العدلُ في القولِ
محمد محمد
العدلُ في القولِ-26-6-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
نَحتَاجُ اليَومَ وَنَحنُ فِي زَمَنٍ نَرَى فِيهِ إطلاقِ العِنَانِ للِّسَانِ، وَأَصبَحَ الكَثيرُ يَحكُمُ عَلَى النَّاسِ دُونَ عِلمٍ أَو حِكمَةٍ أَو بيَانٍ، نحتاج ُأَن نَتَذَكَّرَ قَولَ اللهِ-تَعَالى-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ)، كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ، تَرسِمُ مَنهَجًا مُتَكَامِلًا فِي الكَلامِ عَلَى الآخَرِينَ، سَواءً كَانوا أَقَاربَ أَو خُصُومًا أَو حَتى أَعَداءً فِي الدِّينِ، فَالعَدلُ فِي القَولِ والحُكمِ عَلى الجَميعِ، هِي شَرِيعَةُ دِينِ اللهِ العَظيمِ، وَمَن جَارَ فِي القَولِ فَقَد ظَلَمَ، وَمَن عَدَلَ فَقَد أَحسَنَ وسَلَمَ.
أَحيَانًا نـَميلُ فَنُبَالِغُ في مَدْحِ مَّنْ نُـحِبُّ، ونبالغُ كذلكَ في ذمِ منْ نَكرَهُ، ولِذَلِكَ جَاءَتْ الآيَاتُ فِي التَّحذِيرِ مِن الظُّلمِ، والأَمرِ بالعَدلِ حَتى مَع بُغضِ الخَصمِ، فَقَالَ-سُبحَانَهُ-: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)، ولِذَلِكَ يَنبَغي لَنَا أَن نُعيدَ النَّظرَ فِي أَقوالِنَا وأَحكَامِنَا عَلى النَّاسِ.
هَا هُو رسولُ اللهِ-عليه الصلاةُ والسلامُ-وَهُوَ مُحَاطٌ بِشُعَرَاءِ الإسلامِ الكِبَارِ، يَشهَدُ بِالعَدلِ لشاعرٍ مشركٍ قالَ كلمةَ حقٍ فَيَقولُ: "أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها شَّاعِرٌ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلا اللَّهَ باطِلُ".
وَجَاءَ تَحذِيرُهُ للأُمَّةِ عَن قَولِ الظُّلمِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَخبَارِ، بَل أَخبَرَ أَنَّهُ مِن أَكثَرِ أَسبَابِ دُخُولِ النَّاسِ النَّارَ، فَقَالَ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ، قيلَ: أيَكْفُرْنَ باللَّهِ؟ قالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ (يَجْحَدْنَ فضلَ الزوجَ)، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ".
وَهَذَا المَنهَجُ فِي القَولِ بِالعَدلِ والإنصَافِ، والحَكمِ عَلى النَّاسِ بِلا ظُلمٍ ولا إجحَافٍ، انتَقَلَ إلى الصَّحَابَةِ الكِرامِ-رضيَ اللهُ عنهم-، فَكَانَ قَولُهم فِي غَايةِ العدلِ، قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "سَـمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ (الغربُ والأُورُبِيونَ) أَكْثَرُ النَّاسِ"، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ (انتبه لكلامِك)، قَالَ: أَقُولُ مَا سَـمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ"، سُبحَانَ اللهِ، هَذَا الكَلامُ لَيسَ صَادِرًا عَن رَجُلٍ قَد بَهَرَتهُ الحَضَارةَ الرُّومَانيَّةَ، ولَيسَ مُتَزَلِّفًا منافقًا لِلقُوى العُظمَى الغَربيَّةِ، وإنـَّمَا هُو عَمرُو بنُ العَاصِ قَاهِرُ الرُّومِ فِي المَيدانِ، وعِندَهُ مِنهُم الكثيرُ مِن الأَسرى والعبيدِ، وَلكنَّهُ قَولُ العَدلِ فِيمَا كَانَ فِيهِم مِن خِصالِ الإحسَانِ.
واسـْمَعُوا إلى مِثَالٍ لِمَنْ قَالتِ العَدلَ فِي ضَرَّتـِهَا، فَعَصَمَهَا اللهُ-تَعَالى-بإيـمَانِهَا وَصَفَاءِ فِطرَتِهَا، تَقُولُ أمُنا عَائشَةُ-رَضِيَ اللهُ عَنهَا-فِي حَديثِ الإفكِ: "وكانَ رَسولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-يَسْأَلُ زَيْنَبَ بنْتَ جَحْشٍ-رضيَ اللهُ عنها-عن أمْرِي، فَقَالَ: يا زَيْنَبُ، ما عَلِمْتِ؟ ما رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، أحْمِي سَمْعِي وبَصَرِي، واللَّهِ ما عَلِمْتُ عَلَيْهَا إلَّا خَيْرًا، وهي الَّتي كَانَتْ تُسَامِينِي (تُضاهيني وَتُفاخِرني) بِـجَمالِها وَمَكانتِها عِندَ النَّبيِّ-صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بالوَرَعِ (بِتَقْوَاها وبُعْدِها عن الحرامِ)"، وَهَكَذا يَكونُ العَدلُ فِي القَولِ بَينَ الزَّوجَاتِ، وَعَدَمُ اقتِنَاصِ الفُرَصِ لإفسَادِ العَلاقَاتِ.
ثُمَّ انتَقَلَ هَذا العَدلُ فِي القَولِ إلى السَّلَفِ الصَّالحِ-رحمَهم اللهُ تعالى-، فَلا يَجُورونَ فِي الحَكمِ عَلى أحَدٍ، سَواءٌ الذَّامُ مِنهُم والمَادِحُ، فَهَذَا عَليُّ بنُ المَدينيِّ-أَميرُ الـمُحَدِّثينَ، وشيخُ البخاريِ رحمهما اللهُ تعالى-يُسأَلُ عَن حَالِ أبيهِ فِي رِوايةِ الحَديثِ، فَيَقُولُ: "اسأَلُوا غَيرِي، فَقَالوا: سَأَلنَاكَ، فَأَطرَقَ (سكتَ قليلًا)، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ وَقَالَ: هَذَا هُوَ الدِّينُ، أَبي ضَعيفٌ في الحديثِ"، هَكَذَا تَرى التَّطبيقَ العَمليَّ لِقَولِهِ-تَعالى-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ)، دُونَ مُـحَاباةٍ أَو مُـجَامَلةٍ لِلأَهلِ، وإنـَّمَا هُو الحُكمُ بالحَقِّ والعَدلِ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فقَد يُسرِفُ الإنسَانُ أَحيَانًا في ذَمِّ أَحَدِ الرِّجَالِ، بِـحُجَّةِ أَنَّهُ ظَالِمٌ أَو فَاسِقٌ أَو ضَالٌ، ولَكِنْ يَزيدُ فِي القَدرِ الـمَسْمُوحِ لِلمَظلُومِ، حَتى يَكُونَ الـمَظْلومُ هُوَ الجَائرَ الظَالِمُ الـمَلُومَ، سَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ-رَحِمَهُ اللهُ-رَجُلًا يَسُبُّ الْحَجَّاجَ الثَّقَفَيَّ، فَقَالَ: "مَهْ أَيُّهَا الرَّجُلُ (كُفَّ عَنِ السَّبِّ) إِنَّكَ لَوْ وَافَيْتَ الْآخِرَةَ كَانَ أَصْغَرُ ذَنْبٍ عَمِلْتَهُ قَطُّ أَعْظَمَ عَلَيْكَ مِنْ أَعْظَمِ ذَنْبٍ عَمِلَهُ الْحَجَّاجُ (سَتُحَاسَبُ عَلَى ذُنُوبِكَ أنتَ، ولَيسَ على ذُنُوبَ الحَجَّاجِ)"، ثُمَّ قَالَ لَهُ كَلِمَةً نَحتَاجُ أَن نُعَلِّقَهَا فِي مَجَالسِنَا، قَالَ: "وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ حَكَمٌ عَدْلٌ، إِنْ أَخَذَ مِنَ الْحَجَّاجِ لِمَنْ ظُلِمَ شَيْئًا، فَسَيَأْخُذُ لِلْحَجَّاجِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَلَا تَشْغَلَنَّ نَفْسَكَ بِسَبِّهِ"، وَصَدَقَ-رَحِمَهُ اللهُ-، فَالعَدلُ فِي القَولِ حَتى فِي الكَلامِ عَن الظَّالـمِينَ.
فَعَليكَ بِالعَدلِ والقِسطِ فِي قَولِكَ وَحُكمِكَ، ولَو كَانَ عَلى نَفسِكَ أَو أَبيكَ أَو أُمِّكَ، يَقُولُ-عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، وَلستَ مُلْزَمًا أَن تُعَلِّقَ عَلى كُلِّ الأَخبَارِ، ولا أَن تُشَاركَ فِي كُلِّ الكَلامِ الذي يُثَارُ، وإيَّاكَ أَن تَدفِنَ مَحَاسِنَ غيرِكَ ومَآثِرَهم بِسَبِبِ كُرهِكَ البَاغيِّ، وإيَّاكَ أَن تَتَجَاهلَ عُيُوبَ غيرِكَ ومساوِئَهم بِسَبِبِ حُبِّكَ الطَّاغيِّ، وإنـَّمَا عَليكَ بِوَصيَّةِ اللهِ-تَعَالى-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ).
يَنَامُ ذُو العَدلِ إنْ يَحكُمْ بِلا أَرَقِ*
وَصَاحِبُ الجَورِ، حُلوَ النَّومِ لَم يَذُقِ
سَفِينَةُ العَدلِ لِلشُّطآنِ وَاصِلَةٌ*
وَزَورَقُ الظُّلمِ مَدفُوعٌ إلى الغَرَقِ
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.
اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبالمسلمينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.
اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.
اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والمسلمينَ والمسالِمين.
اللَّهُمَّ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1735226553_العدلُ في القولِ-26-6-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1735226553_العدلُ في القولِ-26-6-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf