حسابٌ مؤجلٌ ليومِ الحسابِ - موافقةٌ للتعميمِ

عاصم بن محمد الغامدي
1445/05/24 - 2023/12/08 10:44AM

الحمد لله خالق كل شيء، ورازقِ كلِّ حي، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، قسم النعم بين الأمم، وفاوت بينها في الأقدار والقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.

عباد الله:

كان تاجرٌ يسجِّل في دفتره أسماءَ الناسِ الذين يأخذونَ بالدَّينِ، ويطالبُهم بما عليهمْ نهايةَ كلِّ شهرٍ، فمن سدَّدَ طمَسَ التاجرُ اسمَهَ منَ الدفترِ، وربما تساهلَ بعضُهم في السدادِ شهرًا وشهرين، غفلةً عن ضرورةِ المبادرةِ لسدادِ الديونِ.

أما ذلك الشخص فقد تأخرَ عن السدادِ مدةً طويلةً، ولعلَّ التاجرَ طالبه عدَّةَ مراتٍ فلم يفِ لهُ بحقِّهِ، فلما أيسَ التاجرُ منهُ طمَسَ اسمَهُ ومقدارَ الدَّينِ، وكتبَ بجوارِهِ: هذا حسابٌ مؤجلٌ ليومِ الحسابِ.

إنها عبارةٌ مخيفةٌ لمن كانَ له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ، فالفصل بين الناس ذلك اليوم، لـ﴿‌مَالِكِ ‌يَوْمِ الدِّينِ﴾، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ‌تَخْتَصِمُونَ﴾، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ ‌التَّشْدِيدِ» فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا ‌التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ».

فما رأيكم لو كان ذلك الشخصُ مدينًا لتاجرٍ آخرَ أو تاجرينِ أو أكثرَ؟

فما رأيكم لو كان مدينًا لجميعِ الناسِ؟

وهل ذلك ممكنُ الحصولِ؟

نعمْ! فإنَّ المالَ نوعانِ:

مالٌ يملكه أشخاصٌ محددونَ معروفونَ ويصرفونه على مصالحِهم الخاصة.

ومالٌ ليس له مالكٌ محددٌ، بل هو لعمومِ المسلمينَ، يصرفُه ولي أمرِهِم أو من يُنيبهُ في مصالحهم العامة، كالمستشفيات والمدارس والجامعات، والحدائق والملاعب، والمؤسسات والوزارات، والجسور والشوارع والطرقات، والكهرباء والمياه، وغيرها.

ومع أن الاعتداء على النوعين محرم، إلا أن الاعتداء على المال العامِّ أكثر خطرًا، وأعظم جرمًا، ولهذا تورع الصالحون قديمًا وحديثًا في المال العام أكثر من غيره، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرضَ للمهاجرينَ من بيتِ المالِ أربعةَ آلافٍ، وفرضَ لابنِهِ عبدِالله ثلاثةَ آلافٍ وخمسَمِئةٍ، مبالغةً في الاحتياطِ لمالِ المسلمينَ، فقالَ بعضُ أصحابِهِ: هُوَ مِنَ المُهَاجِرِينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ؟ فقال عمر: إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ.

وقدْ فُطرَ الناسُ على الانجذابِ للمالِ، وحُبب إليهمْ تملكُه والسيطرةُ عليه، حتى أصبحَ سعيهم لكسبه جِبلَّة، قال عزَّ وجلَّ يصفُ الإنسانَ: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، أَيْ لَقَوِيٌّ فِي حُبِّهِ لِلْمَالِ.

وأصبح من الفتن المرتبطة بالمال أنْ لا يبالي الإنسان من أين اكتسبه، فتجدَه لاهثًا وراءه يبحث عنه في كل طريق مباح أو حرام، غيرَ عابئ أن يكون من الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ».

هل سمعت أيها الموظف الذي أنابك ولي أمر المسلمين عنه لتخدمهم بقِصَّةِ ابنِ اللُّتْبِيَّةُ؟

كان ابن اللُّتْبِيَّةُ رجلاً أمينًا استعمله النبي صلى الله عليه وسلم لجمع الصدقة، وربما استلطفه الناس للباقته وحسن حديثه، فكانوا يعطونه زكاة المال، ويهدونه فوقها، فلما وصل المدينة أدى الأمانة كاملة، وسلَّمَ للنبي صلى الله عليه وسلم زكاةَ المالِ دون نقصٍ، وأبقى الهدية معه، فقال صلى الله عليه وسلم: «فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا» ثُمَّ خَطَبَ في الصحابة رضي الله عنهم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ».

هل تأملت كيف غضب النبي من فعل ابن اللُّتْبِيَّةُ، مع أنه أدى ما طلب منه، وسلَّمَ ما اؤتمن عليه؟ فكيف يكون حالُ من ضيَّعَ الأمانةَ، وفرَّطَ في العملِ المطلوبِ منهُ؟

إن من الصور المؤلمة التي تتكرر مشاهدتها في العديد من المرافق الحكومية، تضييعَ الموظفينَ لوقتِ العملِ، بقراءةِ الصحفِ، أو الحديثِ مع الزملاءِ، أو النظرِ إلى الهاتفِ ونحوه، غيرَ عابئينَ بمصالحِ المسلمينَ التي اؤتمنوا عليها.

وبعضهم يستهلكُ ما رتَّبه وليُّ الأمرِ لحاجةِ العملِ منْ سياراتٍ ومعداتٍ وأوراقٍ وأقلامٍ ونحوها لقضاء حاجته الخاصة.

وبعضهم يبحث بعلاقاته عن الانتدابات الصورية، ومهام العمل الإضافية، ليأخذ من مال المسلمين العام، وهو لم يقدم لهم ما يقابله.

أين يذهب هؤلاء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

وإذا كان الاعتداء غير المباشر محرمًا، بل عقوبته النار والعياذ بالله، فكيف بالاعتداء المباشر على أموال المسلمين، بأكلها وتحطيمها وصرفها في غير ما يجب صرفها فيه من مصالحهم، وسد حاجاتهم، ورفعة شأنهم.

إن الخصومة بين يدي الله سبحانه أمر يخشاه الصالحون، والمخاصم في المال العام يوم الدين كثيرون، لا قبل للمرء بهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

اللهم قنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا الاستقامة على ما تحب وترضى، يسّر لنا حلالاً طيبًا تغنينا به عمن سواك، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد أيها المسلمون:

فإن شأن المال العام عظيم، ولكل واحد منا به علاقتان، علاقة عمل يؤديه في وظيفته الحكومية، وعلاقة انتفاع بالمرافق العامة كالحدائق والمستشفيات والمساجد والمدارس.

والواجب علينا في كلا الحالين حفظ الأمانة، وحسن أدائها، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.

وإن من تلبيس إبليس، تأويلَ بعض الناس لنفسه الولوغ في حقوق المسلمين بشبهات لا عبرة بها، فربما قال: إن هذه الأموال العامة تنتهك كثيرًا، وأنا من جملة الناس آكل ما يأكلون، وألبس ما يلبسون، وربما وضع بعض الأحاديث في غير محلها ليصبغ الحرام صبغة شرعية، فيأكل المال العام ويقول: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، وينسى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا».

عبد الله:

لا تسوف في التوبة، ولا تتأخر في الأوبة، بادر ألان بتغيير الحال، وإن كنت ابتليت بأخذ شيء ترى أنك لا تستحقه، فقد بادرت حكومة بلادنا المباركة وفقها الله بتخصيص حسابٍ مصرفيٍ، يتم التعاملُ مع المودِعِ فيهِ بمنتهى السرِّيةِ، وهو يستهدف موظفي الدولة الذين حصل منهم تقصيرٌ في الدوامِ أو أوقاتِ العمل وأيَّ شخص يريد إبراءَ ذمته تُجاه المالِ العامِّ عن أموالٍ أخذَها بغيرِ حقٍ، ومن المبشراتِ أنَّ كثيرًا منَ الناسِ بادروا إلى إبراء ذممهم، حتى وصلت المبالغ المودعة منذ إنشاء هذا الحساب إلى أكثر من ثلاثمئة وخمسة وسبعين مليون ريالاً.

فراقبوا الله في أفعالكم، وثقوا بموعود ربكم، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأحسنوا جوار نعم الله فإنها قل ما تحولت عن دار قوم فرجعت إليهم، ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

 

المرفقات

1702021433_حسابٌ مؤجلٌ ليومِ الحسابِ.docx

1702021434_حسابٌ مؤجلٌ ليومِ الحسابِ.pdf

1702021434_حسابٌ مؤجلٌ ليومِ الحسابِ للجوال.pdf

المشاهدات 986 | التعليقات 0