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْب، وأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا) رواه أحمد.

ثُمَّ كَرَّرَ اللهُ تِلْكَ البُشْرَى لِعِبَادِهِ فقال: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وهَذَا تَأْكِيدٌ لِلكَلَامِ؛ لِيَكُونَ أَقْوَى لِلأَمَل، وأَبْعَثَ عَلَى الصَّبْر.. وقَدْ جاءَ (العُسْرُ) مُعَرَّفٌ في الآيَتَيْن: فَهُوَ وَاحِدٌ مُفْرَد. وَ(الْيُسْرُ) مُنَكَّرٌ: فَتَعَدَّدَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "يَقُولُ تَعَالَى: خَلَقْتُ عُسْرًا وَاحِدًا، وخَلَقْتُ يُسْرَيْنِ؛ ولَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن".

وَكُلُّ الحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ** فَمَوْصُولٌ بِهَا الفَرَجُ القَرِيبُ

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

_____________

الخطبة الثانية 

 

الحمدُ للهِ حمدَ الشَّاكِرين، الحمدُ للهِ حَمْدًا كثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيه، لا انقِطَاعَ لهُ إلى يومِ الدِّين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وليُّ الصَّابِرين، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه إمامُ المُتَّقين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِه أجمَعين.. أما بعد:

يقولُ جلَّ وعلا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أَيْ: إذَا تَفَرَّغْتَ مِنْ شَوَاغِلِ الحَيَاة، فَاجْتَهِدْ في العِبَادَةِ والدُّعَاء، ولَا تَكُنْ مِمَّنْ إذَا تَفَرَّغُوا: اشْتَغَلُوا بِالمَعْصِيَة، وأَعْرَضُوا عَنْ رَبِّهِم.

وليسَ أجمَلُ مِنْ وَقْتٍ تَدَعُ فيهِ أشغالَ الدُّنيا وهُمومَها خَلْفَ ظَهْرِك، لِتَخْلُوَ بينَ يدَيْ ربِّك، (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)

(وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ؛ أَيْ: فَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك، واجْعَلْ رَغْبَتَكَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِه؛ فَلَا تَطْلُبْ حَاجَاتِكَ إلَّا مِنْه، ولا تُسْلِمْ وَجْهَكَ إلَّا له، ولَا تُعَوِّلْ فِي جَمِيعِ شُؤونِكَ إلَّا عَلَيْه، ولا تُفَوِّضْ أمُورَكَ إلَّا إليه.

ألَا فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، تزوَّدوا مِنْ معَاني القرآن، وتَخَلَّقوا بأَخْلاقِه، افْرَحُوا به، واشْكُروا اللهَ عليه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

 

ثم صلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلقِ الله؛ محمد بن عبدِالله.. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن آله الطيبين الطاهرين، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وأعنه وولي عهده على البر والتقوى، ووفقه وجميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.

اللهم احفظ رجالَ أمننا، وانصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم احفظهم بحفظك التام، واكلأهم بعينك التي لا تنام، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

1645698775_خطبة 24-7-1443 تأملات في سورة الشرح.docx

1645698775_خطبة 24-7-1443 تأملات في سورة الشرح.pdf

المشاهدات 4059 | التعليقات 0