خطبة: كن مع الله

عبد الرحيم المثيلي
1443/01/11 - 2021/08/19 22:56PM

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

عباد الله: إن من عقيدتنا - أهل الإسلام - أن الله مع المؤمنين بتأييده ونصره وحفظه وإعانته لهم.. يعينهم وينصرهم, ويؤيدهم ويحفظهم, وكلما كان العبدُ أكملَ إيماناً كان تأييدُ الله وعونُه له أكبرَ وأعظم.

فكن مع الله يكنِ اللهُ معك.. تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعتِ الأقلام وجفتِ الصحف.

هذه العقيدةُ التي يجب أن نعيش عليها, ونموت عليها, ونربي أبناءنا عليها..

فإذا شعرت يوماً من الأيام بحزن؛ فاعلم أن فرجك بيد الله, وإذا شعرت بأسى فاعلم أن أمرك بيد الله, وإذا شعرت بضعف فاعلم أن قوتك إنما تستمدها من الله, وإذا شعرت بفقر؛ فاعلم أن غناك بيد الله, لأجلِ هذا عش لله ومع الله وبالله..

تأمل في كتاب الله -عز وجل- كيف أن الله أنزل كتاباً عظيماً لهدايتك, وأن الله عز وجل أرسل رسولاً كريماً لدعوتك, فأنت تعيش أمام منهج واضح عليك أن تعبد الله, وتتوكل عليه ولك أن يتولاك برعايته وحفظه ويهب لك معيته فلا تحتاج معه إلى أحد

عباد الله: وإذا تأملت في كتاب الله عز وجل, وفي سنة رسوله r كان هذا الأمر لك واضحاً ..كل من كان مع الله كان الله معه .. كل من احتاج إلى الله فدعا الله أجابه .. فهل سمعتم أحداً دعا الله فما أجابه؟! هل سمعتم أحداً لجأ إلى الله فخيبه؟! أو دعا الله فرده, أو استغاث بالله فلم يغثه, أو استعان به فلم يعنه.. كلا والله لا يخزيك الله أبداً إن كنت معه.. يجب أن تكون هذه عقيدة عندنا, متى كانت حياتك كلها لله فإن الله يكون معك {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] تأمل في كتاب الله في هذه المواقف لتظهر لك الحقيقة.. تأمل كيف نجى الله يونس – عليه السلام - من ظلماتٍ ثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88] لما عرف الله في الرخاء كان معه في حال كربته, قال الله جل في علاه {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ – أي في حال الرخاء - (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 139 - 144].

وتأمل كيف قال الله: (وكذلك ننجي المؤمنين) فليس الأمر خاصاً بيونس عليه السلام بل كل مؤمن كان مع الله كان الله معه!

وتأمل كيف نجى الله إبراهيمَ - عليه السلام - من نار عظيمة أراد قومه أن يلقوه فيها {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } [الصافات: 97] فقال الله: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69، 70] وأيضاً هذا الأمر ليس خاصاً بإبراهيم – عليه السلام- ولا بالمرسلين.. تأملوا هذه القصة التي ذكرها ابن كثير في تاريخه وغيره.. يقول: ادعى رجلٌ من أهل اليمن النبوة يقال له الأسود العنسي؛ فافتتن الناس به, واتبعه فئامٌ منهم؛ فبعث إلى أبي إدريس الخولاني من علماء اليمن فقال له: أتشهدُ أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع، أشهد أن محمداً رسول الله. كرر ذلك عليه فلم يسمع إلا الجواب نفسه. أشهد أن محمداً رسول الله؛ فأجج له ناراً، وألقاه فيها، فأنجاه الله من النار، وخرج يمشي على رجليه، ثم هاجر إلى المدينة؛ فأناخ راحلته، ودخل المسجد يصلي؛ فبصر به عمر t؛ فلما عرفه قبله بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد r من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل. من كان مع الله كان الله معه!

عباد الله: يحاصر كفار قريش بيت رسول الله r فيخرج إلى غار ثور دون أن يروه, وفي الغار يمر المشركون من أمام مدخل الغار فيقول أبو بكر:  يا رسولَ الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى قَدَمَيه لرآنا، فقال r: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما؟!

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40] إذا كان الله معك كانت لك النصرة والغلبة والعون والتوفيق وكل خير ترجوه..

فالزم يديك بحبل الله معتصماً .. فإنه الركن إن خانتك أركان

إن عدى عليك معتدٍ, أو تجرأ عليك ظالم, أو تقوى عليك طاغية, أو استعان عليك بأعوانه؛ فاعلم أن خلاصك بيد الله!

فإذا كنت مع الله؛ فلا يضرك المكر والمكائد, ولا يضرك الأعداء, ولا يضرك البلاء؛ لأن ذلك كلَّه بيد الله تعالى يصرفه عمن يشاء, ويصيب به من يشاء.. ففي كل موقف كن مع الله ..يكن الله معك!

وهذه أمُّ موسى عليه السلام تخافُ على طفلها الرضيع من فرعون وملائه أن يقتلوه؛ فقد وُلد موسى في السنة التي يَقتلُ فيها فرعون الذكور من بني اسرائيل, {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].

فتلقي ابنها الرضيع في اليم, فيلقيه اليم بالساحل؛ فيلتقطه آل فرعون إلى قصر فرعون.. ألقته في اليم لينجيه الله من فرعون؛ فيشاء الله أن الذي تخاف منه أن يقتل موسى هو الذي سيقوم بتربية موسى.. من كان مع الله فلن يضره شيء..

ويحاصر فرعونُ وجنوده موسى وقومَه.. البحرُ من أمامهم, والعدو من خلفهم؛ فيقول أصحابُ موسى إنا لمدركون.. فيتكلم موسى كلمة الواثق من نصر الله, الذي امتلأ قلبُه بالإيمانِ واليقين, والتوكلِ على اللهِ رب العالمين.. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 61 - 68].

فتأملوا – عباد الله – كيف أن البحرَ لم يغرق موسى الرضيع, وهو في غاية ضعفه بينما أغرق فرعون الملك, وهو في قمة جبروته ..لتعلموا أن من كان مع الله لن يضره ضعفُه, ومن لم يكن مع الله لن تنفعَه قوتُه!

وليس هذا خاصاً بموسى عليه السلام ولا بالأنبياء فقط فالله جل وعلا يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

فلتكن مع الله ليكون الله معك.. أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه..

الخطبة الثانية

أما بعد: فاعلم - عبد الله - أنه ليس بك غنى عن الله طرفة عين, ففي المرض أنت محتاجٌ إلى الله, وفي طلب الرزق أنت محتاجٌ إلى الله, وفي تربية أولادك أنت محتاجٌ إلى الله, وفي قضاء جميع حوائج لا غنى لك عن الله ..فكن مع الله في جميع أحيانك.. يكن الله معك في تيسير أمورك, وقضاء حوائجك..

عباد الله: وللأسف أننا نغفل عن هذا الأمر كثيراً  يمرض الواحد منا أو يمرض أحد أبنائه؛ فتتجه القلوب والألسن معاً للبحث عن الطبيب الحاذق, والمستشفى المميز قبل أن تتجه قلوبنا إلى الله.. الشافي من كل داء؛ فننسى أن نلجأ إليه بالدعاء, ونطلبَ منه أن يرفع البلاء, تلتفت القلوبُ إلى الأسباب, وتنسى مسببَ الأسباب, تركن إلى الدواء, وتغفل عن منزلِ الدواء وخالقه, ورافعِ البلاء ودافعه..

 تتعسر معاملةٌ في جهةٍ ما فلا تتم الموافقة عليها, أو تتأخر؛ فتتجه القلوب وتنهض الهمم للبحث عن واسطة يعين في إنجاز هذه المعاملة, وتغفل القلوب عن مدبر الأمور الذي بيده أمر الدنيا والآخرة, مفاتيح كل شيء بيده سبحانه وبحمده

أرأيتم كيف هو حالنا مع الله؟!

نتذكر عند الخطوب والشدائد كل أحد, ونغفل عن الواحد الأحد!

يخطر في بالنا كلُّ الخلق, ونسعى جاهدين في الوصول إليهم, ولا نسعى إلى الذي بيده ملكوتُ السموات والأرض.. ونحسنُ الظن في كل ذي جاه بأنه سيعيننا, ويسوءُ ظننا بربنا..

وأفضلُنا حالاً الذي يدعوه ويحسن الظن به, ولكنَّ الواسطةَ عنده أهم, والحرصَ عليها في نفسه أعظم, والبحثَ عن المعين من البشر هو المقدمُ لديه!!

فكيف نريد أن يكون الله معنا وهو آخر من نلجأُ إليه؟!

أيها المؤمنون: جاهدوا أنفسكم لتفوزوا بمعية الله. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

المرفقات

1629413768_كن مع الله.doc

1629413768_كن مع الله.pdf

المشاهدات 15178 | التعليقات 0