بين يدي العشر: عقد عمل مع المولى جل جلاله

محضي عبد المالك
1444/11/23 - 2023/06/12 21:09PM

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الملك العَلاَّم، ذي الفضْل والجود والإنعام، تفضّل علينا بأنْ جعَلَنا من خير أمَّة أُخرِجت للأنام، وبلّغنا برحمته أفضل الأيّام، وأشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهَدُ أنَّ سيّدنا محمّدًا عبدُه ورسولُه خيرُ مَن صلَّى وصام وحجَّ البيت الحرام. صلوات ربّي وسلامُه عليه وعلى آله الكِرام وصَحابته الأعلام، وعلى التّابعين ومن تبعهم والتزم سنّة نبيّنا -عليه الصّلاة والسّلام-.

أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون- حَقَّ التقوى، واعلَموا أنَّ الرّابح حقًّا مَن استَكثَر من الطّاعات، وتزوَّد بالباقيات الصّالحات، واستعدَّ لما هو آت، يقول ربّ البريّات: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)).

أيُّها المُباركون: حديثُنا اليوم سيكونُ مع رجال الأعمال خاصّة، لا أقصدُ أولئك الأغنياء أرباب التّجارات والمشاريع الدّنيويّة الزّائلة، ولا أصحاب العمارات المُرتفعة والمراكب الفارهة، وإنّما حديثنا سيكون مع رجال أعمال الآخرة.

ولأنّنا -معاشر المُسلمين- كقبلون على أيّام فاضلة، أيّامٌ أقسم الله بها، فقال: ((والفجر * وليال عشر))، وبيّن نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم- فضلها، فقال: "أفضلُ أيّام الدّنيا: العشر" -يعني عشر ذي الحجّة- [رواه البزّار بسند جيد والبيهقي بسند صحيح]، وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من أيّام العملُ الصّالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيّام" -يعني العشر الأُوَلُ من شهر ذي الحجّة-، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبِيل الله؟. قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله؛ إلا رجلٌ خرجَ بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" [رواه البخاري]. تصوّروا معي.. الجهادُ على فضله وعظيم مكانته، الجهادُ الذي قال فيه حبيبنا -صلّى الله عليه وسلم- عندما جاءه رجُلٌ يسأله: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟، فقَالَ: "لا أَجِدُهُ"، ثمّ قَالَ له: "هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ، فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ؟"، فقَالَ الرّجل: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟! [رواه البخاري]. أنظروا لهذا الفضل للجهاد، ومع ذلك الطّاعة في هذه العشر أفضل منه. 

إننا مقبلون على أيام رفع العُـلَـماء قدرَها وأمرَها، فكان من ذلك ما قاله ابن حجر رحمه الله: العشر أيّامٌ "تجتمعُ فيها من أمّهات الطّاعات ما لا يجتمع في غيرها من أيّام السّنة، ففيها الصّلاة والصّيام والحجّ والزّكاة والذّكر، ولا يتأتّى اجتماع هذه الطّاعات إلّا في هذه العشر"، أيّامٌ شمّر الصّالحون على سواعد الاجتهاد فيها. ولأنّنا في أيّامٍ هي من أعظم مواسم التّجارة مع الله، وجَـبَ أن نتوجّه بالخطاب إلى رجال أعمال الآخرة.

عباد الله: ربّنا –سبحانه- يريد لكلّ مؤمن أن يكون تاجرا رابحا إذا تعلّق الأمْرُ بالآخرة، ألم يقل ربّنا لنا: ((يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم)). فها هي سُوقُ التّجارة قائمة، والمُشتري هو المولى -جل جلاله-، والبائع هو كلّ واحد منّا، فمن ذا الذي يرفضُ التّجارة مع الله إذا كان الرّبحُ فيها مضمونْ، والأجر فيها غيرُ ممنونْ؟!.

فيا رجال أعمال الآخرة: ألا يكفي هذا الموسم خطرا أن أجر الطّاعة والعمل الصالح فيه أعظمُ من أجر الجهاد وملاقاة العدوّ وتعريض النّفس للموت، فكيف بعدها نُفرّط في هذا الرّبح وهذا الأجر؟!.

ألا فاعلموا أن رأس مالكم في هذه الأيّام مُحافظتُكم على صَلاتِكُم، فهي التي إذا صلُحت سيصلُحُ سائرُ العمل -بإذن الله تعالى-، فإيّاكم ثمّ إيّاكم من إضاعتها والتّهاون فيها هذه الأيّام، لما لها من عظيم الأجر من الملك العلّام، فقد قال ابن رجب -رحمه الله-: "إنّ مضاعفة حسنات فرائض العشر من ذي الحجّة أعظمُ عند الله من مُضاعفة فرائض رمضان، وأنّ مُضاعفة نوافل العشر من ذي الحجّة أعظم من مُضاعفة فرائض رمضان". فالزموا الفرائض والنوافل وقراءة القرآن، فكما ملأنا المساجد في رمضان، يجبُ أن نكونَ أشدَّ حرصا على مُلازمتها في هذه العشر، وكما فُتِحَت المصاحف في رمضان، فيجب أن نكون أشدّ اجتهادا في فتحها في هذه العشر، لما لذلك من عظيم الثواب والأجر.

يا تجّار الآخرة: اعلموا أنّ من رأس مالكم في هذه العشر الإكثار من ذكر الله تعالى، فقد قال نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم-: "ما من أيّام أحبّ إلى الله ولا أعظم عند الله العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيها من التّحميد والتّهليل والتّكبير" [أخرجه الطبراني]، فلا ينبغي لعاقل أن يغفل عن ذكر الله سبحانه عن التكبير المطلق طيلة هذه العشر، وليبشر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "ما أهلّ مهلّ قطّ ولا كبّر مكبّر قطّ إلا بُشّر"، قيل: "بالجنّة؟"، قال: "نعم" [أخرجه الطبراني]. فمن فعل ذلك بشرته الملائكة عند الاحتضار، وفي قبره، وحين يبعث، بأنّ له الجنة بإهلاله وتكبيره.

يا تجّار الآخرة: اعلموا أنّ من رأس مالكم في هذه العشر: الإكثارُ من الدّعاء لله -سبحانه وتعالى-، فهي أيّام مباركات ولا يُحرَمُ فيها من الدّعاء إلا مغبون، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: "من فُتح له منكم باب الدّعاء فقد فُتِحَت لهُ أبوابُ الرّحمة" [سنن الترمذي]، وكان أحد السّلف يقول: "لَخَشيَتي أن أُحرَمَ الدّعاء أشدّ من خَشيَتي أن أُحرَمَ الإجابة". فالزموا الدّعاء، فإنّه ما خاب من لزم الدّعاء أبدا.

يا تجّار الآخرة: إنّكم في موسم التّجارة الرّابحة؛ وإنّ البضائع الرّائجة والسّلع المطلوبة فيها هي الأعمال الصّالحة؛ من صيام وصدقة وذكر ودعاء واستغفار وتوبة. فإيّاكم ثم إيّاكم والغفلة.. فكم حرمتنا الغفلة من اغتنام فرص الخيرات في أوقاتها، فينبغي أن نغتنم هذه العشر بالتّنبّه واليقظة حتى لا تفوت مجّانا فنتحسّر ونندم بعدها: ((كلا إذا ذكت الأرض دكّا دكّا * وجاء ربّك ولملك صفّا صفّا * وجيء يومئذ بجهنم * يومئذ يتذكّر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول يا ليتني قدّمت لحياتي)).

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، استغفروه يغفر لكم إنّه هو الغفور الرّحيم، فيا فوز المستغفرين

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامنتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه.

أما بعد، فيا عبد الله: إذا أردت الفلاح والنّجاح في هذه العشر، فما عليك إلّا أن تكثر فيها من الطّاعات والعبادات والتزوّد بعظيم الأجر: عليك بالتّوبة والإقلاع عن المعاصي وجميع الذّنوب في هذه الأيّام.
اعقد العزم فيها على الصيام، فصمها او صم ما تيسّر منها، خصوصا يوم عرفة -ولو وافق يوم السبت-؛ فقد قال نبيّنا ﷺ: "صيام يوم عرفة.. أحتسب على الله أن يكفّـر السّنة التي قبله والتي بعده" [رواه مسلم]، فكيف يضيّع هذه الفرصة عاقل؟!..

اعزم على شراء الأضحية إن كنت قادرا عليها. لا تتهاون فيها، ولا تُؤثِر غيرها من المشاريع عليها، فهي سنّة أبينا إبراهيم، وهي من أهم أبواب التجارات الرابحة في هذه العشر، وقد حثّ عليها نبيّنا لما فيها من الأجر العظيم، فقال -صلى الله عليه وسلم- لمّا سئل عن الأضاحي: "سنة أبيكم إبراهيم"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟!، قال: "بكل شعرة حسنة". [رواه ابن ماجه والبيهقي]. وقال –عليه الصّلاة والسّلام-: "ما عَمِل ابن آدم يوم النّحر عملاً أحبّ إلى الله من إراقة دم؛ وإنّه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنّ الدّم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا" [أخرجه الترمذي]

هي شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، جعلها الشّرع شعارا على إخلاص العبادة لله وحده وامتثال أوامره ونواهيه، إلاّ أنّ النّاس في زمننا هذا انقسموا فيها صنفين: أهل عبادة، وأهل عادة، فما أكثر ما نسمع في مجالسنا اليوم من يقول: (لن أترك الأهل والأولاد بلا عيد هذا العام)، فيستحضر نيّة إسعاد الأولاد، ويغفل عن نيّة الامتثال والتّقرّب بها إلى ربّ العباد.

فيا عباد الله: الأضحية ليست لحمًا يُعْطَى للأهل، أو يُتباهي أمام الجيران بحجمها أو ثمنها، بل هي عبادة يتقرَّب بها المسلم إلى الله -جل وعلا-، شعاره في ذلك قوله -عزّ وجلّ-: ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ))، فينبغي أن تُصحّح النّية قبل اقتنائها، فربّنا -جلّ وعلا- يقول: ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)).

والأضحية سُنَّة مؤكَّدة في حقّ مَن يجد ثمنها، لا لِمَن يجد عنتا ومشقّة في اقتنائها، فغير القادر على ثمنها إذا كانت له نيَّة صحيحة في إرادة التّقرّب إلى الله بالذّبح فإنَّه سينالُه أجرُها وإن لم يذبح، فقد صحّ عنه –صلى الله عليه وسلم- أنّه ذبح كبشين وقال: "اللّهمَّ هذا عنِّي وعمَّن لم يضحِّ من أمَّتي". [رواه أبو داود وأحمد والحاكم].

ألا فلنتّق الله -عباد الله-، ولنصحّح جميعا نيّاتنا مع الله، ولنعزم على اغتنام هذه الأيّام المباركات في الطّاعات والإكثار من ذكر الله، فنكون بذلك من رجال الأعمال الناجحين في تجارتنا مع الله، ولنكثر في هذه السّاعة من يوم الجمعة من الصّلاة والسّلام على رسول الله، فقد أمرنا بذلك المولى -جلّ في علاه-، فقال سبحانه قولا كريما: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما))، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، اللهم أعنّا في هذه العشر على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم واجعلنا فيها من الفائزين، ونعوذ بك أن نكون فيها من المحرومين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار.

المرفقات

1686593352_بين يدي العشر عقد عمل مع المولى جل جلاله.doc

المشاهدات 1305 | التعليقات 0