خطبةٌ جليلة ويومٌ عظيم 8/ 12 /1445

د عبدالعزيز التويجري
1445/12/07 - 2024/06/13 14:10PM

الخطبة الأولى: خطبةٌ جليلة ويومٌ عظيم           8/12/ 1445ه

الحمدلله ذو الفضل والإنعام ، والخير والبر والإحسان ، وأشهد أن لا إله إلا الله إنه هو البر الرحيم وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله أفضل من صلى وصام وحج بيت الله الحرام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وعلى من سار على دربهم واتبع الآثار إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا. اما بعد

{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا}{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى}.

    ما اسعد وأهنا من بلغه الله في هذه الأيام البلد الحرام، ومشى بين تلك الربوع  من البيت العتيق إلى ثرى منى متوجهاً إلى عرفات ..

  ياراحلين إلى البيتِ العتيقِ لقد    ***    سرتم جسومًا وسرنا نحنُ أرواحا

   إنا أقمنا على عذرٍ وعن قــــــــدرٍ   **     ومن أقامَ على عذرٍ فقد راحـا

كم حفيت أقدامُ ولهثت نفوس وهي تيممُ طيبة الطيبة لتصحب أعظم موكب وأكرم موكب يقوده أشرف من وطئ الثرى، كأنك تسير مع ذاك الركب الطاهر تتخطى الأودية والسهول والبطاح .. فتعود بك الذكريات، حين مشى عليها أطهرُ نفسٍ أحرمت، وأزكى روحٍ هتفت في مشهدٍ مهيب وجمعٍ غفيرٍ ومسيرةِ حجٍ مباركةٍ بين الحطيمِ وزمزمِ، وعلى ثرى مزدلفةَ وعرفات..

       يا ليتني كنتُ بين القومِ إذ حضروا       مُمَتَّعُ القلبِ والأسمــــــاعِ والبصــــــــــرِ

        أقبِّل الكفَ كف الجودِ كم بَذَلت       سحّاءَ بالخيرِ مثلَ السلسل الهدر

              أُسَّرُ بالمشي وإن طال المسيرُ بنا      وما انقضى من لقاء المصطفى وطَري

وفي صبيحة عرفة يسير الركب الطاهر من منى إلى عرفات، ليقف المعصوم عليه الصلاة والسلام في أعلى بطن عرنه، فصلّى بالناسِ الظهرَ والعصرَ جمعاً ، ثم ركبَ ناقته القصواء متوجهاً إلى الناس، وجموعُ الحجيجِ بين يديه مد البصر ، أعناقهم مُشرأبة إليه ، وأبصارهم شاخصة ترقب أعماله وتحركاته ، والأسماع متلهفة لحديثه وكلامه ..

             كأنني برسول الله مرتدياً          ملابس الطهر بين الناس كالقمرِ

            يقوم في عرفات الله ممتطياً          قصواءَه يا لَهُ من موقف نضِــــــــــر

           يشدو بخطبتهِ العصماءُ زاكيةً        كالشهدِ كالسلسبيلِ العذب كالدرر

            مجلياً روعة الإسلام في جملٍ         من رائع من بديع القول مختصـــــــر

فخطبَ الناسَ خطبةً عظيمةً بمعانيها ، موجزة بمبانيها ، بالغة بتأثيرها ، بيّن فيها معالمُ الدينِ، وأساسُ الحنيفيةِ، وأبطلَ ظلمَ الجاهليةِ وحكمِها، وأوضعَ الربا فقال  "أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ".

ومنع الدّماء من أن تراق، والأموال من أن تؤخذ بغير استحقاق؛ والظّلم في البلد الحرام حرام «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا"

 وأعلن حقوق المرأة بدون هضم أو استعلاء "فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ"

 ثم عمم فأعلن حقوقَ الإنسانِ ومبادئَهُ "ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على عجميٍّ، ولا لِعَجَمِيٍّ على عَربيٍّ، ولا لأَحْمرَ على أسْوَدَ، إلا بِالتقْوى"

 وأصّلَ في هذا اليومِ العظيم أنّ المرجعَ والتحاكمَ والاعتصامَ إنما هو لكتابِ اللهِ ولأمرِ اللهِ ولشرعِ اللهِ "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ"

وأحطمخهاتخهعسبرييكحختهقثبخوأومأ إلى قربِ رحيلهِ ودنو أجلهِ، فكان صلى الله عليه وسلم يقولُ بعد كل مقطع من خطبته: (ألا هل بلغت)، فيقول الصحابة: نعم، فرفع r أصْبَعَه السَّبَّابَةَ، إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ ويقول «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ».

وفي هذا اليومِ العظيمِ وبينما رسولُ اللهِ r واقفٌ عشيةَ عرفةَ أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} فقرأها على الناسِ معلناً كمال الدينِ وتمام النعمةِ، فلما سمعها عمر رضي الله عنه فَقِهها ، واستشعر من معناها أنّ مهمةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد انتهت، فاستعبر باكياً وقال: ليس بعد الكمال إلا النقصان.

فيا هنى من حضي بالوقوفِ في هذه اللحظاتِ على صعيدِ عرفات، بدعواتٍ صالحاتٍ موقنات، راجيًا رباً رحيماً ، داعياً براً  كريماً بإخلاص وإخبات ..

         أولاكَ الوفدُ وفدُ اللهِ لاذو   **   إليهِ بفقرهمْ وهوَ الكريمُ

أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور.

 

 

 

الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين ...

بشراكم أيها الصوامُ في الأمصارِ بمغفرةِ اللهِ لذنوبكم ففي صحيح مسلم «وصِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»

فأيامُ المواسمِ مكرمةُ مفضلةٌ، وأوقاتُها مرفوعةٌ أعمالهَا متقبلةٌ..

وهذا اليومُ خيرُ أيامِ اللهِ، وبلوغهِ منحةٌ ربانيةٌ و" مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ " أخرجه مسلم.

ولا ينزل الله في إلى السماء إلا في زمن عظيم ولم يثبت نزوله نهارا إلا يوم عرفة ، ولا أوسع من باب رحمته فيه ، والمحروم من لم يجد مدخلا.

أدنى ماتكون الجنة وأبعد ما تكون النار في عرفة، والمحروم من لم يجد عملا ينجيه، قال عليه الصلاة والسلام"ما من يوم أكثر من أيعتق الله فيه من النار من يوم عرفه"

في هذا اليومِ العظيم لا يُسألُ إلا الله، ولا يُرجى إلا إياه، رأى سالمُ بنُ عبد اللهِ بنِ عمرَ سائلا يسألُ يومِ عرفة فقال: يا عاجز، في هذا اليوم تسأل غير الله؟

"وخَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَة". فالصائم إذا نادى ربه لبّاه الله وأجابه، فلا تهنوا في الدعاء ولا يحقرنّ أحدُ في هذا اليومِ نفسَه فكمٍ  أَشْعَث أغبر ذِي طمرين ، لَو أقسم على الله لَأَبَره.

كم من دعوةٍ كُتبَ لصاحبِها سعادةٌ لا يشقى بعدها أبداً! وكم من دعوةٍ كُتبَ لصاحبِها رحمةٌ لا يعذبُ بعدها أبداً!

 "وخير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة" فاقبل على ربك من كل قلبك .. فكم أشرقت شمس هذا اليوم على أشقياء فغابت وهم سعداء! و كم أشرقت على أقوام مذنبين مسيئين فغابت وهم مطهرون مرحومون مغفور لهم!

فلله نفحات ولله رحمات، وخزائنه ملأى، بيده سبحانه وتعالى الخير كله، فناديه وأنت موقنٌ برحمتهِ، وأنك أفقر العباد إليه، وأغناهم به سبحانه وتعالى، وتعج ببابه جل جلاله مسترحماً مستعطفاً لله سبحانه وتعالى.

       فكم من عتيق فيه كمل عتقه        وآخر يستسعي وربك أكرم

«ومَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَصْغَرَ وَلَا أَذَلَّ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام .

فابتهلوا فيه إلى ربكم، وتضرعوا إلى مولاكم، ولاتشغلوا أهليكم بتجهيز الافطار وفرغوهم للقرب من الملك القهار ، ودعوا لانفسكم وأهليكم وللمستضعفين والمنكوبين والمأسورين من المسلمين والمسلمات، ولتعج البيوتُ والمساجدُ، وليجأرَ الصغيرُ والكبيرُ والذكرُ والانثى، فإنّ الله يُحب فقر عباده وحاجتَهم إليه، ثم أحسنوا الظنّ بالله يغفرْ لكم ويجيب دعواتكم، قال عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: جِئْتُ إلَى سُفْيَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلاَنِ، فَالْتَفَتُ إِلَيه فَقُلْتُ: مَنْ أَسْوَأُ هَذَا الْجَمْعِ حَالاً؟ قَالَ: الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُغْفَرَ لَهُ.

قدموا بين يديكم توبة نصوحا " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات"

إنّ من تَمامِ شُكْرِ المولى عزَّ وجلَّ تكبيرُ اللهِ وذكرهِ وشكرهِ، والتقرب إليه بذبح

الأضاحي سنة محمد r ، قال ابن عمر t أقامَ النبيُّ r بالمدينة عشرَ سنين يضحي كل سنة. أخرجه الامام احمد

والاضحية تجزئ عن الرجل واهل بيته، قال عطاء بن يسار سألت أبا أيوب رضي الله عنه كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباها الناس فصارت كما ترى. أخرجه مالك والترمذي وصححه .

والأضحية شُرعت لتحقيقِ التقوى، وَالْإِخْلَاصُ، وما يرتفع لله إلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم اللهم ارزقنا الإخلاص والقبول والغعانة على طاعتك وحسن الإقبال عليك ..

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وارض اللهم عن صحابته اجمعين وعمنا معهم برحمتك يا ارحم الراحمين .

اللهم آمنا في دورنا واصلح ولاة أمورنا ...

المرفقات

1718277936_خطبةٌ جليلة ويومٌ عظيم.docx

1718277936_خطبةٌ جليلة ويومٌ عظيم.pdf

المشاهدات 1535 | التعليقات 0