الفساد التجاري
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكَفانا بفضلَه عَمَّنْ سِواه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ولا نَعبدُ إلا إياه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ومُصطفاهُ، صَلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن والاهُ، وسَلمَ تَسليماً كثيراً، أمَّا بَعدُ:
تراهُ في المَسجدِ يُصلي خَاشعاً، سَاجداً ورَاكعاً؛ ثُمَّ تراهُ يَتلو القرآنَ مُتأثراً بالآياتِ، ويعلو وجهَه البهاءُ والجلالُ، وقبلَ المغربِ يُخرجُ من جيبِه تَمراتٍ؛ ليُفطرَ بعدَ صيامِ يومٍ من الأيامِ الحارةِ الطِّوالِ، فتقولُ في نفسِك: (سبحانَ من وفَّقهُ وأعانَه على فعلِ الخيراتِ، وبلوغِ الكمالِ).
ثُمَّ تخرجُ إلى السُّوقِ فترى ذَلكَ الرَّجلَ في دُكانِه أو مكتبِه فإذا بهِ يكذبُ، ويغشُّ، ويرتشي، ويَتَستَّرُ، ويَخدعُ، ويَظلمُ، ويأكلُ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ، وإذا نصحَه ناصحٌ أو وعظَه واعظٌ، قالَ مُستكبراً: (يا هذا، السُّوقُ لا يَصلحُ فيه الأخلاقُ والحياءُ، ولا يحتاجُ إلا إلى مَكرٍ ودَهاءٍ، وينبغي إذا كُنتَ في السُّوق أن تضعَ نَصبَ عينيكَ الحكمةَ العظيمةَ: إن لم تكنْ ذئباً أكلتكَ الذِّئابُ، ودعْ العبادةَ والقرآنَ إذا خرجتَ من مسجِدكَ عِندَ البابِ)، فتفركُ عينَيكَ مُستغرباً، وتقولُ في نفسِك مُتعجِّباً: (أهو هو؟)، فيأتيكَ الجوابُ مُتأسفاً: (هو هو)، أيُعقلُ أن يَكونَ هذا في أسواقِ المُسلمينَ؟، ومَن يُصدِّقُ أنَّ هؤلاءِ هم أتباعُ الصَّادقِ الأمينِ؟.
أتعلمُونَ أنَّهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ قد اشتغلَ بالتَّجارةِ من عُمُرِ الثانيةَ عشرةَ في أولِ رِحلةٍ تجاريةٍ مع عمِه أبي طالبٍ إلى الشَّامِ، ومَكثَ في السُّوقِ حَتى تجاوزَ الأربعينَ من عُمُرِه، وتنقَّلَ في رِحلاتٍ تجاريةٍ بين البُلدانِ، وخالطَ كِبارَ التُّجارِ في كثيرٍ من الأسواقِ، واكتسبَ الخِبرةَ العظيمةَ في مهاراتِ التِّجارةِ، وأصبحَ معروفاً في أسواقِ مكةَ، والأسواقِ القريبةِ؛ كسوقِ عُكاظٍ والمِجَنَّةِ وذي المَجَازِ، وكَانَ لا يُعرفُ إلا بالصَّادقِ الأمينِ.
لقد كانَ سمحاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، بل وكانَ خيرَ شريكٍ؛ فعَن السَّائِبِ بنِ أَبي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ: أَتيتُ النَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَجعلُوا يُثنونَ عَليَّ، ويَذكروني -أي: يَذكرُ الناسُ محاسِنهَ ويذْكرونَه بالخيرِ-؛ فَقَالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (أَنا أعلمكُم بِه)، فَقَالَ السَّائبُ: صَدقتَ بِأبي وَأمي كُنتَ شَرِيكي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكنتَ خيرَ شريكٍ؛ كُنتَ لَا تُداريني -أَيْ: لا تُخالفُني-، وَلَا تُماريني -أَيْ: لا تُجادلُني.
إذاً فقَبلَ أن يكونَ نبيَّاً عظيماً، كانَ تَاجراً كَريماً، وبعدَ ذلكَ أتاهُ الوحيُّ من ربِّ العالمينَ بالآياتِ والأحكامِ الحكيمةِ، في تقريرِ المعاملاتِ الماليَّةِ، وتعزيزِ الأخلاقِ التِّجاريَّةِ، وتقويةِ المراقبةِ الذَّاتيةِ، ثُمَّ يأتي من يأتي ويقول ببساطةٍ: (ما العلاقةُ بينَ الدِّينِ والتِّجارةِ؟).
فهل جاءَ الأنبياءُ إلا بصلاحِ الدُّنيا والآخرةِ؟، فها هو شعيبٌ عليه السَّلامُ يمشي في السُّوقِ ناصحاً قومَه: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فأمرَهم بالوفاءِ بالكيلِ والميزانِ، وأن لا يَبخَسوا النَّاسَ أشياءَهم، وأخبرَ أن هذا هو سببُ فسادِ الأرضِ، فيُجيبونَه بهذه الشُّبهةِ: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)، شبهةُ قديمةٌ: ما دَخلُ الدِّينِ بالأموالِ والاقتصادِ؟.
بل كَانَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُتابعُ التِّجارةَ بنفسِه، ويقومُ بحملاتٍ تفتيشيةٍ في السُّوقِ، فَمَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟)، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)، هذا كلامُ الأنبياءِ، في تنظيمِ البيعِ والشِّراءِ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا، وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ؛ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ الذِي أَحَلَّ لِعِبَادِهِ البَيْعَ والشِّرَاءَ، وجَعَلَهُما سَبَباً مِنْ أَسْبَابِ اليُسْرِ والرَّخاءِ، وطَرِيقاً مَشْروعاً لِلْرِّبْحِ والثَّراءِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، تَاجَرَ فَعُرِفَ بِالصِّدقِ والأَمَانَةِ، ونَهَى عَنِ الجَشَعِ والخِيانَةِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَنْ تَبِعَهم بِإحْسَانٍ، أَمَّا بَعْدُ:
ولما كانتْ التِّجارةُ لا تقومُ إلا بالتَّاجرِ الصَّادقِ الأمينِ المستقيمِ، اسمعوا كيفَ حثَّ الإسلامُ على هذا الأمرِ العظيمِ: فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ قَالَ: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ)، فهل هناكَ مُحفِّزٌ لأمانةِ وصدقِ التَّجارِ مثلُ هذا؟.
لكنْ المُصيبةُ عندما يرى بعضُ التَّجارِ مُصطلحَ الحلالِ: أنَّه أيُّ طَريقةٍ يَحصلُ بِها الأرباحُ وتَكثرُ بِها الأموالُ، وأصبحَ من شِبهِ المُتعارفِ عليه، أنَّكَ إذا أردتَ لقمةَ حلالٍ، فليسَ لكَ مكانٌ في سوقِ المالِ، وإذا كُنتَ من الذينَ عن أكلِ الحرامِ يتوَّرعونَ؛ (قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)، ونسوا أو تناسوا، قولَه تَعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
فيا أيُّها المواطن: ليسَ لكَ عذرٌ اليومَ ألَّا تُبلِّغَ عن أيِّ فسادٍ تجاريٍّ؛ فالدولةُ تحاربُ الفسادَ بجميعِ أنواعِه، والواقعُ يشهدُ بذلك، فواجبُنا جميعاً أن نقفَ وقفةً واحدةً ضدَّ الفسادِ والفاسدينَ.
اللَّهُم َّاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ اقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِينَ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالدِينَا وَلِمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكُ عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّنَا ضَالُّونَ فَاهْدِنَا، وَعَارُونَ فَاكْسِنَا، وَجَائِعُونَ فَأَطْعِمْنَا، اللَّهُمَّ أَصْلِحَ قُلُوبَنَا وَأَعْمَالَنَا، اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلَاةَ أَمْرِنَا وَوُلاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ.
المرفقات
1634096585_الفساد التجاري.pdf
1634097060_الفساد التجاري.docx