(خطبة) هل استعديت للرحيل من هذه الدار
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( هل استعديت للرحيل من هذه الدار ) 17/5/1445
أما بعد:
فيا أيها الناس أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله فمن لا يتقي الله يهلك .
لما احتضر سليمان التيمي قيل له : أبشر فقد كنت مجتهداً في طاعة الله ، فقال : لا تقولوا هكذا ، فإني لا أدري ما يبدو لي من الله عز وجل ، فإنه سبحانه يقول : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } .
عباد الله : إن العاصي لو عصى مخلوقاً لجزع من لقائه ، فكيف بمن يعصي الخالق جل جلاله ، فكيف يلقى خالقه محملاً بأوزاره وآثامه .
بكى محمد بن المنكدر عند الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ، ولكن أخاف أني أتيت شيئاً حسبته هيناً وهو عند الله عظيم .
كم من المسلمين اليوم من يجاهر بالمعاصي العظام والكبائر الجسام جهاراً نهاراً ، بلا خوف ولا حياء من جبار الأرض والسماء ،
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها *** وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها *** هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
أمة الإسلام : في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة ، كان المرض قد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسرت أنباء مرضه بين أصحابه ، وبلغ منهم القلق مبلغه ، واشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا فاطمة فسارها أنه سيقبض في وجعه هذا ، فبكت لذلك ، فأخبرها أنها أول من يتبعه من أهله ، فضحكت ، واشتد الكرب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغ منه مبلغه ، فقالت فاطمة : واكرب أبتاه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، وأوصى وصيته للمسلمين وهو على فراش موته فقال : الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم ، وكررها مراراً ، واشتد الألم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يدخل يديه في ركوة فيها ماء ، فيمسح وجهه بالماء وهو يقول : لا إله إلا الله ، إن للموت لسكرات ، ثم شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحركت شفتاه قائلا : مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، اللهم اغفر لي و ارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى ، اللهم الرفيق الأعلى ، اللهم الرفيق الأعلى ، اللهم الرفيق الأعلى ، وفاضت روحه الطيبة الزكية ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مات من أرسله الله رحمة للعالمين مات من أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ، فإنا لله وإنا إليه رجعون ، إنه الموت يا عباد الله ، الذي لا مفر منه ولا مهرب ، لا يعرف صغيراً ولا كبيراً ، ولا ذكراً ولا أنثى ، ولو نجى منه أحد لنجى منه أنبياؤه ورسله وصفوة خلقه.
أيها الناس : اتقوا الله واحذروا الموت كل ساعة ولحظة ، فملك الموت بالمرصاد يترقب دنو الأجل ليهجم على عجل ، ليقربك من آخرتك ، ويبعدك عن دنياك ، يدنيك من الآخرة ، ويقطع عنك الآمال والأحلام ، فأين العقلاء والشرفاء وأين الرفعاء والوضعاء عن أمر الموت ؟
عباد الله : ليست القضية قضية الموت فقط ، إنما الأمر مابعد الموت ،
ولو أنا إذا متنا تركنا ***لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ***ونسأل بعدها عن كل شيء
عباد الله : إن ا لموت أول طريق القيامة فمن مات قامت قيامته ، والموت عازل للمرء عن الدنيا تماما ، و مدخل له في الدار الآخرة ، وبعده يبدأ الحساب وينقطع العمل .
أخرج ابن أبي حاتم في تفسير عن قتادة في قوله الذي خلق الموت والحياة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله أذل بني ادم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء .
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، أقول قولي هذا .....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : مما تقرر في قلوب الجميع أن الموت يأتي فجأة ، فكل من مات لم يكن يدور بخلده أنه سيموت في تلك اللحظة ، لهذا كان لزاما علينا جميعا أن نستعد للموت كل لحظة ، وإن الموت عباد الله عبارة عن انتقال من دار إلى دار ، ثم محاسبة وجزاء ، فمن الغرور أن نخلد لهذه الدار ونعمرها ونطارد شهواتنا ، ونغفل عن الآخرة التي هي المستقر وفيها الجزاء .
عباد الله : صحيح أن الله فطر الإنسان على طول الأمل ، ولكن لا ينبغي أن يكون طول الأمل صادا عن فعل الخير ، ومغرقا للعبد في الذنوب .
فالكل منا على يقين أنه سيرحل من هذه الدار ، ولكن هذا اليقين فيه خلل ، لأننا إذا علمنا ذلك كان لزاما علينا أن نقدم لهذه الدار ، فلماذا نتقاعس عن الصدقة ، وعن فعل الخيرات من صيام وقيام وعبادات ، ولماذا نقع في الموبقات والمعاصي ، لأننا نستبعد أن نموت هذه اللحظات ، ونقول قد بقي لنا سنوات بل عشرات السنوات في هذه الدنيا ، ووالله إن هذا لهو الغرور وقلة العقل .
أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت ، فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك . قال ابن رجب رحمه الله : وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا ، فيطمئن فيها ، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر : يهيئ جهازه للرحيل . وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال : يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [ غافر : 39 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها . ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم : اعبروها ولا تعمروها ، وروي عنه أنه قال : من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنيا ، فلا تتخذوها قرارا . ودخل رجل على أبي ذر ، فجعل يقلب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذر ، أين متاعكم ؟ قال : إن لنا بيتا نوجه إليه ، قال : إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا ، قال : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه .
و دخلوا على بعض الصالحين ، فقلبوا بصرهم في بيته ، فقالوا له : إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل ، فقال : أمرتحل ؟ لا أرتحل ولكن أطرد طردا . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل . قال بعض الحكماء : عجبت ممن الدنيا مولية عنه ، والآخرة مقبلة إليه يشغل بالمدبرة ، ويعرض عن المقبلة . وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب الله على أهلها منها الظعن ، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب ، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطنا ، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة ، همه التزود للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة ، بل هو ليله ونهاره ، يسير إلى بلد الإقامة . قال الفضيل بن عياض : المؤمن في الدنيا مهموم حزين ، همه مرمة جهازه . ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى وطنه ، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ، ولا يجزع من الذل عندهم ، قال الحسن : المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن ، وللناس شأن . لما خلق آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ، ثم أهبطا منها ووعدا بالرجوع إليها ، وصالح ذريتهما ، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول ، وحب الوطن من الإيمان ، كما قيل :
كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
وقال ابن القيم رحمه الله :
: فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
اللهم ارزقنا الاستعداد ليوم الرحيل
اللهم أحسن خاتمتنا وتوفنا مع الأبرار ....
المرفقات
1701349906_هل استعديت للرحيل من هذه الدار.doc