خطبة: الحلف بغير الله

د صالح بن مقبل العصيمي
1446/03/02 - 2024/09/05 16:29PM

خطبة: الحلف بغير الله. الخطبة الأولى.

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

1. عباد الله: إن الحَلِفَ باللهِ، أمرٌ مَشْروع، وَمِنْ عِظَمِ الحَلِف باللهِ؛ فإِنَ المحْلوف لهُ، يَقْنَعُ ويَرضْىَ إذا حَلِفَ لهُ الحَالف؛ لأنهُ يَدُلُ عَلىَ تَعْظِيمه لله، وقد حذر الله جل وعلا، من الحلف الكاذب، فقال تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقد بين الله عِظم الحلف به، فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾.

2. عباد الله: إنْ مِنْ الحِكْمة في مشروعية الحلف هي: تأكيد الحَالف للمحْلوف لهُ، عَلى صِحة ما يذْكُرهُ لهُ، حتى يُصْبحَ واثقًا في قوله، مُتيقنًا بصدْقِ ما يقُولهُ لهُ، وحتى يَزيلَ عنْهُ أي حَرج قَدْ يَقَعُ في قَلبهِ.

3. ولقد بوَّبَ الإمامُ المُجدد، شَيخُ الإسلامِ: محمد بن عبد الوهاب رحمهُ الله، في كتاب التوحيد: "باب ما جاء في كثرة الحلف" من الوَعيِد الشديد، وذلكَ لأنهُ دَليلٌ على نقص تَعْظيم الله تَعَالىَ في القُلوب؛ فإن كَثرة الحَلف تُفضىَ إلى أمرين: التساهُل والاستهَانةُ باِسم الله تَعَالىَ، والوقُوعِ في الكَذِب.

4. ولذا حَذّرَ الشَارعُ الحَكيِمِ، من تعويد الألسن على كثرة الحلف؛ لأنها قد تستخدم في أمور غير مشروعة، فتعتاده الألسن، وخاصةً ألسنت الباعة، حتى يصبحون لا يبيعون ولا يشترون إلا بالأيمان، ولذلك جاء التحذير الشديد من اللجوء إلى هذا الفعل، ففي الحديث الصحيح، قال ﷺ: (ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهُمْ اللهُ ولا يُزَكِّيهِم ولهم عذابٌ أليمٌ أُشَيْمِطُ زانٍ وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ورجلٌ جعلَ اللهُ بضاعتَهُ لا يَشْتَرِي إلا بيمينِهِ ولا يبيعُ إلا بيمينِهِ).

5. لأن هناك الكثيرُ من الباعة، ممَّن يَجْعَلُون الحَلِف بالله بضاعةً لهم، ويُكْثِرُون مِن استعماله في البيع والشراء، فيَمْتَهِنُون اسم الله تعالى، ويَجْعَلُونه وسيلةً لاكتساب المال؛ لا سيَّما مع انتشار الكذب في كثيرٍ من أسواق المسلمين، وانعدام الثقة بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

6. وهذه من الظواهر المنتشرة بين المسلمين، فلو أنك دخلت الأسواق، لوجدت هذه الظاهرة مُتفشية، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، قال ﷺ: (الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ)، كذلك موجودة في أماكن التجمُّعات، أو مواضع ومواطن الجدال لسمعتَ الحلف بالله على كل صغيرة وكبيرة؛ وهكذا في سائر المعاملات اليومية.

7. ولذا كان سلف الأمة يكرهون أن يتربى الصغار على ما هو أقل من الحلف، حتى لا تعتاده ألسنتهم، كما جاء في صحيح البخاري، قال إبراهيم النخعي -رحمنا الله وإياه-:(وكانُوا يَضْرِبُونَنا علَى الشَّهادَةِ والعَهْدِ ونَحْنُ صِغارٌ).

8. ولقد حذر الرسول ﷺ من الحلف بغير الله، فقال ﷺ: (مَن حلف بشيءٍ دونَ اللهِ فقد أشرك). رواه أحمد وغيره بسند صحيح.

9. وفي رواية قال ﷺ: (مَن حَلَفَ بغَيْرِ اللهِ فقد كَفَرَ أو أشْرَكَ) رواه أحمد وغيره بسند صحيح.

10. ومن فقه ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- أنه قال: (لأن أحلفَ باللهِ كاذبًا أحبّ إليّ من أن أحلفَ بغيرهِ صادقًا). لأن الحلف بالله كاذبًا معصيةٌ وذنب، ولكن لا يُستهان به، أما الحلف بغير الله فهو: شرك لا يُغفر إلا بتوبةً، والعجيب أن هناك من أبناء الإسلام ممن يُصدق الحالف؛ إذا حلف بغير الله، أكثر من تصديقه له؛ إذا حلف بالله، مع أمر الرسول ﷺ لنا أن نقبل بحلف الحالف، ولو علمنا كذبه؛ لأن ذلك من تعظيمنا لله، لذا قال ﷺ: (من حلَفَ باللَّهِ فليصدُقْ ومَن حُلِفَ لَه باللَّهِ فليَرضَ ومَن لَم يرضَ باللَّهِ فليسَ مِنَ اللَّهِ). رواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح. ومع ذلك فإننا نرى من البعض العكس؛ فإنهم يثقون بمن حلف لهم بغير الله أكثر بثقتهم ممن حلف لهم بالله، بل؛ ونجد أن بعض أهل الكذب في الأيمان يمتنع أن يحلف بغير الله، لعظم المحلوف عنده به، ولا يتردد أن يحلف بالله كاذبًا، وذلك دليل على استهانته بالله، واستخفافه بالأيمان، ومن ذلك ما نراه من كثرة الحلف بالطلاق.

11. فلابُد من التنبيه إلى أشهر صور الحلف بغير الله، ومن ذلك: -

- أولًا: الحلف بالطلاق: حتى أصبح بعضًا من الناس، يثقوا بحلف الحالف بالطلاق أكثر من حلفه بالله، وهذا يدل على تعظيم الحالف، والمحلوف له، لعقد الزوجية، أعظم من تعظيمهم لله، ولأسمائه وصفاته، فالحلف بالطلاق مُنكر يلزم اجتنابه؛ لأنه حلف بغير الله، بل حلف بمخلوق، والحلف لا يكون إلا بالله تعالى، وبأسمائه وصفاته.

- ثانيًا: ومن صور الحلف بغير الله، الحلف بالأمانة: والأمانة مخلوقة، فيأتي رجل لأخر فيخبره بخبر فيريد المُخبَر أن يتأكد من صحة المُخبِر؛ فيقول له: أمانة، فيقول نعم، فيصدقه، ولقد حذر ﷺ بالحلف بالأمانة، فقال ﷺ: (ليسَ منَّا مَن حلفَ بالأمانةِ) رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.

- ثالثًا: ومن صور الحلف بغير الله، الحلف بالذمة: فيأتي إنسان فيخبر أخر، فيقول له: لقد وقع كذا وكذا، فيريد المُخبر أن يتأكد من صحة الخبر، فيقول له: بذمتك؟ فيقول: نعم، أو يبادر المُخبر فيقول: بذمتي وقع كذا وكذا، وقد نص العلماء أنه لا يجوزُ الحَلِفُ بالذِّمَّةِ، ولا تَنعقِدُ به يمينٌ، قال شيخنا ابن باز -رحمنا الله وإياه-: (إذا قال: بأمانتي، أو برأس فلان، أو بذمتي، أو والأمانة فهذا كله لا يجوز؛ لأن الحلف يكون بالباء، أو بالواو، أو بالتاء: تالله، والله، بالله، فهكذا إذا قال: بالأمانة والأمانة والكعبة بالكعبة، وحياة فلان، وشرف فلان، وحياة أبيه، ونحو هذا، كل هذا يسمى حلفًا بغير الله، لا يجوز).

- رابعًا: ومن صور الحلف بغير الله، الحلف بالآباء: فيقول الحالف للمحلوف له، ليبين له صدق خبره، وصحة كلامه: ورأس أبي أو بوالدي، ولا يلجأ إليه الحالف إلا إذا كان واثقًا، من صحة ما يخبر عنه، والأدهى والأمر أن المحلوفَ له، يثقوا بمن حلف بأبيه، أكثر من ثقته بمن حلِف له بالله، وهذا يدل على ضعف توقير، وتعظيم الحالف والمحلوف له بالله، ولذا قال ﷺ: (لا تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ، ومَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ) رواه البخاري ومسلم.

- خامسًا: ومن صور الحلف بغير الله، الحلف بالصلاة: فيقول بعضهم: بصلاتي لم أفعل كذا، أو فعلت كذا وكذا، والحلف بالصلاة شرك؛ لأن الصلاة من أفعال العباد، ولا يُحلف لا بعبدً ولا بفعله، ولو كان فعله طاعةً لله، قال شيخنا ابن باز -رحمنا الله وإياه-: (ولا يجوز الحلف لا بالصلاة، ولا بالذمة، ولا بالحرج، ولا بغير ذلك من المخلوقات، الحلف يكون بالله وحده، فلا يقول بذمتي ما فعلت كذا، ولا بذمة فلان، ولا بحياتي، ولا بصلاتي، بل؛ ولا يُقال له قُل بذمتي، ولا قُل بصلاتي، قُل بزكاتي، كل ذلك لا أصل له ولا يجوز؛ لأن الصلاة والزكاة، من أفعال العباد، لا يُحلف بها، وإنما الحلف بالله وحده). انتهى كلامه رحمنا الله وإياه.

- ومن صور الحلف بغير الله: الحلف بالنبي، والكعبة، والملائكة، والسماء، والماء، والحياة، والنعمة، وتربة فلان، ونحوها، فإنها كلها مخلوقة من مخلوقات الله، ولا يُحلف إلا بالخالق.

- ومن حلف بغير الله فإن يمينه لا تنعقد باتفاق العلماء، فقد قال الإمام ابن تيمية الحراني الدمشقي -رحمه الله-: "وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله، ولو حلف بالكعبة أو الملائكة أو بالأنبياء عليهم -الصلاة والسلام- لم تنعقد يمينه". قال الإمام ابن القيم -رحمنا الله وإياه-: (ومن الكبائر الحلف بغير الله؛ لأن صاحب الشرع جعله شركًا، فرتبته فوق رتبة الكبائر، كما ذكر ذلك في اعلام الموقعين. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ.

 

———— الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ —————

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً. أمَّا بَعْدُ... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 عباد الله: من حلف بغير الله فعليه التوبة، وذِكر التوحيد، لقوله ﷺ: (مَن حَلَفَ فقالَ في حَلِفِهِ: واللَّاتِ والعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ومَن قالَ لِصاحِبِهِ: تَعالَ أُقامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) رواه البخاري ومسلم. لأن بقوله لا إله إلا الله في كل حلف بغير الله، فذلك دليل على براءته من الشرك، قال الإمام الطبري -رحمنا الله وإياه-: (وذلك واجب مع الندم على ما قال من ذلك، وعلى أن يعزم على ألا يعود، فلا يُعظم غير الله، وفي هذا إحداث بالتوبة) انتهى كلامه، وقال ابن الجوزي -رحمنا الله وإياه-: (فإنه إذا حلف بغير الله فقد ضاه الكُفار، فأمر أن يتدارك ذلك، بكلمة التوحيد المبرأة من الشرك). انتهى كلامه رحمنا الله وإياه. فعلينا عباد الله، الحذر غاية الحذر من هذا.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ واحفظهم بحفظك، وأحطهم بعنايتك، وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ امْدُدْ عَلَيْنَا سِتْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا النِّيَّةَ وَالذُرِّيَّةَ وَالْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.

المرفقات

1725542959_خطبة الحلف بغير الله.docx

1725542959_خطبة الحلف بغير الله.pdf

المشاهدات 169 | التعليقات 0