الجَرَادُ جُنْدُ اللهِ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1442/07/20 - 2021/03/04 11:47AM

الحمدُ للهِ ربِ كلِ شيءٍ ومليكِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ صلى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ:

معاشِرَ المُؤمِنينَ: ألَا تَعْجَبُونَ؟! ألاَ تَتَفكَّرونَ؟! في هَذَا الُجنْدِ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ، خِلْقتُهُ ضعيفةٌ، لكنَّ أضرارَه مُخِيْفَةٌ. ليسَ كُورونا، وكُورونا أدهَى وأمَرَّ، ولكنُه هذا الجرادُ المِليونيُ الذي انتَشَرَ.

(فَإِذَا رأيتَ عساكِرَه قَدْ أَقْبَلَتْ أبصرتَ جُندًا لَا يَحْمِي مِنْه عَدَدٌ وَلَا عُدَدٌ. يَنْسَابُ عَلَى الْأَرْضِ كالسَّيلِ، فيغشى السَّهلَ والوعرَ، حَتَّى يستُرَ نورَ الشَّمْس بِكَثْرَتِه، ويَسُدَّ وجهَ السَّماءِ بأجنحتِهِ، ويَذَرُ الْأَرْضَ قفرًا مِنْهَا؟!

وَهَذَا مِنْ حِكْمَتِهِ –سُبْحَانَهُ- أَنْ يسلِّطَ الضعيفَ مِنْ خَلْقِه عَلَى القويِّ، فَيَنْتَقِمَ بِهِ مِنْهُ، ليُذكِّرَنا تَعَالَى بإرادَتهِ التي لا مرَدَّ لها، كمَا قالَ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([1]).

فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ، فأَكَلَ أَبْوَابَهُمْ حَتَّى أَكَلَ مَسَامِيرَهَا([2]).

وأَكَلَ زُرُوعَهُم وَطَعَامَهَم، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ لَيَبْنِيْ لِطَعَامِهِ الْأُسْطُوَانَةَ المُرْتَفِعَةَ، فَإِذَا صَعِدَ لِيَأْكُلَهُ وَجَدَهُ مَلْآنَ دَبًى([3]).

فعذَّبَ –سبحانَه- جُنْدَ فرعونَ- بأضعَفِ جُنْدِهِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} واُنْظُرْ كَيْفَ قَرَنَ الْجَرَادَ مَعَ حَقارَتِهِ، إلَى الطُّوفَانِ مَعَ غَلَبَتِهِ.

أتَدْرِيْ لِمَ عذَّبَهمْ بِالْجَرَادِ والقُمَّلِ، وهُوَ قَادِرٌ أَن يُعذّبَهمْ بِقَلْبِ الْأَرَضِينَ، أوْ بالسِّبَاعِ والثَعَابِينَ؟! أَرَادَ أَنْ يُعرِّفَهُمْ عَجْزَهُم، ويُذِلَّهمْ ويَدُلَّهُمْ بأذَلِّ خَلْقِهِ عَلَى أَنَّ القويَّ مَنْ قَوّاهُ وَأَعَانَه، وَالضَّعِيفَ مَنْ ضَعّفَه وَأهَانَهُ([4]). فَسُبْحَانَ مَنْ يُهْلِكُ القويَّ الْأَكُولَ، بِالضَّعِيفِ الْمَأْكُولِ.

ألَا فلنعتبرْ بهذهِ الجرادَةِ وخِلْقَتِها وفِعْلَتِها. فإنَّ ابتداءَ خَلْقِها يُقَالُ منَ البَحرِ! قَالَ ابْنُ عَمْرِو وكَعْبٌ: «إِنَّمَا هُوَ نَثْرُ حُوتٍ»([5]).

وقَدْ خَلَقَ اللهُ لَهَا ستَّ أَرْجُلٍ، وَطَرَفا رِجْلَيْهَا مِنشارانِ. وَفِيهَا شَبَهٌ مِنْ عَشَرَةِ حَيَوَانَاتٍ: وَجْهُ فَرَسٍ، وَعُنُقُ ثَورٍ، وَصَدَّرُ أَسَدٍ، وَبَطْنُ عَقْرَبٍ، وَذَنَبُ حَيّةٍ، وَعَيْنَا فِيلٍ، وقَرْنَا إيِّلٍ، وجَناحَا نَسْرٍ، وفَخِذا جَمَلٍ، وَرِجْلا نَعَامَةٍ([6]).

وَلُعَابُها سُمٌّ عَلَى الْأَشْجَارِ. وفي أمثالِ العربِ: أفْسَدُ مِنَ الْجَرَادِ([7]). وكميةُ الطعامِ الَّتِي تأكلُها الجرادةُ يومياً تُعادِلُ وَزْنَها.

ومِنْ عَجائِبِها أنَّها تَغْمِزُ ذَنَبَها في الأرضِ؛ لتغرِسَ بَيْضَها وتَدفِنَهُ حتى يَتَتَامَّ نُموُهُ، ويَعجَزَ عنه عَدوُهُ. فيا سبحانَ الخالقِ الذي جعلَ كائِنًا يَنْبُتُ منَ الأرضِ.

فيَخرُجُ منْ بَيضِهِ دَبَىً أبْيَضُ، ثم أزْعَرُ يَصْفَرُّ، وخَيْفانُ بينَ الحُمْرَةِ والصُفْرَةِ، ثم أحمَرُ مِكْنٌ ممْتَلئٌ بَيْضًا. يَغْرِزُ بَيضَهُ بِأَيَّامٍ قَلِيلِةٍ، وَيُفَرِّخُ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، وَيَطِيرُ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ([8]).

ومَنْظَرُهُ وهو يَدْبِي على الأرضِ مَهُولٌ، يُذَكِّر وَصَفَ اللَّهِ النَّاسَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} مُنتظِمِينَ {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} خَلْفَ الْمَلَكِ إسْرَافِيلَ إلَى أَرْضِ المَحْشَرِ([9]).  قَالَتْ رَابِعَةُ: مَا رَأَيْتُ جَرَادًا قَطُّ إِلَّا ذَكَرْتُ الْحَشْرَ([10]).

وهلْ أكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجَرَادَ؟

والجوابُ أنهمْ غَزَوْا مَعَهُ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، في كُلِّهِنَّ كَانُوا يَأكُلُونَ مَعَهُ الجَرَادَ([11]). وقَالَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، الْحُوتُ وَالْجَرَادُ([12]).

ورُوِيَ أنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ رَبَّهَا لَحْمًا لَا دَمَ فِيهِ، فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ([13]).

وكُنَّ أَزْوَاجُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَادَيْنَ الْجَرَادَ فِي الْأَطْبَاقِ([14]). وَكُنَّ يَقْلِيْنَهُ بِالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ، وَيُفَضِّلْنَهُ عَلَى السَّمَكِ([15]).

وأما الصحَابةُ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فبَعْضُهُمْ لَا يَأْكُلُ الْجَرَادَ؛ لِأنَّهُ يَتَقَذَّرُهُ، كابْنِ عُمَرَ([16]). وأمَّا أبُوهُ عُمَرُ فَقَدْ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً –أيْ إنَاءًا- نَأْكُلُ مِنْهُ([17]). وقَالَ مَرَّةً: أَشْتَهِي جَرَادًا مَقْلِيًّا([18]). وقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَشْتَرِيهِ وَنُكْثِرُ، وَنُجَفِّفُهُ، فَنَأْكُلُ مِنْهُ زَمَانًا([19]).

وقَالَ التابِعِيُّ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: لَقَصْعَةٌ مِنْ جَرَادٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ([20]).

ومِن أَحكَامِ الْجَرَادِ قَوْلُ عَطَاءٍ: إِنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصَاكَ فَقَتَلْتَهُ، فَمَاتَ فَكُلْهُ([21]).

وإذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ جَرَادَةً فَلْيَتَصَدَّقْ بِتَمْرَةٍ. قَالَ عُمَرُ: ولَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ([22]).
الحمدُ للهِ مغيثِنا، ومُعْطِيْنَا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا، أما بعدُ:

فَقَدْ باكَرَنَا وَسْميٌ ناشِرٌ باذِرٌ، ثُمَّ خَلْفَهُ رَبِيْعٌ وعَبيرٌ، كَأنهُ تِبْرٌ ولؤلؤٌ مَنْثُورٌ؛ ثُمّ أَتَتْنَا غيومُ جَرَادٍ منتشِرٍ، قَرَّتْ وَقليلاً ضرَّتْ؛ لُطفًا من اللهِ ثم مُكافحةً منْ وَزَارةِ البِيئةِ والمِياهِ والزراعةِ، وربَّما كَثْرَةُ عُشْبِ الأَرْضِ قد أغْنَتْهُ عَنِ المَحَاصيلِ.

 فسُبْحَانَ رَبِّ الْجَرَادِ وَرَازِقِهِ، إِذَا شَاءَ بَعَثَهُ رِزْقًا لِقَوْمٍ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى قَوْمٍ بَلَاءً([23]). أكَلَ مَا وَجَدَهُ، وأَكَلَهُ مَنْ وَجَدَهُ. فهَلَّا تفكّرتَ فِيمَا جَعَلَهُ عَلَيْك عَادِيًا أنْ جَعَلَهُ لَك غاذيًا؟!

·       فاللَّهُمَّ خُذْ بِأَفْوَاهِ هذَا الجَرَادِ، عَنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ([24]).

·       وَلَا تَكِلْنَا إلَى حَوْلَنَا وقُوَّتِنَا. اللّهُمّ ادْفَعْ عَنّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ سِوَاك.

·       اللَّهُمّ اجْبُرْ مُصِيبِةَ مَنْ لَحِقَتْهُ مِنهُ أضرارٌ، وَتَفْضَّل عَلَيْه بِالْخَلَفِ الْعَاجِلِ المِدرارِ.

·       اللهمَ أعنَّا على أنْ نشكُرَكَ على لُطفِكَ في بلائِكَ، وأن علمتَنا سبيلَ دفعهِ، ورفعهِ.

·       اللهمَ لكَ الحمدُ على تَتَابُعِ بركاتِك منَ السماءِ، وبَديعِ نَبْتِكَ في الرياضِ والفِياضِ.وإنه لاغِنَى لنا عنْ مَزيدِ فضلِكَ.

·       اللهم سلِّمْنا إلى رمضانَ ونحنُ في إيمانٍ وأمنٍ وصحةٍ ورغدٍ.

·       اللهمَ احفظْ دينَنَا وأعراضَنا وأولادَنا وتعليمَنا وصحتَنا وحدودَنا وجنودَنا.

·       اللهمَ وآمنْ أوطانَنا، واحفظْ وسدِدْ إمامَنا، ووليِ عهدِهِ.

·       اللهمَ صلِ وسلِمْ على نبيِنا محمدٍ.



([1])مفتاح دار السعادة لابن القيم ط عالم الفوائد (2/ 717)
([2])العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/ 1791) والمجالسة وجواهر العلم (3/ 94)
([3])تفسير الطبري = ت شاكر (13/ 59)
([4])ا بتصرف واختصار من لحيوان للجاحظ (5/287 - 300)
([5])مصنف عبد الرزاق الصنعاني (8752) (24580 )
([6])نهاية الأرب في فنون الأدب (10/ 293) وفتح الباري لابن حجر (9/ 620).
([7])مجمع الأمثال (2/ 84).
([8])موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (2/ 233) ومجلة لغة العرب العراقية (6/ 501).
([9])معالم بيانية في آيات قرآنية (18/ 2)
([10])شعب الإيمان (899)
([11])صحيح البخاري (5495) مسلم ( 1952)
([12])مسند أحمد (5723) سنن ابن ماجه (3314 )
([13])المعجم الكبير للطبراني (7631 )
([14])مصنف عبد الرزاق الصنعاني (8763) عن أنس. وفي معجم ابن الأعرابي (2/ 777) قَالَ يَزِيدُ: فَقُلْتُ لِأَبِي سَعْدٍ: سَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
([15]) الفوائد الشهير بالغيلانيات لأبي بكر الشافعي (1/252) والسنن الكبرى للبيهقي (19000)
([16])مصنف ابن أبي شيبة (24578 )
([17])موطأ مالك ت عبد الباقي (1961)
([18])مصنف ابن أبي شيبة (24569)
([19])السنن الكبرى للبيهقي (18998)
([20])مصنف ابن أبي شيبة (24570 )
([21])مصنف عبد الرزاق الصنعاني (8670)
([22])موطأ مالك ت عبد الباقي (236)
([23])شعب الإيمان (12/ 412)
([24])سنن ابن ماجه (3221)

المرفقات

1614858423_الجَرَادُ جُنْدُ اللهِ.pdf

1614858433_الجَرَادُ جُنْدُ اللهِ.docx

المشاهدات 1654 | التعليقات 0